الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليالي المنسية (رواية) الجزء 32

تحسين كرمياني

2014 / 10 / 12
الادب والفن


23تموز/1981

قاسية هي النخيل في تموز،تضيف حرارة تمرها لتحرق الهواء الراكد،جدول الماء وفر لنا وجبات تبريد متواصلة،يأتي الماء صاعداً مع القمر،ما سر هذه العلاقة الطردية ما بين قمر في السماء وماء في الشط،كلما يظهر القمر يحصل المد،ويجزر بغيابه،لابد من تواجد أغنية كلماتها شعاع،ولحنها صمت،فوق مستوى معلومات البشر،أنها أغنية الوجود،وحده الخالق وظفها بدرايته البديعة وعبقريته المتفردة لتتعاشق الأشياء الكونية،يصعد الماء جالباً معه أكوام السمك،فاهتدينا لوسيلة لصيدها.
جالس على الجرف،ما بيني وبين الشط ساتر ترابي،يمكن لقنّاص معادي أن يرصدني ويصرعني،لكن على ما يبدو أنهم يميلون إلى السلام،طالما نحن مسالمين،مذ وصلنا المدينة،لم نقم حفلات تعذيب ليلية،ولا هم أشعرونا بغضبهم،على يا يبدو أن بعد المدينة عن عيون حكماء الحرب وعقولها،هو الذي جعلها هاجعة بين أحضان الصمت،لم يكن تأويلي فالحاً،مجرد فكرة خطرت،لكن جندي مخابر،من وحدة المخابرة،ظلّ يتعذب قبل أن يتمكن من تأمين اتصال سلكي ما بيننا وبين الفوج المرابط،بعدما ربط عشرات الأسلاك المبتورة بعضها ببعض،حكى عن هذا الهدوء الشامل،تبين أن المدينة كانت(خمارة القط الأسود)لهم،كانوا يأتون بعد الغروب عبر الشط بأبلامهم،يقيمون الليل مجوناً،وفاءً لمدينة الحنّاء،مهرجان المتع والسعادة،صمتوا طيلة هذه الفترة رغم أن أهاليها مدركين أن حياتهم في مأمن،لكن الحرب،ديناصور وحشي،لا يسكن في الأماكن الحافلة بالعافية،عائلة وراء عائلة،تسللوا وتركوا أحلامهم وطفولاتهم تحرس موطنهم في ظل بساطيل الجنود،ووحشية الرصاص.
التمور ناضجة،بعض النخيل لا يحتاج المرء إلى مدرج أو مرقاة كي يتذوقه تمورها،نخيل قزمة لكنها هائلة التمر،يسومنها(البرحي)و(البريم)،يكفي أن تجلس على كرسي وتتناول براحة وعدم بذل عناء.
التمور تقدح مشاعل الرغبة،أنها الحرب،لا توجد حياة كي تجد فاكهتك،يواصل القلب تعزيم الجسد بثورته،في ظل همجية الرغبة وقسوة الطبيعة وضجر الروح يرتكب المرء حماقات،أنها الهروب الخالد من تعاسة اللحظة،من ثورة الجسد،من براكين الرغبات التي أماتتها الحكومة.
عندما تنتهي ثورة الجسد،يغدو المرء تافهاً،نادماً على فعلٍ لا بشري مرتكب،كل شيء فيه يذبل ويذوي ولا يجد سوى الهروب من حاضره،بحثاً عن ملاذٍ يبقيه كائناً متجدداً.
لكن النوم جبل عنيد يرفض مهادنة جروحي،هذا القرين الشقي راح يسلبني شبابي ويأكل طعام عافيتي.
***
((أبيع عافيتي على مهلٍ لأنياب الأمل/في كل عوداتي/لم تسقطنِ حفلات أحلامي في دربك يا ريحانة الأزل/في كل أحلامي/ظلّ غرورك عربة جذل/شوارع روحي تفرش لحضورها باقات الورد الأجمل/آه
ليت مزرعتي سرقت من ثغرك باقة قُبَلْ/لأورقت هنا/على أديم المدينة الحالمة خيام الأنسِ/وعادوا من أحزان الهجرة/كل الأقوام الرحل/تلهج السفن مسراتها/تعود النوارس لقيامة أعراسها/وتخرس المدافع عن لفظ المدامع من عيون صبايا/وضعن قلوبهن على كفوف المستحيل/كي لا يقتل الحبيب الأوّل))
***
((آه..يا وداد/آه..يا زاد هذا الزمن المباد/يوم موتي هل تعلنين الحداد؟/هل تلبسين ثوب الرقص؟/
وتطلقين صهيل لسانكِ/يزف لرفيقات العاطفة/من بين كل الذين عادوا/الواحد المؤلم ليس بعاد/لا تفرحي بموتي/لا تجعلي من رحيلي لك ذكرى أعياد/أخشى أن تراجعي أوراق ثورتك/عندها ستواصلين حياتك المتبقية من غير زاد/أخشى أن تموتي وتكتشفي في اللحد/باقة ورد/وخاتم عهد/وكلمة وعد/وشمعة لا تزول/تضيء ـ لحياتنا التالية ـ/شجرة الميلاد))
***

27تموز/1981

ليلة حافلة بالصمت والخوف،رجف جهاز الهاتف،بعينين خائفتين،بفم توقف عن سحق اللقمة المفتتحة للطعام،أستقبل نائب الضابط(حسين)أمراً ورد من القيادة العامة للـقوّات المسلحة،وضع الهاتف ولم نعرف كيف أنهينا عشاءنا..قال:
((تسلل))
لم نجد كلاماً ينفع الخبر،كان يجب أن نحترس ونشدد على الحركات غير الطبيعية،لم تصلنا أخبار جديدة،كان الخبر الذي جلبته لنا سيارة العشاء،جنديان منحوران على الطريق،مر الخبر عادياً،قبل أن يعمم خبر وجود متسللين وراءنا،ساعات الخوف ثقيلة،ساعات الترقب،وقوف تحت المقصلة،لم يتم تحديد وقت الشنق،أنه العذاب الجديد،توزعنا على نقاط الحراسة،دائماً(صلاح) رفيقي،نغادر تواجدنا لنبحر في خضم حياتنا القديمة،الحب والشعر والروايات..قال:
((أكاد أجزم أن القضية مفبركة))
((لا نملك ذريعة لنتحجج بها))
((ما رواه سائق المركبة،كان كلاماً منقولاً من آخر))
((سواء أ..كان أو لم يكن،لن يغير ذلك من سهرة العذاب الذي ينتظرنا))
((القيادة تحارب عافيتنا،تريد منّا أن لا نركن للهدوء))
صمت.
ليل ساكت،النجوم تبرق أشعتها،ونجوم وامضة تتقاطع فوقنا،حفلات(بنات آوى)تعطي النخيل حياة شائكة،وقباع خنازير تزمجر كأنها هدير طائرات حمولة،تكاد تعطس ساقطة لنفاد وقودها..قلت:
((لنخرج من واقعيتنا))
((سبقتني في طرح الفكرة))
((سأـتحدث عنها))
((ألم تسئم في إعادة حكايتك؟))
((لو كنت مكاني لجعلتها طعامك وشرابك))
((ألم تقل أنها فتاة عادية،ليس لها إلاّ العناد وحدة المزاج))
((تلكما الصفتان سببتا لي هذا الأرق المستديم))
((ما دمت تموت فيها فلتغني لها طيلة حياتك إن كانت لك بقية حياة))
((آه..الحرب أوقفت كامل رغباتي))
صمت.
بدأت دموعي تراق،نهران هدما سد الإرادة وانحدرا يجرفان روحي،أمام أنظاري تتفكك مشاعري وتندلق لآلئ أحلامي،كان(صلاح)يتأمل الظلام،ربما كان يبني عمارة حكاية جديدة،قصة ولدتها جلستنا،أحتاج كلما كياني يهتاج إلى بضع دقائق،أعيد فيها ترتيب أوراق حياتي،أحتاج إلى عربة تجرجر متاعي،تمدني بتفاصيل معارك حياتية مسالمة،حياتي دائمة التذبذب،المتوقدة بموسيقى العذاب،لا ضوء ينير هذا الظلام المتقاتل،ظلام جبهة بكلمات حولته إلى متاهات مدججة بالموت.
وحدها(وداد)تمتثل،برشاقتها القروية،بملامح مهزومة من حداثة الزمن،من وراء خمار يستصرخ ويرتد..قال:
((لو كنت مكاني لربما هربت))
((وأنت كذلك))
((كيف أفسر قضيتي،امرأة من الزقاق،لم تتوافق وزوجها،انحدرت وجرفتني في تيار الظلام،ليس ذلك فحسب،فاجأتني بعد أشهر أن الكرة المتكورة في بطنها هي ثمرة خطيئتنا))
((هذا أثم مبين))
((جاء يشبهني تلك هي مصيبتي))
((حقاً لو كنت مكانك لهربت إلى الساتر كي يمزقوني بالرصاص))
((وآثامك ماذا تسميها وكيف تفسرها؟))
((لم أتجاوز المعابر المختومة بـ شمع الأخلاق))
((كلا يا عزيزي،سقطاتك كونية كما سردتها لي))
((أن ما يبكيني تلك المتمردة،لا أعرف يا صديقي سر موتي فيها،ربما اختلافها عن الرفيقات هو القطب الجاذب،هو النبع الذي يسقيني تارة بالغضب وطوراً بالمتعة،كانت مسكونة بروح رياضية عارمة،تمتلك ثورة عاطفية جديدة،ثمت عراقيل كانت تحجبها عن المغامرة العلنية))
((مثلها من تراجع نفسها وتتخذ القرار الآخر خلاف تحدياتها))
((بقت كما هي،مرة واحدة صارت كتلة طعام بين يدي،لكنها تمالكت نفسها وثارت كرامتها وألقتني مذعوراً،متوسلاً داخل مستنقع الحيرة،آه أنها الصفعة الأجمل التي تلقيتها في حياتي))
((مثل هذه التصرفات عند الفتاة تقلبها رأساً لعقب بعد فترة وجيزة،الأنثى سريعة الندم،دائماً تمنح مكافئتها باهضة الثمن بعد كل رد فعل مجنون من ردود أفعالها الحماقية))
((بدت مثالية،تحاورني بما يشغلنا من هموم الدراسة،وكلما تشم رائحة غريزة،أو تقتنص نظرة لا مألوفة فيّ،تعلن قرار نقض الهدنة وتشهر أسلحتها التحذيرية))
((لو كنت مكانك لأخذت برأي رفيقاتك))
((كان الخيار مطروحاً ومهيئاً،لكنني كنت خادم لعبة خفية،حاجز نفسي كان يمنعني من المغامرة))
((لو بادرت لما اتخذت رد فعل مضاد))
((وربما أتخذت أقسى مما تتوقع))
صمت.
من بين العتمة،تقدم نحونا نائب الضابط(حسين)برفقته(شهاب)،جلسوا معنا عند الساتر..قال:
((ما حدث يستوجب الحيطة والحذر))
قال(صلاح):
((سيدي..قلبي لا يشعرني بالخوف))
((الموت حين يخيم على المرء،يشعره بالسعادة والسلام،سكرة الموت لذيذة))
((ما سمعناه من خبر،ربما لم يكن موثوقاً))
دخلت في الكلام:
((مهما يكن،لابد للحقيقة أن تأتي عاجلة،لا شيء يختبئ أو يصمد طويلاً في الحرب))
قال نائب الضابط(حسين):
((نعم الحرب أم الفتن والظواهر السلبية،الحرب نزعة حيوانية أتخذها البشر وسيلة لتحقيق الغايات الخبيثة،الحرب قتلت نبل الحياة))
((لم يحدث شيء مذ جئنا))..قال(صلاح).
((هذا الهدوء مدروس،الحرب مكر وقمار،من يمتلك دهاء المكيدة بوسعه إسقاط غريمه في حوض الجنون)).أجاب نائب الضابط(حسين).
قلت:
((ربما هناك خطط لتعذيبنا))
قال نائب الضابط(حسين):
((قيادتنا مشغولة بترميم الثغرات،هذه الحرب ثأرية،يريدون إلغاءنا،ونريد أن نصدهم،لكن حسابات الحرب معقدة،قد تجد نفسك مهاجماً بعدما كنت مدافعاً عن حقك))
قلت:
((ربما ستفلح المساعي الحميدة لتقريب وجهات النظر وتسوية المتعلقات بين الطرفين))
قال(صلاح):
((الحرب حياة وموت،موتنا يعني حياتهم))
صمت.
تكلم نائب الضابط(حسين):
((عند تواجد حركة غير طبيعية،احترسوا ولا تتسرعوا،خبروني عن كل تحرك))
قام وتبعه(شهاب)وذابا في العتمة.
((لم أعد أحتمل السهر))قال(صلاح)
((أغتسل لطرد النعاس))
((سأنام قليلاً))
تمدد ونام،تركني أواجه الليل والصمت.
***
((رغم جموحها وجموحي/رفضت جراحها/أن تنضوي تحت بيرق جروحي/ها أنذا أسكن بيت ظنوني/
لم تنفع مراوغاتي/ولا خجول محاولاتي/لكسر شراع فلتتها الصخرية/كي تسترخي سفينتها/على رمال طموحي/حاولت ونزفت وتوسلت/قاب الأمل قوسين/أوأقصى/خيام حربها كشفتها ريح مدائنها/ليس من غريم إلاّ العذاب والغربة/الليل..ووقاحة الرغبة/وحدكِ باعثة هذا الشوق في سواقي الحرب/الليل لا يموت عندما تسهر الكلاب على ولائم التعذيب/الليل..في ـ الفاو ـ مدينة تلطيخ الكفوف بدهان الفرح/ليل ـ الفاو ـ عربدات الأزمنة المتحركة/ليلٌ كالسفينة/يبحر الليل هنا إلى متاهات الماء/هناكحيث خداع القاع/تنام رقصات العابرين والمهرجين/ونزيف الشهوات غير الثمينة/لعابرين الأمواج غير الأمينة/ها أنتِ..تواصلين هذه الشراسة الأليمة في ظل الحربِ/ها أناألملم حكاياتنا العابرة حدود الأدبِ/عساها تدلق من أحشاء براءتها/ثمرات أحلام/ وبقايا رغبات لم تعد دفينة))
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل