الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليالي المنسية (رواية) جزء 37

تحسين كرمياني

2014 / 10 / 21
الادب والفن


15تشرين الثاني1981

تائه،حائر،أحمل حقيبتي،أشعر أن جسدي ثقيل،أنظر إلى ناس منشغلة بالحرب،صاح أنضباط((تعال))، رمقني بنظرة غاضبة،قال:((مكردة))،((لا معربة))ضحك،((تخلصتم من الموت،هذه الحرب للعرب،وأنتم لستم من الأمة العربية))،((نحن من الأمة الكوردية))،((ومن يقول أنكم لديكم أم أنجبتكم كي تكونوا أمة مثلنا))،((نحن ولدنا من ثقوب الغبار))ضحك،قال صاحبه))لو كنت مكانك سأتعرى وأذهب إلى البيت))، ضحك صاحبه((لو كنت مكانك سأذهب إلى شارع بشّار وأخرج عاهراتها وأمدهن على الرصيف وأنادي الجنود أن ينكحوهن على حسابي))ضحكا.
تركتهما،في ساحة سعد،لم تعد هناك صف نساء دلالات هوى،بقيت واقفاً،أنظر إلى البيت،ذلك الذي كلفني الكثير قبل أسابيع،تشجعت وتقدمت،طرقت الباب،خرجت فتاة،رمقتني: ((عفواً أنا عطشان))،بقت حائرة،دخلت وعادت بطاسة ماء،هلعي وخوفي وأرتباكي،ظلّ الماء ينسكب من جوانب فمي ((كان هنا يسكن بيت صديقي))،((وما أسمه))،((حبيب))،((هل تعرفه؟))،((أنه زوج أختي؟))،نظرت بعمق،رف قلبي بعنف،لم تكن كذبتي موفقة،قالت ((وما أسم زوجته؟))،((وداد))،حارت،بقيت أبحث عن مخرج،قالت((أنا وداد زوجة حبيب،لكنني لا أخ لي))،جف لساني،عرفت أنني أواجه محنة عاتية،قالت(( هل تعرف حبيب؟))،((أنا أيضاً أسمي حبيب!))،((لكنني لم أرك من قبل،أنت غريب من شكلك))،((يبدو أنني نسيت العنوان)).
بقينا دقائق قبل أن تتكلم((هل يمكنني أن أقدم لك خدمة؟))،((أنا متعب،ورائي سفر طويل،جئت أبحث عن وقت كي أرتاح قليلاً وأمضي))،سحبت شهيقاً عميقاً ودخلت البيت.
عدت إلى مكان النساء،جندي يقف،تقدم يطلب ناراً لسيجارته،((عفواً لم أدخن))،إلى أين تذهب؟))،(تسرحت وأريد العودة إلى البيت))
صمت.
((وأنت ماذا تنتظر؟))
((كانت هنا نساء دلالات))
((يبدو رغبتك مثل رغبتي))
((حتى البيوت التي كانت تتعاطى الأثم تبدلت))
((أنها الحرب،دائماً يبدلن أماكنهن،أنها شيطنة مجهولة))
((من أين أنت؟))
((من جلبلاء))
((من جلبلاء))
((وأنت))
((أنا من جلبلاء أيضاً))
((أبن بلدتي))
((أنا من رحاملة))
((وأنا من تل الجن))
((حسناً،رحمالة هو تل الجن،قل لي ماذا نعمل؟))
((علينا أن نبحث عن واحدة،أنهن كثيرات يجبن الكراجات))
مشينا.
في شارع بشّار تقدم صاحبي من عجوز:
((خالة أين نجد راحة))
رمقته:
((عندي))
((وقتنا محدد ووراءنا سفر طويل))
((تعالا وراءي))
مشينا وراءها،من زقاق لزقاق.
في بيت بائس،خائس الريحة،وجدنا أنفسنا أمام عجوز بدأت تتماحك وتحاول أن تتصابى.
قالت لصاحبي:
((يبدو أنك فحل تيس))
((أين هي؟))
جرجرته إلى الغرفة،بقيت واقفاً مرتعد الفرائص،بيت معتم،خانق،مرت دقائق كثيرة قبل أن يخرج صاحبي غاطساً في عرق نتن..قال:
((لا يوجد حل آخر))
((ماذا تعني))
((لا مفر،أنها خدعتنا،لكنها مقبولة طالما القضية هي نفسها))
لم أجد رغبة،خرجت العجوز،قالت:
((ها أبو تحرير،يبدو أنك ضبع))
((لا أرغب ركوب الحمير))
((ويحك))
رفعت ثوبها،هربت إلى الخارج،لحقني صاحبي:
((يمكنك أن تركبها بالمقلوب كما فعلت))
((كلا))
مشينا..قال:
((لم أعرف أسمك))
((حبيب))
وقف يرمقني:
((أنا أيضاً أسمي حبيب))
رمقته..((صدفة))
((كل شيء صدفة،أتعرف أن أسم هذه العاهرة يشبه أسم صاحبتي))
((وما أسمها هذه القردة))
((أسمها وداد))
وقفت أنظر إليه،نظر عميقاً فيّ:
((أنت تشبهني))
((وأنت أيضاً))
فتحت عيني،لم أجده،ربما ذاب بين عشرات الجنود،كانت الجموع تتصادم،جرجرت نفسي أمشي،سمعت صوتاً يغريني،كانت أصوات المركبات تتقاطع،ظلّ الصوت يرن في ذهني،واصلت سيري،قبل أن أجد يد تمسكني من الخلف،كانت تلك المرأة التي مهدت لي ساعة راحة.
((منذ فترة وأنت غائب))
((بحثت عنك كثيراً))
((أراك بملابس مدنية))
((تسرحت من الجيش))
((هذا أحسن،يمكنك أن تعيش معنا))
((وماذا أعمل معكم)
((مهنة مشرفة،يمكنك الحصول على مال كثير))
((وما هي مهنتك المشرفة))
((فتحت بيتاً في مكان آخر،يمكنك أن تعمل حارساً عندنا))
ضحكت أنا،ضحكت هي.
((لماذا تضحك))
((أنا مدير مدرسة))
((يا بو..توقعت أنك من الدائحين))
((أنا تعبان))
((كل شيء تغير،صارت الواحدة لا ترضي بخمسين ديناراً))
((وبيتك))
((بيتي فقط بيت عجائز))
((يبدو أنكن رخيصات))
((ثق كل الثقوب لها نفس الطعم))
((أريد واحدة سر مهر))
((مائة دينار،سمراء))
((بهذا السعر يمكنني أن أتزوج))
صمت.
((يوجد عندي غلمان صغار يشبهون البنات))
((لا..هذا ليس من طبعي))
((يمكنني أن أريحك))
((أنت))
((جربني؟!))
((أين))
((سندخل بيتاً،أجعل من نفسك أبناً لي))
جرجرتني إلى بيت،خرجت امرأة..قالت لها:
((جئنا من مكان بعيد،نريد بيت الراحة))
لم تشك،دخلنا غرفة متواضعة،أنشغلت المرأة بإعداد الشاي،تكلمت:
((سأنحني ويمكنك أن تفعل سريعاً))
صمت.
جاءت المرأة:
((يمكنكما أن تنتظرا دقائق))
خرجت من البيت،أنحت المرأة ورفعت ثوبها،كنت في غاية الحرج،لم أتمالك نفسي،وصرت ملتحماً،لم يدم لهاثي كثيراً،جلست كأن لم يحصل بيننا ذلك.
((أنها طريقة ممتعة،لم أجربها من قبل))
((لدي حرارة متبقية))
((يمكننا أن نقضي الظهيرة هنا))
((ليت هذا يحصل))
جاءت المرأة..تكلمت:
((سيأتي زوجي بعد قليل أنه بصدد جلب بعض الحاجيات))
((سنسلب راحتكم يا حليوة)
((بالعكس،أنتم ضيوف،يبدو أنكم من مكان بعيد))
((من ديالى،من جلبلاء))
((لم أسمع بهذا الأسم))
((ألم تسمعين الأنشودة ثلثين الـ طك لأهل ديالى؟))
((لا نملك تلفزيون ولا ندوخ رؤوسنا بالحرب))
سمعت طرقة الباب،هرعت وعادت،في تلك اللحظة وقفت على قدمي،أنتبهت المرأة.
((هل تعرفان بعضكما؟))
((صلاح!))
((حبيب))
ظلت المرأتان حائرتان،..تكلم(صلاح)):
((من أتى بك إلى هنا؟))
((أنا))قالت العجوز.
رمقت صاحبة البيت،كانت تعالج خجلها،بعدما أنكشف كذبها،مسكني من يدي وأخرجني إلى الباحة:
((وجودك غريب هنا))
حكيت له كل شيء،عدنا..تكلم(صلاح):
((لا داعي أن نبقى هكذا،لنتكلم بصراحة،أنها فرصة أن نفعل من غير لف ولا دوران))
((قلتِ أنه أبنك))تكلمت المرأة.
((كنا نبحث عن مكان وكان متضايقاً))أجابت العجوز.
خرجت وعادت..تكلمت:
((خذا راحتكما))
خرجت برفقة(صلاح)إلى غرفة أخرى.
((أشتهيتها))
((وأنا))
((أخذتِ ما عندي))
((ومن يقول أنها سترضى بك؟))
((يمكنني أن أطلب ذلك))
طال الوقت وحبلت الظهيرة،لم يخرجا،ولم أجد بد،كان يجب أن أتخلص من كل ترسبات الحرب من داخلي،قبل العودة إلى مسقط الرأس من غير غبار وعرق وكوابيس.

24تشرين الثاني1981

اليوم تخلصت من جلد الحرب،رغم أن الحرب متواصلة،الحرب تمنح المحاربين فرص النذالة،دائماً في البلدات المفتوحة،يغدو الجندي لصاً،وإذا لم يلص،يغدو مخرباً،كل بلدة يدخلها الجيش،يعيثون الفساد والدمار،بدأت البلدة تعج بالمسروقات،ثلاجات عمودية وتلفزيونات ومجوهرات وبطانيات وقدور وأواني وملابس وأحذية،كل شيء صار معروضاً على الأرصفة،تقف سيارات عسكرية،يبقى الضابط خافياً ملامحه ببيريته أو بـ طأطأة رأسه،بينما مراسله أو سائقه ينزل أكوام الأشياء ليبيعها بثمنِ بخس ويمضون.
الحرب فساد،ليس للأخلاق فحسب،كل شيء يتلوث بنتانته،الهواء فاسد،الطعام فاسد،يمتد الفساد ليهيمن على العلاقات البشرية.
من جديد سأبدأ بالدوام.
من جديد بدأ القلب يرف،أين يا ترى(وداد).
***
((كلما أدنو من حائط/ترنو عينان تشبهان عينيها/أحتضن الحائط بسيل آهات/تنحدر على وجنتي جحفل كلمات/تمسكني يد/صرخة تقول:/تتبعني لا تزول/يا حمار..ليس هذا مكان إراقة البول))
***
4تشرين الأوّل1982

الأفراح في زمن الحرب سراب.
صعقني الخبر،يجب أن أعود مرة أخرى إلى الحرب،أنها القيادة،تفكر سريعاً وتندم سريعاً،تم أستدعاءنا من جديد إلى الحرب.
جاء على لسان الحاكم،أنه ندم بتسريح الـ كورد من الجيش،أنها فرصة للقضاء على العرب،عندها ستخلو البلاد لهم.
حلمي كان أن أخدم في نفس المكان،كي أستطيع أن أجد(ودادي)دائماً متوزعة بين أشلاء الأناث.
حلمي لم يأتِ كما رغبت رغبتي.
في صحراء،في شرق مبتلى بالرمال،وجدت نفسي من جديد جندي حرب.
أوّل المفاجآت،داخل الملجأ دخل شخص وتكلم،من صوته قفزت وصحت((شهاب خانقيني))،صاح((حبيب جلبلائي))،عادت لي الروح،أخذني إلى سريته،وفي ليلة صامتة وحالكة عمل لي عشاء تاريخياً،علبة لحم برازيلي وصمّون عسكري وشاي حار.
لم تعد رغباتي الجسدية حافلة بثوريتها،كل شيء تغير،لم تعد المشاعر ملاذاً،ليس أمامنا سوى عدو قريب.
نعيش في غرف طينية وسط رمال وريح غاضبة،الجنود يلعبون الورق،لا أملك سوى الصحف التي تأتي بعد يومين إلينا،لا شيء سوى قصص حربية،تتكرر يومياً،على ما يبدو كتّابها يكتبونها كما يشربون الماء،أو كما يبولون وقوفاً خلف الحيطان أو في مبولات الكراجات الصاخبة.
***
22تشرين الثاني1982

ما رد لي بقايا روحي،ألتقيت برفيق من بلدتي(جلبلاء)،في كراج النهضة ألتقينا،في مطعم على الطريق تغدينا معاً،في ليل بهيم مشينا،مشينا إلى وحدتنا.
قال لي:
((أسمي ـ بدر ـ ))
قلت له:
((حبيب))
حاول أن يزعجني،ظلّ مثل مستجوب في دائرة أمن يريد أن يجرجرني إلى حياتي الخائسة.
رفيق مهذب،كثير السؤال،عرفت أنه يكتب حكايات،كانت عنده رغبة أن يكتب عن كل شيء يسمعه.
أفادني ببعض الكتب،كنّا نلتقي ما بين فترة وأخرى،لنتحاور حول قضايا لا تخلو من مطاردات مزاجية،كلها تصب في صحن العاطفة.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل