الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منزلنا الريفي (63)

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2014 / 10 / 24
الادب والفن


إلى أمي، إلى أسرتي، إلى بلادي ...

لماذا اهتممت بالفلسفة ؟

إنه سؤال لطالما طرح علي من قبل أصدقائي وأقاربي، فهم يطرحون علي هذا السؤال كأنهم يعرفونني، ولكن الأمر ليس كذلك، فتلك المعرفة التي يعرفونها عني هي معرفة سطحية لا تنفذ إلى كينونتي، فهذه الأخيرة منذ أن وجدت نفسها في العالم، وفي مواجهة الآخرين حاولت أن توظف كل الوسائل لكي تبحث عن أصلها، وأن تفهم ذاتها والآخرين والعالم، إن معرفة هذه العناصر الوجودية ليست معطاة، بل مبنية، والذي يبنيها هو الأنا، فكانت رحلة البناء من أجل تشكيل صورة عن الذات والآخر والعالم.
ولدت في أسرة قروية لا تملك ثقافة عالمة، بل تملك ثقافة شعبية بمثابة إجابة وجودية عن الحياة، لم يكن يشغل هذه الأسرة الزاد الثقافي، بل يعتبر الخبز هو الهم اليومي، ومن ثمة عانت من الفقر الثقافي والاقتصادي على حد سواء. في هذه الظروف ولد ذلك الأنا، ترتسم صورة الوالد على محيا ذاكرته، يظهر له عائدا من العمل، متعبا، حاملا بقايا خبز، يلتقيه بفرح طفولي، يعانقه، فيعطيه كسرة خبز، وتحت تلك الشجرة الوارفة تجلس الأم، وهي تخض اللبن، يجلس بالقرب، تشبعه ثقافة شعبية ملؤها الحكايات والأمثال، مثل حكاية هاينة ونهايتها المأساوية. كانت الطبيعة هي المجال الذي يتحرك فيه، فمنزله الريفي تحيط به الغابة، والصخور الكلسية الرابضة على السفوح، فلطالما كان يرافق والدته نحو المرعى، ويرتع بين الأغنام، وينام بين الأعشاب، ويعاين رحلات السنونو في السماء، تعلق بالطبيعة حد الجنون، وما عاد يستهويه شيء آخر، لكن سؤالا ظل يحير هيامه بالطبيعة، من أين أتينا ؟ وما أصلنا ؟ خلال العطل، كان يرافق أخته إلى الطبيعة، وما فتئ يطرح عليها هذا السؤال، وكانت تجيبه بالقول : أن جسدنا من تراب، وروحنا من السماء، فالروح هي التي تضفي الحركة على الجسد، وتجعله قابلا للحياة، إنها طاقة حيوية تسري في الجسد، وحينما يموت الإنسان، تغادر روحه السماء، ويلتحم جسده بالأرض. تقول الأخت أننا مهاجرون، أما بلادنا الأصلية هي السماء، وتلك الأجساد التي نحن عليها فانية كالدواب التي نركب عليها خلال سفرنا من مكان إلى آخر، ومن ثمة تكون أرضنا هي السماء. لم تكن هذه الفكرة لتعجبه، بل ظل على الدوام يطرح السؤال تلو السؤال، تقول الأخت أن الطبيعة هي أجساد بلا حركة، ولكنها نسيت أن الطبيعة هي الحركة، فلتنظر إلى الإنسان كيف يكون، وكيف يصبح، فالحركة هي قانون الطبيعة، هي الروح الناظمة لها، إن الطبيعة متحركة من تلقاء ذاتها، لا تحتاج إلى السماء، فالأجساد حينما تتوقف عن الحركة، فإنها تشارك في الحركة الكلية للطبيعة، ومن ثمة فهي لا تموت، بل تنضوي تحت الحياة الزاخرة للطبيعة، فليست الطبيعة سوى انتقال لأشكال الحياة، لذا فالإنسان لا يموت، بل يتماهى مع الطبيعة، ثم إن أفكارنا التي نحمل ليست هي روحنا أي ذلك الجزء الذي يضفي الحياة على الإنسان، بل لا تمثل سوى انعكاس للطبيعة في حركتها وعنفوانها، ومن ثمة تكون أجسادنا هي صدى للطبيعة.
تعتبر الأرض هي بلادي، وكل تراب فوقها يعني لي رمزا مقدسا، كما تعتبر المياه رمزا للحياة، أما الغابة فهي الطريق لاكتشاف الحياة، لكن في قريتنا لم يعد التعلق بالأرض يحظى بالقيمة، فإذا كانت الأرض هي أمنا التي تمنحنا ثديها بكل سخاء، فإن القرويين تنكروا لهذه الأم، كما تنكروا لثديها المدرار الذي يزودهم بالمياه. منذ بيع الأرض سنة 1987، توقفت المنابع عن السيلان، وعرف الوادي أسوأ جفاف، فأبيدت الأسماك، وجفت الآبار، ولم يبق أمام الكرزازيين سوى أن يذهبوا لأماكن أخرى، أو أن يتوسلوا الذي باعوا له الأرض مقابل قطرة من المياه. حفرت الجماعة بئرا، لكن مياهه غير صالحة للشرب، وفي السنوات الأخيرة أدخلت المياه عبر السواقي، لكن هذه المياه اصطناعية.
هذا هو مجالي، واهتمامي بالفلسفة كان من أجل أن أفهم ذاتي، وأفهم هذا العالم الذي أتحدر منه، وهذا الفهم لن يحصل سوى بالسؤال باعتباره أداة من أدوات التفكير الفلسفي، فإذا أردت أن أفهم، علي أن أشق دروب ذاتي بالسؤال، وعلي ألا أركن للجاهز، بل علي أن أسأل دائما. إن العالم ليس معطى، بل مغلف بالوثوقيات خصوصا في الوسط القروي الذي أتحدر منه، فهو مليء بالتوافه التي تقودني نحو عدم السؤال، فمسألة الأرض ليست هاجسا لديهم، هاجسهم هو إشباع البطن، وتكثير النسل، أما ماذا يأكل هذا النسل؟ وأين يدرس؟ وأين يتطبب ؟ وأين ينام ؟ وأين يلعب ؟ وأين هي الطريق التي يسلكها ليتوجه إلى المدرسة ؟ كل هذه الهواجس مغيبة، في عداد الممنوع التفكير فيه، ومن ثمة نصنع جيشا من القطيع، مبتورا من الحقوق، همه هو أن يأكل وينام، ولا يفكر، ولا يحقق التوازن النفسي المطلوب...إن دور الفلسفة هو فضح هذه اللعبة المقيتة مبرزة أن الإنسان من حقه أن يفهم، ولا ينبغي بتر هذا الحق. لذا تكون الفلسفة هي جسر ليتصالح الإنسان مع ذاته ومع العالم مستعملا في ذلك تفكيرا نقديا ما فتئ يطرح السؤال مكسرا كل القيود والأغلال، لكي يصبح الإنسان سيد نفسه.

ع ع / 24 أكتوبر 2014/ المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نصير شمة يحتفل باليوبيل الفضي لتأسيس بيت العود العربي في الق


.. فنانة شهيرة تتمنى خروج جنازتها من المسرح القومي




.. بايدن عن أدائه الضعيف بالمناظرة: كنت أشعر بالإرهاق من السفر


.. قضية دفع ترامب أموالا لممثلة أفلام إباحية: تأجيل الحكم حتى 1




.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر