الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستثمار في البشر..حل يحمي جميع الأطراف

إكرام يوسف

2005 / 8 / 23
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


يقول "كمال الشناوي": أفلسنا ولم نعد نملك سوى خمسة ملايين جنيها!!"، فتصرخ "ليلى طاهر" ـ زوجته في المسلسل ـ في هلع "وما الذي يمكن أن نفعله بهذه الملايين الخمسة؟"!!. ويصبح المطلوب من المشاهدين أن يتعاطفوا مع هذه "الكارثة" التي حلت على زوجين في أواخر العمر ليس لديهما ـ مثلا ـ هم تربية أبناء في سن التعليم، ولا سن الزواج .. ولأنني كنت في إجازة سمحت لي بمتابعة عدة مسلسلات في آن واحد، فقد فهمت من هذه المسلسلات بأنني ـ وحدي تقريبا في مصر، ومعي دائرة معارفي ـ لا أقيم في فيلا من دورين، لها حمام سباحة، يقوم بالخدمة فيها عدد من الخدم محترمي الهيئة، ويمتلك كل فرد من أفراد الأسرة سيارة آخر موديل خاصة به وحده!!. فأغلب شخصيات المسلسلات المصرية التي عرضت في مصر ومعظم البلدان العربية كانت من هذه النوعية!!.
ومنذ عدة سنوات جاء إلى مصر في رحلة شهر عسل زميل مصور شاب من فلسطين يعمل في وكالة أنباء أجنبية، وكان أول تعليق قاله أن معظم معلوماته هو وعروسه عن مصر كانت من خلال الأفلام والمسلسلات، لذلك فوجئا بمستوى معيشة المصريين في الواقع!. ومؤخرا أرسل لي زميل عراقي يعمل في محطة فضائية يقول أنه اتخذ قراره بالفعل ـ نظرا للظروف الأمنية في العراق الشقيق ـ بأن ينقل أسرته المكونة من زوجته وثمانية أبناء ووالدته للعيش في القاهرة نظرا لما سمعه عن انخفاض الأسعار في مصر، ويريد شراء شقة واسعة لهذه الأسرة الكبيرة، في منطقة سكنية لائقة قريبة من إحدى الجامعات التي يأمل أن يلحق ابنيه فيها. ثم سألني عما يمكن أن يكلفه شراء مثل هذه الشقة؟ فلما اعتذرت بأنني لا أتابع بدقة سوق العقارات المصري، قال لي "يعني تتصوري كم يبلغ سعر أغلى شقة في القاهرة؟".. و اتضح لي أنه فهم مما يراه في الأفلام والمسلسلات المصرية أن "أغلى شقة في القاهرة" لن يتعدى ثمنها بضع عشرات من الآلاف!!!، لأنه يرى صحفيين ومهندسين ومحامين مصريين ـ من المفروض أنهم يمثلون الطبقة المتوسطة ـ يسكنون في الأفلام والمسلسلات، شققا فاخرة.
وإذا كانت هذه الوقائع تدعو للابتسام، مما قد يتصوره من لم يزر مصر عن أحوال أهلها بعد مشاهدة هذه الأفلام أو المسلسلات، وربما تتيح للمرء فرصة للتباهي أمام من لا يعرفون، باعتبار أن "الصيت ولا الغنى". فإنها تدعو للقلق والتفكر فيما تتركه من أثر لدى أبناء وبنات هذا البلد الذين تشير إحصائيات مؤخرة إلى أن تسعة ملايين من بينهم ترتفع أعمارهم عن الخامسة والثلاثين لم يستطيعوا الزواج حتى الآن لأسباب اقتصادية. كما تدعونا لتخيل تأثير مثل هذه الأفلام والمسلسلات على طوابير العاطلين من حملة الشهادات العليا وهم يرون شخصيات هذه الأعمال الفنية تحصل على فرص عمل مرموقة بمجرد حصولها على شهاداتها، وسرعات ما تمتلك مختلف مظاهر الثراء الاجتماعي بمجرد التعيين في وظيفة!. وهل نلوم بعد ذلك شبابا أصبح كل أمله الحصول على تأشيرة هجرة دائمة أو على أقل تقدير عقد عمل في الخارج، بعدما قضى سنوات تعليمه يجتهد ويحرم نفسه من اللهو حتى يحقق أمله في الحصول على وظيفة تحقق له مجرد حياة اجتماعية كريمة؛ ثم يفيق من أحلامه على واقع نعلمه جميعا؟
لقد رأى صناع القرار أن علينا تحرير اقتصادنا لنلحق بمجتمعات متقدمة حققت تطورا هائلا عبر تبني نظام الاقتصاد الحر. فهل فكرنا ماذا يفعل أصحاب الأعمال في هذه البلدان المتقدمة؟ هل تقتصر حياة أصحاب الأعمال في هذه البلدان على مجرد امتلاك القصور والسيارات الفارهة وإقامة الحفلات الباذخة، باعتبارهم أحرارا في التصرف فيما يملكون من ثروة؟
كان المفتر عندما ننقل تجربة هذه "المجتمعات المتقدمة" أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون. لا أن نبدأ من حيث بدأوا. لقد جربت هذه المجتمعات في عصر سابق ـ أيام نظرية الدولة الحارسة التي لا تقوم إلا بوظيفة الأمن الداخلي وحماية الحدود ـ نظام الاقتصاد الحر بالمعنى الذي نطبقه الآن؛ وهو أن كل صاحب مال حر فيما يفعل بثروته، يوظفها كيفما يشاء أو ينفقها كيفما شاء، وليس من حق الدولة ولا المجتمع التدخل في تصرفاته. لكن التجارب أثبتت خطأ هذا التصور الذي دفعت ثمنه هذه المجتمعات، كما دفع ثمنه أصحاب الأعمال في الأزمات الاقتصادية الكبرى التي بدأت منذ أزمة 1929 في أوروبا والتي استفحلت آثارها حتى أدت إلى قيام الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الوقت بدأ دعاة الاقتصاد الحر أنفسهم يرون دورا ضروريا للدولة في تنظيم الاقتصاد سواء في أساليب فرض الضرائب أو التأمينات الاجتماعية على العاملين أو منح العاملين امتيازات معينة، تضمن له الحد الأدنى من الحياة الكريمة، فضلا عن حقوق التنظيم في نقابات اجتماعية، وحقوق ديمقراطية أخرى تضمن لهم سبل الاحتجاج على ما قد يتعرضون له من ظلم.
وظهرت أيضا أفكار تبناها بعض مؤيدي "الاقتصاد الحر"، تتحدث عن الدور الاجتماعي لرأس المال؛ وتطالب بدور حقيقي يقوم به أصحاب الأعمال في خدمة مجتمعاتهم وتنميتها. وسمعنا عن أقسام كاملة في مستشفيات كبرى يبنيها أصحاب أعمال من مالهم الخاص و يجهزونها بأحدث الأجهزة العلاجية لخدمة المواطنين بالمجان. وغير ذلك من المشروعات الخدمية التي يقدمها هؤلاء لمجتمعاتهم؛ دون رياء ودون رغبة في التظاهر بالتقوى، والمن على مواطنيهم بما يقدمونه من أعمال. ولماذا ننظر بعيدا؟ وقد كان أثرياؤنا في مصر يفعلون نفس الشيء في زمن سابق؛ وإلا فكيف أنشئت الجامعة المصرية ـ جامعة القاهرة الآن ـ قبل مائة عام ؟ ألم يكن ذلك بتبرعات الموسرين والملاك وأصحاب الأعمال، ومنهم أفراد من الأسرة الملكية؟. وبنفس الطريقة أنشئت مستشفيات كبرى في مصر مازالت تقدم خدمات مجانية لغير القادرين، بصرف النظر عما وصل إليها مستواها الآن.
وسيذكر التاريخ كيف هؤلاء يتكفلون بالمنح العلمية لشباب غير قادر؛ يرسلونه إلى الخارج للحصول على درجات علمية، ترتقي بحياته وتجعله مفيدا في نفس الوقت لمن أنفقوا على تعليمه فيعود ويطور بعلمه الإنتاج في مصانعهم محققا لهم المزيد من الأرباح. ولا شك أن من بين أصحاب الأعمال المعاصرين من يسعى بشكل أو بآخر لتقديم تبرعات أو المساهمة في أعمال خيرية. لكن الوضع العام في مصر يؤكد أن مستثمرينا لم يقوموا ـ بعد ـ بما يجب عليهم من واجبات تجاه مجتمع لا يبخل عليهم بالتسهيلات. فمازالت النظرة السائدة أن الاقتصاد الحر تعني أن يصبح الأثرياء أحرار فيما يفعلون بثرواتهم دون أن يعترض أحد على مظاهر للبذخ مغالى فيها، في مجتمع لا يجد الملايين فيه فرصا مناسبة للتعليم أو للعمل أو للسكن أو للعلاج. ويكتفي بعض هؤلاء في كل مناسبة بأن يعايرنا بأنه "يفتح بيوت ناس" بتوظيفه عمالا في مشروعاته.. كما لو كان يفتح بيوت هؤلاء تعطفا ومنا ولا ينتظر منهم جزاء ولا شكورا. وهو أول من يعلم أن ما يحققه من أرباح وثروات جاء معظمه من "عرق" هؤلاء، وهم الذين يفتحون بيته في واقع الأمر. ولم نسمع مثلا عما أصبح يعرف في كثير من التجارب يا سم "الاستثمار البشري".. فلماذا ـ مثلا ـ لا يتكفل صاحب العمل بإرسال بعثات تعليمية للخارج على نفقته أو فتح مدارس مهنية في التخصصات التي تحتاجها مصانعه لتعليم أبناء الفقراء؟ أو حتى إيواء من درج على تسميتهم "أطفال الشوارع" في مدارس داخلية مجانا؛ مقابل أن يعملوا في مصانعه بعد تخرجهم لمدة معينة مثلا بأجر مخفض إلى أن يستوفي المصاريف التي صرفها على تعليمهم؟ فيضمن بذلك لمشروعاته عمالا مهرة، ويضمن لبعض أبناء مجتمعه وظيفة تقيم أود عوائلهم وتقيهم من التشرد في الشوارع، و يضمن المجتمع في نفس الوقت نزع فتيل من فتائل الحقد وكراهية المجتمع التي تجعل من المشردين والعاطلين تربة خصبة لتربية الإرهابيين.. وهكذا نكون قد وضعنا أحد الحلول للتخفيف من مشكلة البطالة، أهم القنابل الموقوتة التي تتهدد جميع أطراف هذا المجتمع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إغلاق مراكز التصويت في الانتخابات البريطانية| #عاجل


.. إيران.. تعرف على مواقف جليلي وبزشكيان في ملفات السياسة الخار




.. مقابلة خاصة مع نائب وزير الخارجية التركي ياسين أكرم سرم


.. أوضاع الشرق الأوسط وحرب غزة تحظى باهتمام كبير في قمة شانغهاي




.. نتنياهو بين ضغط عائلات المحتجزين وتهديدات ائتلافه اليميني