الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثلاثية الجهل والفقر والإهمال

محمد عز

2014 / 10 / 18
حقوق الانسان


شاءت الأقدار أن أقضي بعضًا من الوقت في مستشفي الصدر بالمنيا الجديدة. وسط مشاكل الناس وهمومهم وأمراضهم تسيل دموعك في اليوم عشرات المرات، وينفطر قلبك حزنًا على ما ترى من الحالات الحرجة. في العنبر رقم 3، كان يرقد في الركن الأيسر أ ش، ذلك الشاب الذي ابتلي بتليف في الرئة وفشل في التنفس قبل أن "يدخل دنيا".
- قصة (أ) جزء 1
(أ) شاب في نهاية العقد الثاني من عمره، بشوش الوجه، متهلل الأسارير، يضحك كثيرًا ليداري همومه وآلامه، لا تتحدث معه حتى تنجذب اليه، لو لم تعرفه يبادرك بمداعباته ويجبرك على أن تجاريه. وعكات المرض أغلقت عينه اليسرى قليلاً، وآلامه جعلت وجهه شاحبًا، لكن غطى هذا الشحوب إبتسامه دائمه مرسومة على شفتيه. لا تجده شا كيًا ولا باكيًا ولا فاترًا ولا يائسًا من قضاء الله وقدره، فمعظم كلماته "الحمد لله على كل شئ".
نشأ (أ) لأسرة فقيرة في إحدى قرى محافظة المنيا، لأب مزارع بسيط يستأجر الأرض، ولأم ربة منزل بسيطة، يمتلكان أربعة أبناء وبنت واحدة. بدأ (أ) –الذي ترتيبه الأكبر في أخوته- العمل منذ أن كان طفلًا في المرحلة الابتدائية ثم في المرحلة الإعدادية ليكسب خمس جنيهات يومياً. وفي المرحلة الثانوية انتقل (أ) للعمل في القاهرة ليكسب ما يقضي حاجته حتى يستطيع اكمال مرحلة الدبلوم. عمل (أ) في بادئ الأمر في سوبر ماركت، ومع ضغوط الحياة وغلاء الأسعار وعدم جدوى العائد من عمله في السوبر ماركت، انتقل (أ) للعمل في "فرن خبز بلدي".
- هامش 1
أسرة تعيش بالكاد وتنجب خمسة أولاد؛ لا شك أن هذا نتيجة للجهل وعدم التفكير وعدم الوعي بضرورة توفير حياة كريمة لأولادهم، وينتج عدم الوعي من الوقوع ضحايا الجهل والتفكير الخرافي "كالمولود بييجي برزقة" أو "ربنا مبينساش حد" وقد نسوا "أن الله يرحم أمرئ عرف قدر نفسه"، أدى ذلك الى عدم تخطيطهم لمستقبل أبنائهم، وماذا سيحدث بعد انجاب الإبناء؟. لقد دفع الجهل هذه الأسرة–وغيرها الكثير- الى العيش على شفا حفرة من الفقر المدقع بل في الفقر المدقع بعينه.
لم تكن الحكومة والنظام السياسي بمنأى عن المشهد الراهن، فالأنظمة السياسية المتعاقبة لم تضع حلا لكل هذه الإشكاليات، ووقفت في معظم الأحوال مكتوفة الأيدي، فلا هي التي تضع القوانين الصارمه التي تجبر الفرد على ألا ينجب أكثر من ثلاثة أبناء أو أربعة كما هومعمول به في عدد من الدول المتقدمة –كأن ترفع عن المولود الزائد عن العدد المسموح به أي دعم مستحق لذويه- ولا هي التي استطاعت أن توفر الحاجات الأساسية لهذه الأسر كالحق في التعليم الجيد، والرعاية الصحية المتميزة في أبسط الحالات.

- قصة (أ) جزء 2
كانت بداية العمل في "الفرن البلدي" مرحلة فارقة في حياة (أ) ، فقد أثرت طبيعة هذا العمل على صحة (أ) وأصابته "بحساسية على الصدر"، وانتقل (أ) بعدها للعلاج في أحدي المستشفيات الحكومية بعين شمس القريبة من عمله آنذاك، ولكن كل الأطباء قرروا أن حالته بسيطة "شوية التهابات في الرئة وإن شاء الله هيكون كويس". وبدأت حالة (أ) تسوء يومًا تلو الآخر، كان ذلك في العام 2007، وفي عام 2012، في مستشفى المنيا الجامعي عندما أصيب (أ) بضيق شديد في التنفس ونقل إلى هناك –كان قد حدث له ذلك من قبل عدة مرات، ولكن أساتذة عين شمس قرروا أنها التهابات بسيطة- اكتشف (أ) أنه حالته قد تدهورت، وبعد الفحوص الطبية كان تشخيص الأطباء بمستشفى المنيا الجامعي أن (أ) يعاني من تليف في الرئة وفشل في التنفس. يعيش (أ) منذ العام 2012 على جهاز الأكسجين ما لا يقل عن 16 ساعة يوميا، والأن لا بد له من 24 ساعة يوميًا على جهاز الأكسجين، بعدما تدهورت صحته وأصبح لا يستطيع الوقوف على قدميه.
- هامش 2
كان (أ) ضحية لثلاثة عوامل مجتمعه "الفقر والجهل والاهمال". الفقر الذي من خلاله لم يستطع (أ) أن يعالج نفسه على نفقته الخاصة قبل أن تتدهور حالته، ولجأ الى المستشفيات الحكومية التي انعدم في معظم عامليها الضمير، ونظروا الى الفقراء بعين الإهمال والتحقير، الفقر الذي دفع الإطباء الى محاولة الإغتناء أو توفير حياة كريمة لهم ولأسرهم، فقضوا معظم أوقاتهم في عيادتهم الخاصة مستقطعين ذلك الوقت من أوقات عملهم الرسمي التي لا تكفي عوائده احتياجاتهم الأساسية. والجهل الذي طفح علينا في كل المجالات، لا سيما مجال كالطب، ما جعلهم يستهينون بحالات المرضى، أو على أقل تقدير لا يقدرونها بالطريقة الصحيحة، ما جعل حالة ك(أ) تسوء يومًا بعد الآخر، والأهمال الذي صار سمة تسم الحياة من حولنا. (أ) كان ضحية الأنظمة البائدة والنخب الفاسدة والأطباء معدومي الضمير.
(أ) يا سادة، وغيره المئات بل الملايين، يعيش اليوم ولا ينتظر الغد، (أ) يضحك ويعيش ما تبقى له من أيامه التي يعرف جيدًا أن هي الا أيامًا معدودات، يقول (أ) "أنا عارف اني مش هقف على رجليه تاني".
ان الفقر الذي يُنتج وينتج عن الجهل وينتج كلاهما الإهمال في حلقة مفرغة دارت مرارا وتكرارا لن تنتهي دون نظام متكامل واستراتيجية واضحة لانتشال ملايين الأسر من أوضاعها التي تسوء يومًا بعد الآخر، لن تنتهي بدون نظام يضع على رأس أولوياته توفير حياة كريمة لمواطنيه، وتعليمهم تعليماً جيدا يغير العقول والثقافات لا يجمدها، بدون نظام يوفر نظاماً صحياً متكاملا لجيمع أفراده، لن تنتهي بدون نظام يسعى الى تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية وإعادة توزيع للدخول بطريقة عادلة. الى متى سنظل مهمِلِين ومهمَلين؟ إلى متى لن نكافح هذا الثلاثي اللعين؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: متظاهرون يطالبون بتحديد موعد للانتخابات الرئاسية وإطلا


.. الجيش الإسرائيلي يخلي مراكز الإيواء من النازحين الفلسطينيين




.. منظمة الأمم المتحدة للطفولة -يونيسف-: 600 ألف طفل في رفح لا


.. ترامب يصم المهاجرين الصينيين إلى الولايات المتحدة بـ-الجيش ا




.. بعد اعتقال المحامية سنية الدهماني بالقوة.. محامو تونس يضربون