الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليالي المنسية (رواية) جزء 35

تحسين كرمياني

2014 / 10 / 16
الادب والفن


8أيلول/1981

ضج الفجر،قمت كي أهرب إلى بساتين النخيل،لكن الهاتف رن،ظلّ نائب الضابط(حسين)ممدداً على فراشه وهو يجيب،حين تلاقت نظراتنا،رفّ قلبي بشيء لا يسر،وضع الحاكية..قال:
((يطلبونك في الفوج))
بقيت صنماً،لا كلام يستلقي على لساني كي أستفسر،تدخل لوقف حيرتي:
((أضبارتك الحزبية وصلت))
أغمضت عيني وتنفست الصعداء،جملة أشياء تداخلت وأحدثت غباراً داخل مخي،قبل أن يأتي الجواب أكثر غبرة وسوادا،لم أكن أصدق حين خرجت من حياتي السابقة،تلك المعفرة بـ هوس الوطنية ومخاط السياسة،حتى باغتني من جديد ولعي النائم،من أين أأتي بتلك الغيرة الشبابية،ذلك الوهم الذي ركب عقلي وأخذني حصاناً فتياً يبارز داخل حلبات السيرك.
بقيت في فراشي،أحاول أن أفك لغز هذا العذاب الجديد،سأكون عدواً في أعين زملائي،هذا احتمال لا يحتاج إلى تأويل،رفاقي ثلاثة منهم كورد وأنا رابعهم،ماذا يقولون عنّي؟
مع سيارة الأرزاق وصلت مشارف الفوج،وجدت عدة مركبات خارجة من الشارع العام،أنها متخفية في ظل نخلات منفردات..صاح السائق:
((أهبطوا بسرعة))
هبطنا واختفينا بين النخيل،كانت القذائف تمطر الفوج،حرائق صغيرة متناثرة تتوزع من أماكن متعددة،بعد ساعة أو يزيد هدأت الجبهة،كان من المتعذر الوصول إلى منطقة تغربلت بالقذائف،عدت إلى رعيلي.
((لم أتوقع رجوعك ثانية))قال نائب الضابط(حسين)
((ليتك رأيت أيّة قيامة قامت))
((هذا من حسن حظك))
كانوا جالسين يتناولون الغداء،لم أجد رغبة في تناول شيء.
قمت ومضيت إلى النهر،في ظل دبابة تمددت ورحت أفكر من غير موضوع محدد.
***
((خوفي جاء يلزمني الركض/وراء لمعان الوهم/علّ الحرب بالت على أوراقي/الطريق الليلي/لا يقود مركبتي إلى متحف الحلم/يغادر كياني رصيف الماضي/تاركاً على رمال تاريخي القديم/صبيانيتي تنطق ندم))
***
((الحب هم/الحرب هم/الحياة هم/أنا وأنت حرفان من نغم/في قيثارة الألم))

14أيلول/1981

جاءنا ضابط برتبة(عقيد ركن)،لم يكن مسالماً،نظراته تشبه نظرات المستجوبين في المحاكم العسكرية،ظلّ واقفاً يتفحصنا بنظراته،وقفنا لا نملك سوى أخلاقنا،سحب شهيقاً وزفر كـ حمار حرون..قال:
((من يراكم يظن أنكم مرتزقة))
صمتنا.
((ماذا نقول للعالم،هل أنكم تمثلون الحزب والثورة وتدافعون عن البلاد والشعب؟))
صمتنا.
((جندي واحد من عدونا يمكنه أن يهزمكم))
صمتنا.
((هل سكنتم الكهوف قبل أن تجدوا أنفسكم رجال يحملون راية البلاد))
صمتنا.
((هل أنتم حيوانات؟))
صمتنا.
((ما لكم لا تنطقون؟))
تلعثم نائب الضابط(حسين):
((سيدي أمرك))
((صه..أنا ليس من خصالي معاقبة الجنود،أنهم حيوانات ضالة ما لم يتعلموا واجباتهم العسكرية،أنا أحاسب الضبّاط،وبما أنك تيس هذه الشرذمة الضالة،سأحاسبك حساباً عسيراً))
((أمرك سيدي))
((ستأتي إلى مقر اللواء كي تنال جزاؤك))
((أمرك سيدي))
ركب سيارة الواز وهرب ما أن شرقت في الفضاء صرخة قنبرة هاون،ضجت أفواهنا بالضحك.
قال(صلاح):
((أبو ـ زربة ـ يريد أن يتعسكر برؤوسنا))
قلت:
((وما دخله بنا،أنه مشاة ونحن دروع،نحن ضيوف منشورين على لوائه))
قال نائب الضابط(حسين):
((ألم أقل لكم أن هذه الوضعية التي تعيشونها ستزجنا في مأزق))
قال(شهاب):
((سيدي..ما العمل،تركونا هنا،لا حلاّق يحلق رؤوسنا،ولا بدلات جديدة يعطوننا))
((علينا أن نفكر بعواقب الأمور))..قال نائب الضابط(حسين)
((ليس من حقه معاقبتنا،لم لا تتصل بفرقتنا؟))..قال(صلاح)
((الخطوط مقطوعة منذ يومين)).أجاب..نائب الضابط(حسين)
صمتنا.
وعند الأصيل وصلت سيارة الأرزاق متأخرة..هبط جندي مشعر وتقدم منّا..قال:
((أنا حلاّق اللواء،أرسلني آمر اللواء لحلقكم))
فرحنا وحلقنا رؤوسنا نمرة(صفر).
حقاً وضعيتنا ترثى لها،منذ وصلنا إلى(الفاو)لم نجد فرصة أو نفكر بهذا الجانب،والبدلات التي زعموا أن يعطونا،قيل أنها احترقت في القصف،في غروب اليوم،أزعجنا العدو بوابل من القصف.
في الليل جاءت الأوامر(اليقظة والحذر)كدأب كل ليلة،ففي ظل هذه اليقظة دائماً أجد عزاءاً ووقتاً للتأمل.
من تحت الدبابة،الحر لا يرحم،عسر في الشهيق،أسراب البعوض تقاتلنا بشراسة،دائماً أهرب إلى مشاعري.
***
((للآن..لم أجد كلاماً يلغي الذي كان/للآن..قلبت قواميس الحب والفراق/العزلة والموت والهجران/لم أجدكِ عشاً داخل ملجأ/أو..على ضلع شجرة/أو..تحضنه شروخ جدران))
***
((أينما ترسو ذاكرتي/يستحيل المكان خرابا/يقام عرساً للعذاب/متى يقرع الحرب بابي؟/متى؟/ثم/متى يقدم الخراب؟/ليحتفي بجسدي التراب))
***
25أيلول/1981

داخل كراج(النهضة)وقبل مغادرتنا،صاح انضباط:
((طريق العمارة مقطوع))
لم أفهم كلامه،وحده السائق عرف وعرف كيف يمضي بنا ومن أين،ظلّت الحافلة تشق متاهات جديدة،حرمني الليل من ملامح البيوت والناس،كثر من الجنود ناموا،حاولت وفشلت أن أذعن للنوم،حياتي الماضية ما تزال تحقنني بتلك الفلتات الليلية والتي كانت ذوابانات فوق العادة في أحواض الرغبات،بقيت أمرر عيني عبر النافذة إلى مصابيح كابية تمرق،منازل غاطسة في الصمت والعتمة.
بعد منتصف الليل توقفت الحافلة،عشرات الحافلات كانت تعربد بمحركاتها العاطسة،وسط فوضى عارمة، مطعم تعيس الجدران،شبه معتم،حركة غير طبيعية للجنود،فوضى حول بائع الشاي،فوضى داخل المطعم،الكل جياع،الحرب آفة الجوع،وجدت شرب علبة عصير(راوخ)مشروبي المحبب يغنيني من تناول طعام غير مريح،بعد تدافع وتزاحم أشتريت علبة العصير،كان المطعم على حافة الأهوار،الإنارة كابية،يعجز المرء تبيين ملامح الوجوه،الكل يضج ويتحرك كالأشباح،سمعت من جندي يشرح لصاحبه جغرافية المكان،عرفت أننا في(الجبايش).
جلست على ضفة الهور،ماء معتم يترجرج،غابات البردي والقصب تتمايل،مستمتعاً بحركة المشاحيف،نساء وحدانيات،متلفعات،يشقن رفوف الظلام والقصب المتوحش ويمضين إلى عوالم مجهولة،توقف مشحوف ..أرتفع صوت:
((وين رايحين))
((لنموت))
((ولم تموتون؟))
((حتى تعيشين سالمة))
((أنت ولد لعوب))
((وأنتِ بنت عارفة))
((هل أنت ضابط؟))
((كتفي خالي من الذهب))
((هل عندك مرة؟))
((حياتي مرمرة))
((لم لا تهرب؟))
((وين أهرب!))
((في هذا الهور جنود هاربون))
((وكيف يعيشون؟))
((على صيد السمك والطيور))
((الحياة هنا جحيم))
((حياتكم أكثر جحيماً))
((وهل هم في أمان؟))
((لا يستطيع أحد الوصول إليهم))
((هل هم منكم؟))
((أغلبهم غرباء))
((لا أصدقك!))
((نحن لا نكذب))
((لا أقصد هذا بكلامي))
((أذا كنت في شك تعال معي))
((وعسكريتي))
((أهرب وعش هنا معهم))
((أنا لا أستطيع العيش وحدي))
((يمكنك أن تتزوج منّا وتعيش معها))
((والحكومة ستشنقني))
((الحكومة ستذهب قريباً))
((إلى أين تذهب؟))
((الحرب ستحرقها))
((لكن الحكومة عندها جيش كبير))
((عندما تهربون،سيصبح الجيش صغيراً))
((ما أسمك يا جنّية))
((وماذا تريد من أسمي يا إبليس؟))
((أحب التعرف على فتاة معدانية جريئة مثلك))
((كلنا جريئات))
((كم عمرك؟))
((نحن لا نقاس بأعمارنا،أعمالنا هي أعمارنا))
في تلك اللحظة تصاعد صياح السائق،نهضت كي أتركها..قالت:
((فكر قبل أن تقتلك الحرب،أهرب وعش مع أخوتك))
((سأفكر بهذا العرض المجاني))
((ربما لا تجد طريقك من هنا بعد هذه الليلة))
((طالما الحرب متواصلة،ستدفعنا إلى طرق جديدة))
((لم تقل ما أسمك))
((أسمي ـ وداد ـ !))
((وأنا ـ حبيب ـ ))
((ما هو مذهبك؟))
((لا أعرف..وأنتِ؟))
((وأنا مذهبي ماركسي))
***
((آه..أيتها الجريئة/من أسماك بجرحي؟/أم كنت أسير كابوس/ليت كاهلي من عاتقي يترجل/ويتركني أسكن هذا الناموس/ليت كنت مشحوفاً يحتويك يا ـ وداد ـ/يشق قامات الليل والقصب/من غير دليل/من غير ضوء فانوس))
***
((أكلما أنهض من قبري أجد ودادا))
***
((أكلما تستقيم حياتي تستحيل عذاباتي أورادا))
***
((أكلما أعود إلى الحرب تغدو أحلامي رمادا))
***
((أكلما أحترق تغدوا الحياة من بعدِ أعيادا))
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل