الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤوس تبحث عن اجساد ورائحة لاتغادر

كاظم الشاهري

2002 / 12 / 14
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


                                        

اواسط الثمانينات من القرن الماضي كنت كبقية اقراني محاربا  على جبهة الكارثة العراقية الايرانية. كنت   جنديا  مشاة في الفرقة ( 11 ) ولقد ’فرض عليّ ان اشترك في اكبر معركة في ذلك الوقت وتلك المعركة سماها النظام ( الحصاد الاكبر ) ولها تسميات شعبية عدة يتناولها الناس والجنود مثل ( نهر جاسم او البحيرات او شرق البصرة ) تمكن الايرانيون في تلك المعركة من  احتلال خط ( الدعيجي ) الذي يمثل اقوى الحصون العراقية المقامة بعد وقبل (  نهر جاسم )  واقترب الايرانيون في تلك المعركة من البصرة بمسافة( 13 كيلو متر ) وكانت مدافعهم تصل الى الخطوط الخلفية في (  الشعيبة )  . ولقد مثل ايقاف تقدم الايرانيون انذاك عند خط ( الدعيجي ) مثل  نصرا ومنح صدا م حسين  على هذه الاساس  فرقة ( 11 ) هبات للذين نجوا في تلك المعركة وكانت تلك الهبات او (  المكرمة  )  سيارات يابانية فاخرة سماها العراقيون ( سوبر ) وتم استثاء عدد من الناجين من تلك الهبات   لتاريخهم او لتاريخ عوائلهم من السلطة الحاكمة وكان لي شرف الاستثناء وحصلت من تلك المعركة القاسية على هبة ( 4 ) ايام اجازة .
ولااريد في الواقع ان اتحدث عن الهبات الصدامية ولاعن المعركة وتفاصيلها وقد اتناول لحظة منها في موضوع قادم بل ان الذي يعنيني في هذه اللحظة انني بقيت محاربا في نفس الفرقة وفي نفس الجبهة حتى عام 1988 وهو العام الذي تم فيه استرجاع (  نهر جاسم )  ومايليه وكان المدهش بحق في تلك المعركة ان الايرانيون  تركوا جثث الجنود العراقيين طيلة سنتين من دون دفن وتركوهم كما قتلوا في نفس الموضع وفي نفس المكان . 

وبعد ان تم استرجاع تلك المنطقة من البصرة تشكلت  ( سرية ) من جميع وحدات الفرقة  كانت مهمتها اخلاء القتلى الذين فقدوا ارواحهم قبل سنتين وكنت واحدا منهم واول موقع كان علينا اخلاءه كان خط ( الدعيجي ) وهو خط يتصل بنهر شط العرب الصغير ويبلغ طول هذا الخط حوالي ( 40 كيلو متر ) وكان هؤلاء القتلى فقدوا ارواحهم قبل سنتين وكان الايرانيون تركوهم في العراء .
وكان واجبنا يبدأ السادسة صباحا وينتهي الخامسة مساء وكانت ادارة الفرقة مشاة ( 11 ) خصصت لنا ( 10 ) شمعات ماء بالقرب من جسر (  التنومة )  وصابون ( ركي ) وبطاقات  تتيح لنا المبيت في مدينة البصرة وكانت تلك البطاقات  تسمى ( عدم تعرض ) وكنت لااستطيع النوم فكل الجثث التي اضعها  على بطانيات ( فتاح باشا ) المقلمة واحملها الى عجلة  ( الايفا ) كانت تظهر امامي وكنت اشعر بهلع ورعب شديدين  ولم ينفع معي النوم والمصابيح مشعة ولم يخمد خوفي وهلعي وجود صديقي معي  في نفس غرفة الفندق وكنا لانعلن مخاوفنا لبعضنا لشعورنا بالخجل وصارحته بخوفي فقال وانا ايضا وبعدها اكتشفنا وصفة سحرية تطرد الخوف والخجل وكانت تلك الوصفة ( نصف بطل عرق ) لكل واحد منا (  والعرق العراقي )  لمن لايعرفه يصلح لكل الاعراض والمناسبات فالفرح لايكتمل من دونه والحزن لايذهب من دونه وهو لمن يريد ان ينس ينسيه ومن يريد ان يتذكر يذكره وهو جرعة الشجاعة والاقدام وهو انيس من لاانيس له فشكرا لنبينا نوح على اكتشافه المذهل هذا وشكرا لباخوس ايضا رب الخمرة وممثلها في مجمع الاله.  ولم نكن كلنا مجموعة ( الاخلاء ) نتخذ فندقا واحدا او مكانا واحدا كنا  نتفرق في البصرة مجموعات لاتلتقي الا في اليوم التالي من المهمة .
كنا نغتسل تحت شمعات الماء وكان قطر الواحدة منها تقريبا ( 15 سم ) و كنت اظن ان دفق المياه السريع الساقط فوق رأسي و ( صابون الركي ) قادران على ازاحة ما علق بي من روائح الموت وكنت اعتقد ان
الاجساد التي لاتدفن  تتبخر روائحها بعد تعفن الجثة في المراحل المبكرة الاولى بعد الموت .
 ولكن هذا الاعتقاد يبدو غير صحيح  فهناك رائحة ما  تبقى متشبثة بالجثة وكانه الاعلان الوحيد الباقي للجسد لكي يعلن الفرق بين رائحة الحياة ورائحة الموت وتلك الرائحة لاتزاح
 فكنت اشمها كما هي حتى بعد الاغتسال وحتى بعد انتهاء المهمة لفترة طويلة ولاادري في الواقع لماذا .؟ ولم اجد بحثا يفسر ذلك وقناعاتي المتواضعة كانت تعلل لي ذلك بالذرات المتناهية الصغر المتطايرة من الجثة واستقرارها في المنخرين وقد يكون كل ذلك محض شعور ووهم نفساني .
 
كانت الجثث  متيبسة تماما ولكن شعر الشاربين محتفظ بوجوده كما لو ان  الجثة حية واغلب الجثث كانت اعضائها التناسلية منتصبة . وان الجثة مهما كانت متماسكة فانها تنفصل اذا حركتها من موضعين فقط . الرأس ينفصل من الكتفين وآخر فقرات العمود الفقري ينفصل من اعلى العجز .وكنا بعد هذه الخبرة نرفع الجثة على ثلاث مراح اولا الراس وبعدها الصدر ومايليه ومن ثم العجز والرجلين.

مع كل جثة هناك حكاية طويلة لاننا كنا نبحث في جيوب ملابسهم على اي مستمسك يعرفنا  على هوياتهم وكنا نعثر على
 رسائل الى الحبيبات وصورهن  وصور 
 للامام ( علي ) 
 وادعية وكتبا لشعراء وروائيين .واشياء كثيرة اخرى .

لقد استمر عملنا في تلك المهمة لاكثر من شهر تقريبا  اخلينا خلاله  الاف الجثث وكان في اخر ايام المهمة ان عثرنا على جثتين لقتيلين  طويلا القامة  ـ ولاادري لماذا  صادف هذا ـ   فوضعناهما في ( بطانتين  فتاح باشا ) والقيانهما في عربة ( الايفا ) وركبنا في قمرة  القيادة مع السائق وعند تسليمهما الى مركز ( الشهداء ) وجدنا ان الرأسين انفصلا  من جسديهما وتدحرجا بعيدا عنهما ولقد سلمناهما الى ( مركز الشهداء ) جسدين  من غير   رأسين  ورأسين  من غير جسد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد زيارة بوتين للصين.. هل سيتحقق حلم عالم متعدد الأقطاب؟


.. كيربي: لن نؤيد عملية عسكرية إسرائيلية في رفح وما يحدث عمليات




.. طلاب جامعة كامبريدج يرفضون التحدث إلى وزيرة الداخلية البريطا


.. وزيرة بريطانية سابقة تحاول استفزاز الطلبة المتضامنين مع غزة




.. استمرار المظاهرات في جورجيا رفضا لقانون العملاء الأجانب