الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوحمارة في -درب مولاي الشريف-

عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)

2014 / 10 / 22
الادب والفن


بعد أعوام طويلة، سمحت لي العائلة بالدخول إلى الغرفة التي تحتضن خزانة جدي من والدي. كان جدي موظفا عدليا بمحكمة فاس في عهد السلطان المولى عمر بن إدريس الجيلالي الأول.
بقيت أياما أتأمل وأشاهد الرفوف المليئة بالمجلدات والملفات والجذاذات القديمة، وقد علاها الغبار وأتلفتها الأرضة وحشرات الورق.
رهبة المكان كانت تتملكني وتسيطر علي فأغادر على الفور هاربا.
ذات مرة تشجعت، قلت لأهزم التردد الذي بداخلي، ربما لن تتاح لي الفرصة ثانية، بعد أن تمنيتها زمنا وطال انتظاري لها.
مددت يدا مرتعشة، وببطء أخذت مجلدا ضخما. نفخت على غلافه فتطاير الغبار على وجهي. بسملت وفتحت الكتاب. كان مكتوبا بخط مغربي قديم، وحواشي صفحاته منمقة بالزعفران ومح البيض. لم أتبين كل الكلمات والحروف. أخذت أتهجاها. فجأة رأيت الحروف تتجمع وسط الصفحة ثم تتضاءل حتى تصير بحجم نقطة. ورأيت النقطة تطير كنملة مجنحة وتحط ببؤبؤ عيني.

تكرر الأمر مع كل صفحة كنت أفتحها، حتى عاد الكتاب عبارة عن أوراق بيضاء.

دخلت "سين"، وقفت تحدق في وجهي قبل أن تنطق. قالت مندهشة:

- أوووه.. ما أجمل عينيك. لقد زينهما الكحل الذي وضعته بشكل فاتن وساحر.

وسألتني قليلا من نفس الكحل.
جريت إلى المرآة، فإذا بي أراني وقد أصبحت لي عينيان واسعتان شديدتا السواد.
طوقتني "سين"، تتوسل وتلح في طلبها أن أمنحها قليلا من الكحل السحري. أعطيتها الكتاب الذي كان بيدي.

ما أن فتحت "سين" صفحات الكتاب تقلبها، حتى طار بياض الصفحات إلى عينيها. صاحت تبكي وتولول:

- عيني.. عيني.. لا أرى شيئا، هل أطفأت النور؟

هرعت إليها مفزوعا، لأرى عيني "سين" من دون بؤبؤ، فقط البياض يجللهما. لم أعرف ما الذي علي فعله. فإذا بصوت مكتوم يطالبني بأن أجلس وأكتب سيرة جدي على صفحات الكتاب الفارغة أوراقه. حينها سيعود البصر إلى "سين". لكني وجدتني عاجزا عن التذكر. لا أعرف ما أقدم ولا ما أؤخر.
كانت "سين" ما زالت تولول حينما أتاها هي الأخرى نداء مكتوم، يطالبها بالتوقف عن البكاء، والقيام بإملاء ما سيخطر ببالها علي.
استغرق الأمر أعواما. عندما وصلنا إلى ملء منتصف صفحات الكتاب، عاد البصر إلى العين اليمنى ل"سين". وعندما أنهينا تسويد الكتاب كله، عاد البصر لعينها اليسرى، لكن بدرجة أقل.
فرحنا وقررنا أن نخرج، نغادر المكان القديم، لنحتفل بنجاتنا. وجدتني وحدي في الحديقة العمومية المعروفة باسم"جردة مردوخ"، القريبة من القصر الملكي بحي الأحباس. كنت أتفرج على أطفال صغار يركضون وراء كرة حمراء ويلعبون. ناديت على "سين" فلبت ندائي طفلة صغيرة بضفيرة، وقفت أمامي وقالت مبتسمة:

- ياه.. ما أحلى عينيك يا بابا، أكيد ستعجبان ماما.

وعادت للعب مع أقرانها من الأطفال.
تعجبت للشبه الكبير للطفلة ب"سين"، لكن"سين" لم أكن أنا والدها، فأنا لم أكن متزوجا آنذاك.

تركت الطفلة الصغيرة مع الأطفال يلعبون، واتصلت بوالدتي أسألها عن مصير خزانة جدي. ردت علي مستغربة أنها لا تعرف عما أتكلم.
قلت:
- كيف نسيت أن الزهيمر سيطر على آخر قلاع ذاكرة والدتي.

اتصلت بأفراد آخرين من العائلة، أسألهم عن مصير خزانة جدي، وكانوا كلهم يردون علي بنفس الجواب.

- لا علم لنا بكون جدك كانت لديه خزانة كتب.
- متى كان جدك متعلما ليمتلك خزانة كتب؟
- جدك كان فلاحا أميا، لا يقرأ ولا يكتب.
- جميع أجدادك لم يمروا بمدرسة أو مسيد.
لكن...
- ألم يكن جدي موظفا بالعدلية زمن المولى عمر الأول، بل إنه كاد يبلغ مرتبة الصدر الأعظم؟
ضحكوا مني، ورثى بعضهم لحالي.
تساءل آخرون مستنكرين:
- ما هذا الهذيان الصادر منك يا ابن العم؟
ابتعدت عنهم ووصفتهم جميعا في سري بالأغبياء الجاهلين لتاريخهم ولكل التاريخ.
ذهبت إلى المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، على مقربة من "باب الرواح". استقبلتني القيمة على المكتبة بود. تسأل مساعدتي. طلبت منها كتابا حول السلطان المولى عمر بن إدريس الجيلالي. نظرت إلي نظرات لم أفهم معناها، وتكلمت فأنكرت أن يكون أحد من السلاطين عبر السلالات المتعاقبة على حكم المغرب منذ دولة الأدارسة، قد يكون حاملا لمثل هذا الاسم الغريب. ابتسمت معبرا عن استخفافي بهذه المرأة وجهلها. كيف يضعون الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب؟
لكن القيمة على المكتبة تسلحت بالصبر والأناة، وحاولت مسايرتي. سألتني عن الفترة التاريخية التي أقصد، فقلت لها نهاية القرن التاسع عشر. فردت علي:
- هذه فترة عهد المولى الحسن الأول من سلاطين الدولة العلوية.
لما ألححت وأصررت، استعانت القيمة بمدير المكتبة، الذي استقبلني ببشاشة، أخبرته الموظفة بأمري، لأراه يتخلى عن لباقته وينخرط في ضحك مسترسل. استرجع توازنه بعدها، وأخذ يطالع قسمات وجهي، سألني هل أنا في كامل قواي العقلية أو شارب لمسكر أو محشش.
لم ينتظر المتجرئ جوابي، طلب كتابا قديما يشبه تماما المجلد الذي في خزانة جدي. وبدأ يقرأ علي من صفحاته، بعد أن طلب من القيمة العودة إلى مكتبها. أخذت أنا أستمع إليه باهتمام بالغ.
قرأ المدير بصوت مبحوح:
- هو عمر بن إدريس الجيلالي بن ادريس محمد اليوسفي الزرهوني، لقَّبه خصومه بالروكي وسموه باسم بوحمارة، هو ثائر ومعارض مغربي نازع على حكم المغرب. سيطر على المغرب الشرقي وأصبح يهدد السلطة المركزية .
ثم توقف المدير ليلاحظ وقع ما قرأه على وجهي.
طلبت أنا منه بأدب متابعة القراءة:
ابتسم الرجل الأصلع وأكمل:
- درس الجيلالي في سلك الطلبة المهندسين، حيث تمدرس في فاس وتلمسان والجزائر العاصمة وباريس. وخدم كطوبوغرافي في الجيش، ليصير بعد ذلك موظفا في القصر السلطاني في مراكش.
ثم رأيت المدير يقلب الصفحات، ويقفز على كثير من الفقرات. ورفع رأسه قائلا:
- باختصار هذا المارق الزنديق ثار على السلطان وأثار الفتنة في البلاد، وبعد القبض عليه تم وضعه داخل قفص، وطافوا به مدينة فاس قبل إعدامه وإلقاء جثثه للوحوش، فنال جزاءه.
اقشعر بدني عند نطق الرجل الأصلع بالعبارة الأخيرة، "وألقوا بجثته إلى الوحوش". وقفت مستأذنا الانصراف، شاكرا السيد المدير على المعلومات التي أفادني بها.

اتجهت صوب الباب أهم بالمغادرة، ما أن وضعت قدمي على عتبة الخروج حتى ارتمى علي مجموعة من الرجال الشداد الغلاض، وضعوا القيد في يدي، والعصابة على عيني، رموني داخل سيارة، وساقوني إلى مكان مجهول. سأعرف لاحقا أنه "درب مولاي الشريف" بالدار البيضاء.
بعد أشهر من التعذيب انتزعوا مني اعترافات وقعت عليها مرغما.
وأمام وكيل الملك لفقوا لي تهما ثقيلة، منها: التآمر على الوطن، وزعزعة استقرار البلاد، والإخلال بالنظام العام.
ولما رأى وكيل الملك جمال وسواد عيني أخذ يتحرش بي. فشتمته، لأجدهم قد أضافوا إلى ملفي تهمة التشبه بالنساء.
كان ملفي يحمل اسم: "بوحمارة ومن معه"، ولم يكن أحد في الملف سواي، ولم أكن قرأت من قبل عن بوحمارة ولا كنت من أتباعه.
في السجن منحوني رقما لا زلت أحفظه: 19651029. وفي كل يوم كانوا يغيرون اسمي. في الصباح يكون اسمي عبد اللطيف زروال، وفي المساء ينادونني بعمر دهكون، وفي الغد الموالي يصير اسمي عمر بنجلون، أو المهدي بنبركة، وبعده يسمونني محمد كرينة، أو محمد أمين التهاني أو اجبيهة رحال، أو محمود بنونة، وأسماء أخرى لا زلت أحفظها كلها. بل إنهم كانوا يسخرون مني أحيانا، ويشبهونني بالمرأة، فينادونني باسم سعيدة المنبهي، أو الأم فاما. صار اسمي كل هذه الأسماء. وها أنا أستأنف حكم إعدامي بعد تنفيذه. التفتت إلي أسمائي وأشارت علي بمقاطعة المحكمة، وعدم الرد على أسئلة القضاة. أضافوا إلي أحكاما أخرى بالإعدام. وحدد تاريخ التنفيذ يوم 20 فبراير من كل سنة منصرمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل