الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


2 - ملحمة كربلاء

بتول قاسم ناصر

2014 / 10 / 25
الادب والفن




أطلق لفظ (ملحمة) على واقعة كربلاء وما جرى فيها من فعل بطولي كما في قول الأخطل:
حتى يكون لهم بالطف ملحمة
وبالثوية لم ينبض بها وتر

ومع أن لفظ (ملحمة) في اللغة يتصل بمصطلح (الملحمة) في النظرية الأدبية والنقدية إلا اننا نقصد المصطلح الأدبي ونريد أن ندلل على أن الذي قيل في الواقعة التاريخية التي حدثت في كربلاء وعبر عنها يرقى إلى مستوى فن الملحمة كما عرف عبر تأريخ هذا الفن.
لقد قيل ان الأدب العربي يخلو من فن الملحمة الا ما عرف من الملاحم الشعبية التي لاترقى إلى المكانة الأدبية التي لهذا الفن مثل (أبي زيد الهلالي) و (سيف بن ذي يزن) و (الزير سالم)، ومن بعض القصائد التي تضمنت معاني بطولية ولكن ليس لها البناء الفني المكتمل الذي للملاحم العالمية المعروفة. ومن هذه القصائد معلقة عمرو بن كلثوم ومعلقة الحارث بن حلزة ومعلقة عنترة. ومن الأعمال التي نظمت في العصر الحديث والتي فيها هذا النفس الملحمي الذي عرفته القصائد القديمة المذكورة : (الإلياذة الإسلامية) لأحمد محرم وهي عن سيرة الرسول الأكرم (ص) وجهاده مع صحابته الأخيار. والقصيدة العلوية المباركة لعبد المسيح الأنطاكي التي يبلغ عدد أبياتها (5595) بيتاً. وملحمة الشاعر الشيخ كاظم الأزري المعروفة بالأزرية وهي كذلك في مدح الرسول (ص) وذكر مفاخره وأمجاده وكذلك في مدح وذكر الإمام علي (ع) وتبلغ ألف بيت من الشعر. و (ملحمة أهل البيت عليهم السلام) للشيخ الفرطوسي. وقصيدة الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري (تنويمة الجياع). وهناك أعمال أخرى.
إن هذا يعني أن الأدب العربي ـ ومن خلال هذه الأعمال التي تذكرها الدراسات كنماذج للفن الملحمي ـ لم يعرف الملحمة بمواصفاتها الفنية الكاملة أو القريبة من الكمال لافي الماضي ولا في الحاضر. وقد ذهبت الدراسات في تعليل افتقار أدبنا إلى فن الملحمة مذاهب شتى، وحاولت أن تلتمس أسباباً لذلك منها : إن العرب نظموا قديماً في هذا النوع الأدبي إلا أن ما بقي منه إلى عهد التدوين والرواية مما تذكر فيه أخبار الحروب قليل جداً. ومنها أن الأوزان الشعرية العربية أكثر تقييداً وأكثر انضباطاً من أوزان الشعر لدى الأمم الأخرى. كما أن ميل العرب إلى الإيجاز حال دون سعيهم إلى الإطالة الشديدة التي يقتضيها الفن الملحمي. وأن خيال الجاهليين لم يتسع للملاحم والقصص الطويلة لأنه انحصر في بادية متشابهة الصور محدودة المناظر. ثم لفرديتهم وضعف الروح القومية الإجتماعية فيهم. ولماديتهم وكثافة روحانيتهم وقلة خطر الدين في قلوبهم وقصر نظرهم عما وراء الطبيعة، فلم يلتفتوا إلى أبعد من ذاتهم ولا إلى عالم غير العالم المنظور ولم تتولد عندهم الأساطير الخصيبة، ولم يكن لأصنامهم من الفن والجمال مايبعث الوحي في النفوس شأن أصنام اليونان والرومان، فقل من ذكر منهم أوثانه واستوحاها في شعره. ولم يساعدهم مجتمعهم على التأمل الطويل وربط الأفكار وفسح آفاق الخيال لاضطراب حياتهم برحيل مستمر، فجاء نفسهم قصيراً كإقامتهم وخيالهم متقطعاً كحياتهم، صافياً واضحاً كسمائهم، داني التصور محدود الألوان كطبيعتهم. وكانت ثقافتهم الأدبية فطرية خالصة يأخذ بعضهم من بعض ولا يقبلون لقاح الآداب الأجنبية الراقية لجهالتهم وانعزال باديتهم وتمردها. وكانت علومهم محدودة لاتفتح النور للنظر في النفس وما وراء عالم النفس.

وفضلاً عما ذكرنا من تفسير قد يفسرون عدم ميل العرب إلى النظم في هذا اللون الأدبي أن الوثنية العربية في الجاهلية لم تكن تلك الوثنية المكتملة المعقدة والمركبة، بل كانت وثنية في أبسط أشكالها وكانت تتعايش مع مذاهب توحيدية كاليهودية والنصرانية.(1)
ولم تقف الدراسات عند ما قيل في (ملحمة كربلاء) من الشعر الذي يرقى إلى مستوى الملحمة الشعرية بما تضمنت من مقومات تلتقي مع مقومات الملحمة كما عرفها تاريخ الأدب العالمي. فما قيل هو ملحمة في الشعر عبرت عن ملحمة في الواقع التاريخي .
وأذا أردنا أن نرجع إلى مقومات الملحمة وعناصرها التي استخلصت من الملاحم العالمية والتي تقررها نظرية الأدب والنقد وما سبق أن أوجزناه منها من أجل أن نحدد العناصر والمظاهر الملحمية في واقعة كربلاء وما قيل فيها من الشعر، فإننا نستطيع أن نؤكد كثيراً من هذه العناصر والمظاهر، منها:
المرجعية التاريخية، فالملاحم ترتبط باحداث تاريخية كبرى كحرب طراودة في الألياذة والاوذيسة . ولقد نهضت ملحمة كربلاء على حدث كبير ومهم في التاريخ لايرتبط فقط بالزمن الآني الذي حدثت فيه الملحمة (وهو واقعة الحرب التي حدثت في العام (61) من الهجرة) إنما يمتد ليشمل ممهدات هذا الحدث التاريخية التي أدت اليه والتي تمتد إلى عهد الصراع بين الإمام علي بن أبي طالب (ع) ومعاوية بن أبي سفيان، والذي تمتد جذوره إلى ما بعد وفاة الرسول (ص) وما جرى من خلاف حول تولي الخلافة ثم انحراف حال الخلافة عن جوهر الحكم الأسلامي خاصة في عهد معاوية وابنه يزيد.
واذا كان العهد الذي كتب بين الإمام الحسن ومعاوية قد ألزم الإمام الحسين بعدم الخروج على ذلك العهد بعد أستشهاد الإمام الحسن لأن الطرف الآخر من المتعاهدين (معاوية) مازال على قيد الحياة، فإن وفاة معاوية وعدم احترامه لبنود العهد أعطى الإمام الحسين المبرر للتحرر من هذا العهد. وهذا ماكان يخشاه معاوية، لذا حذر ابنه يزيد قبل أن يموت من خروج الإمام الحسين عليه، وقد آلى عليه أن يلزم الحسين بالبيعة له أو قتله إن أبى . ولقد كان جواب الإمام على طلب المبايعة كلمته الخالدة : (ان مثلي لايبايع مثله)، ولم يبق أمام الإمام إلا المواجهة، كما لم يبق أمام يزيد الا السعي لقتل الإمام تنفيذاً لوصية معاوية.
وكان لابد للإمام الحسين أن يؤمن للمواجهة وسائلها وامكاناتها، وكان على أتصال بأنصاره وشيعة والده في الاقطار الأخرى ولاسيما العراق الذي كان يوماً ما يضم عاصمة الخلافة في عهد والده. ولقد كان الإمام يفضل الخروج إلى العراق على الرغم من نصائح المقربين منه. كما كان الإمام علي يفضل أهل العراق بالرغم من عدم سهولة انقيادهم اليه، لأنهم أمة تمتاز برقيها العقلي، والإمام يبحث عن أمة بمستواه، وعن متلقِ بمستوى مايحمل من علم ومعرفة ومن بطولة وثبات على الحق وكل القيم التي كان مجبولاً عليها والتي وجد أهل العراق أقربهم منها. لذلك كله كان يفضلهم ولقد أختارهم على اهل الشام . ونستطيع أن نعرف من كلامه في (نهج البلاغة) أنه لا يفضل أي أقوام أخرى عليهم بالرغم من أن منهم من لم يسلسوا له القياد وعصوه وأفسدوا عليه رأيه بالخذلان. ويرى بعض الباحثين أن ما بدر من أهل العراق إنما هو أمر طبيعي (فإذا ارتقى فكر أمة صعب أنقيادها). لقد كان العراقيون أهل جدل وهو من طبيعة العقل الذي يمتلكون، كما كان غيرهم أهل انقياد يسيرهم الحكام أنى شاؤوا.
اذن لقد اختار الإمام الحسين العراق كما أختاره أبوه بعد أن ارسل اليه شيعته وانصاره بأن يقدم عليهم ليكون له الحكم بالحق والعدل وليتولى اصلاح أمر الأمة التي شاء لها حكامها المنحرفون أن تنحرف. ولكن الأحداث تتطور وتتسارع فتتقابل ارادة قوى الخير المتمثلة بالإمام (ع) وأنصاره، وارادة قوى الشر متمثلة بيزيد وواليه على العراق وجيشه، ولتنتهي النهاية المأساوية التي نعرفها. ولكنها وإن انتهت هذه النهاية فإنها انطوت على معان عظيمة من التزام الحق والخير والبطولة والصبر والتضحية وكل القيم التي جسدها أبو عبد الله والتي جعلت الحسين هو المنتصر.
لقد عبرت واقعة كربلاء عن مرحلة من ماضي الأمة القومي، والماضي القومي هو موضوع الملحمة و إنسان الملحمة هو إنسان الماضي المطلق البطولي في عالم البدايات والقمم في التاريخ القومي للشعوب . واذا كانت سيرة البطل في الملحمة هي الرابط الأساسي لأحداثها، فأن سيرة الإمام الحسين هي المحور الذي تدور حوله كل الأحداث، وترتبط به كل الأحداث. وإن وحدة الذات ترتبط بوحدة الحدث الموضوعي، ولكنها تطغى عليه وتسيطر عليه وتوجهه. فالحدث الملحمي يرتبط بفرد واحد متميز وفاعل، والفعل يكون بمبادرة فرد واحد متميز، هذا الفرد مؤهل لأن يقود الأمة ويمثل طموحاتها حتى يذوب فيها وتذوب فيه، وهذا ما تجسد بشخصية الإمام الحسين. كان الإمام الحسين قائداً للامة التي كانت بحاجة إلى من يقودها ويدافع عن مصالحها العامة والخاصة ويزرع فيها القيم الأخلاقية العليا التي تربي في الإنسان روح النضال ضد الشر وكل ما ينزل بالإنسان عن مستوى الإنسانية ، وتدعوه إلى الإندفاع ونبذ التردد لتحقيق كل ما هو سامِ واصيل. لقد وجد الإمام نفسه أمام مسؤولياته التاريخية، الحكم الأموي الظالم والأمة المسلمة المظلومة، فكان لابد من فعل بطولي ينتصر للمظلوم من الظالم.
إن البطولة هي احدى المقومات المهمة التي تقوم عليها الملحمة . وينطلق مفهوم البطولة في الملاحم من رؤية للحياة مفادها أن الخلود إنما يكمن بالعمل الشجاع الصالح والتضحية من أجل الآخرين. كما ينطلق من مبدأ تحدي الصعاب والتوق إلى الحرية وعدم التخاذل والتضحية بالنفس في سبيل المجموع. أما فعل البطولة فيكون إما فعلاً جماعياً أو فردياً يعبر عن روح الجماعة وإرادتها . وكان فعل البطولة في كربلاء فعلاً فردياً خذلت فيه الجماعة، ولكنه فعل ارتقى بالجماعات والأمم، وكان بمستوى فعل كل الطاقات لكل الجماعات والأمم لو أرادت أن تبادر إلى فعل بطولي.
إن الملحمة ترتبط بالأمم و الشعوب وتعبر عن روحها وتاريخها وتتغنى بأمجادها وتعكس تصوراتها ودرجة وعيها. وتؤكد نظرية الملحمة وجوب أن تمثل هذه الأمة بمآثرها وبطولاتها الإنسانية جمعاء، حتى لكأن الإنسانية تتغنى بها وبأمجادها. إن هذه الكلية التي تربط الملحمة بوحدة كاملة هي سر جمالية الملحمة كما يرى هيجل.
لقد عبر أبطال كربلاء عن تطلعات الأمة وإرادتها . ولقد أثرت بنتائجها في حياة هذه الأمة، فلقد هزت فاجعة كربلاء الضمير الإسلامي وانفعل بها المجتمع الإسلامي بصفة عامة انفعالاً عميقاً، ولقد كان هذا كفيلاً بأن يلهب في النفس ما يدفعها إلى الدفاع عن كرامتها وإنسانيتها ومقدساتها ضد من تجاوز هذه الثوابت العليا. وبهذا يمكن وصفها بانها صراع يثير صراعاً، صراع بين معسكرين للحق والباطل، وبين فكرتين للخير والشر. والصراع من العناصر الملحمية المهمة، وينطلق من المرجعية التاريخية، فهو صراع بين أمم وشعوب أو طوائف أو أحزاب تتأجج بينها عوامل الحرب والنزاع لأسباب المصلحة المادية أو لأسباب فكرية عقائدية. ولقد عبرت ملحمة كربلاء عن دواعي الصراع هذه، فهي نزاع بين طرفين يتسلحان بفكرين مختلفين : فكر يعبر عن المثل العليا التي تجعله يعلو على الواقع ويتسامى على مصالحه. وفكر يؤثر الدنيا ومنافعه الخاصة فلا يتجاوز حدوده الذاتية الضيقة.
وقد يرافق هذا الصراع صراع داخلي قد يكون عاملاً في تطور مواقف أبطال الملاحم. ويذكرنا هذا الصراع بما دار في نفس (الحر) رضوان الله تعالى عليه من جدل داخلي بين رغبتين : رغبة في الإستمرار في الحياة حيث الظلم والذل، ورغبة في تجاوز هذه الحياة إلى الوجود المطلق حيث العدل والعز الذي لا هوان بعده.
وهناك صراع آخر يتجلى في الملاحم بصورة الصراع مع القدر والآلهة، إذ يسود سلطان القدر واذ لايتصرف الإنسان بحرية كاملة. والإنسان في الملاحم قد يتمرد على الآلهة وتجبرها محاولاً التخلص من تحكمها بحياته. وفي ملحمة كربلاء يسود سلطان القدر وفيها نجد في كلام أبطالها وأشعارهم هذا الأحساس بسلطان الأقدار، ولكنه لايقود إلى تمرد بل نجد إذعاناً لإرادة الأقدار التي توجهها إرادة الله سبحانه وإظهار منتهى آيات الخضوع والتذلل لإرادتها، فالحسين عليه السلام يناجي ربه ويقول : (اللهم إن حبست عنا النصر فاجعل ذلك لما هو خير لعاقبتنا). ولا أقل منه في الموقف أخته السيدة العظيمة زينب (ع) عندما تحاول رفع جسد أخيها المقطوع الرأس من الأرض وهي تتوسل إلى ربها بأن يتقبل منهم هذا القربان، في الوقت الذي يتزلزل كيانها من هذا المصير، وتحس أن الوجود كله يكاد أن يتهاوى. وكان الإذعان لإرادة الله صفة كل المؤمنين الذين وقفوا في صف آل البيت الكرام في يوم عاشوراء. وكان لهؤلاء دور واضح في تأكيد فعل البطولة وفي التفاعل مع الأحداث والإستجابة الفاعلة للواجب المقدس. وفي الملاحم الكبرى نجد مثل هؤلاء الافراد الفاعلين قد تمثلت فيهم سمات (الأبطال القوميين) الذين بلغت لديهم طريقة التفكير والعمل المتميز لصالح قومهم أعلى درجاتها.
أما التفكير الأسطوري الذي يسود الملاحم والذي ينبثق من الأساطير القديمة والأيمان بأن الآلهة تشارك معهم في الأفعال، فإن هذا التفكير لانجده في ملحمة كربلاء لأنه نتيجة ثقافة لاتنطلق من التوحيد، الا أننا نجد من مظاهره في هذه الملحمة إضفاء الصفات الأسطورية على البشر، وإن كان هؤلاء الأشخاص هم أساطير بشرية تجسد فيهم ماهو خيال وتحولت فيهم الأسطورة إلى واقع.
ومن مظاهر التفكير الأسطوري الذي ترصده الدراسات في الملاحم تفسير بعض الظواهر الطبيعية بأنها غضب أو رضى إلهي. وفي ملحمة كربلاء تجسد مايعتقد أنه أسطورة واقعاً أكدته تجارب الذين عايشوا الحدث الكبير، فلقد ذكروا ان السماء أمطرت دماً وتجاوبت معها الأرض تنوح بحيوانها و نباتها .وامتدت الإستجابة متجاوزة عالم الظهور إلى عالم الكمون، فناحت الجن وفي كل مكان هتف هاتف.
ومن مظاهر التفكير الأسطوري في الملاحم إستثمار بعض الأساطير القديمة لاسيما فكرة المخلص أو الفادي أو غيرها . وهذا نجده في ملحمة كربلاء اعتقاداً كان يدور حول شخصية الإمام الحسين (ع) الذي اتخذ لنفسه هذا الدور الكبير، دور الإنسان المخلص الفادي الذي يريد أن ينجو بالناس من الإنحدار إلى دنيا الضلالة والهوان ليرفعهم إلى ماتريده لهم الرسالة وما أوصى به القران الكريم. ولولا تضحية الإمام وفداؤه لما استقام دين جده أو عاود الإستقامة عندما ينحرف بالدين الجهل والضلال.
هذا ما سبق لنا أن ذكرناه مما تبينه الدراسات من ملامح البناء الموضوعي للملاحم، وهو مااستطعنا أن نرصده في ملحمة كربلاء . أما ملامح البناء الفني، فأهم ماذكرناه مما تذكره تلك الدراسات من هذه الملامح : إنها صياغة شعرية، وإن الأحداث الكبرى التي تعبر عن مراحل في التاريخ القومي للجماعة التي تنتمي إليها الملحمة يعبر عنها بالشعر. فالملحمة قصة تحكى شعراً. وهي قصة شعرية طويلة تصل أو تتجاوز أبياتها الألف أو الآلاف من الأبيات. ولو جمعنا كل ما قيل في واقعة كربلاء من الشعر لوجدناه قصيدة ملحمية طويلة تقف بمستوى الملاحم العالمية الكبرى من حيث عدد أبيات الشعر التي قيلت فيها.
ومما تذكره الدراسات من ملامح الفن الملحمي الأخرى، إن هذه القصة الشعرية تروى بوساطة راوٍ أخذ معلوماته من مصادر أخرى وقام بتنظيم أحداثها والمحافظة على تسلسل سيرها. ولملحمة كربلاء رواة ومنشدون. وأول راوٍ لها هو (أبو مخنف)(2) الذي قدم سرداً لأحداثها ووصفاً لشخصياتها وحافظ على ما أُلقي فيها من شعر ولم ينظمها شعراً أو يربط بين الشعر الذي قيل فيها بلغة الشعر. ثم أصبح لملحمة كربلاء رواة أو منشدون ينشدونها في التجمعات العامة وفي أماكن التقاء الناس ويضفون عليها ما تستحقه من هيبة بطريقة إلقائهم المتميزة التي يمكن وصفها بالملحمية التي تستثير الحماسة والحزن. وهكذا تحولت الملحمة المقدسة إلى فن شعبي ينشد في الأوساط الشعبية والعامة بلغة العامة ويتلون بخيالهم. وهذا الراوي الذي نتحدث عنه ليس من ملامح البناء الفني في الملحمة. فليس هو الراوي الذي تصفه نظريات السرد الحديثة بأنه جزء من البنية الروائية التي يبتكرها الكاتب، أو هو جزء من التقنية التي يتبعها المؤلف والتي تحدد إسلوب العمل وطريقة بنائه. والذي هو بمنزلة قناع يرتديه المؤلف ليكون الوسيط بينه وبين القارئ(3). الراوي الذي نتحدث عنه في ملحمة كربلاء هو راو تاريخي وهو الكاتب الحقيقي للنص وهو جزء من البنية الإجتماعية والتاريخية التي اقترنت بالملحمة العظيمة.
والأمر الذي تختلف به ملحمة كربلاء كذلك عن بقية الملاحم في الأدب العالمي أن الشعر فيها ليس لمؤلف واحد هو الراوي، ولاهو تأليف جماعي للحادثة التاريخية ـ وان وجدنا لهذا مظهراً في الرواية الشعبية لملحمة كربلاء ـ فهذا الشعر إنما هو شعر قاله الابطال وحفظه من روى الحادثة ووقف على كلام أبطالها. والأمر الذي تختلف به رواية ملحمة كربلاء انها تبقى ترويها الأجيال للأجيال وترويها الدهور للدهور.
ومن المبادىء الفنية الأخرى التي تميز الملحمة، الحدث الذي يبنى على أسس فنية كأن يتكون من حلقات عدة مترابطة يوصل بعضها إلى بعض ولها بداية ونهاية. ولقد تتابعت الأحداث في كربلاء عن ممهدات تاريخية لها، وكانت لها نتائج تاريخية أيضا إذ ظلت المحرك للأحداث في التاريخ الاسلامي حتى تتحقق الأهداف التي قامت من أجلها.
ومن مبادئها الأخرى : الشخصية التي تتسم بعدد من السمات منها : البطولة النادرة، التي ترقى إلى مستوى الأسطورة ومجابهة المصاعب وعدم الإستسلام، والقدرة على قيادة الناس وتمثيلهم والتعبير عنهم، والتضحية بالنفس وبكل ما تملك وبالحاضر في سبيل مستقبل الآخرين، إستشرافاً لغايات عليا وأملاً بتحولها إلى واقع. وهذه السمات كانت تميز أبطال كربلاء وعلى رأسهم الإمام الحسين والعباس عليهما السلام، وباقي رجال آل البيت الكرام وحتى الناس الذين كانوا مغمورين لايعرفهم أحد ارتفعوا بمستوى فعلهم البطولي وبالقيم العليا التي عبروا عنها إلى مصاف الشخصيات الملحمية والأسطورية.
أما الزمن في الملاحم فهو ـ كما سبق أن ذكرنا ـ زمن تاريخي يعتمد السرد التاريخي على وفق وحدات زمنية مستقلة تشكل الأحداث المهمة في الملحمة. وسنجد عندما نقرأ في شعر ملحمة كربلاء أن أحداثها شكلت وحدات زمنية متصلة يؤدي بعضها إلى بعض وستبقى متصلة كما قلنا حتى تتجلى أهدافها في آخر حلقة من حلقات زمانها الملحمي.
الذي نستخلصه من حديثنا أن هناك خصائص وسمات ملحمية في واقعة كربلاء التاريخية وما قيل فيها من شعر يشكل بمجموعه قصيدة ملحمية طويلة عبرت عن الصراع السياسي والفكري المحتدم في ذلك المجتمع وعكست مستوى البطولة النادرة والمثل العليا وجسدت من خلال ذلك كله فعلاً ملحمياً خالداً انحنى له التاريخ إجلالاً وشهد بأنه أعظم ملحمة سجلتها صفحاته. لكننا من خلال حديثنا عن الملحمة بوصفها نوعاً أدبياً له خصائصه التي حفظتها النظرية الأدبية أو النقدية لانجد في (ملحمة كربلاء) كل عناصر وسمات الملحمة الكلاسيكية القديمة، ولكننا كذلك عرفنا أن نظرية الملحمة تطورت في الفكر النقدي العالمي وأصبح مصطلح (ملحمة) و (ملحمي) يطلق مثلاً على الرواية الحديثة والمسرح الحديث لأن فيهما من سمات الملاحم كما عرفت قديماً. وهذا يعني إن فقدان بعض عناصر الملحمة لايعني عدم القدرة على إطلاق تسمية (ملحمة) على الأعمال التي تتوفر على عناصر كثيرة أو قليلة منها.
ومن هنا يحق لنا أن نعد (ملحمة كربلاء) ملحمة أدبية وهي أقرب إلى فن الملاحم القديمة من غيرها من الأعمال التي حازت على التسمية بالملحمة لأن فيها ملامح أو أنفاساً ضعيفة منها. إن (ملحمة كربلاء) ملحمة الأدب العربي الإسلامي العظيمة الخالدة.
ــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1 ) ينظر : المعجم المفصل في اللغة والأدب. ج2 ص1192 و(أدباء العرب) ج1 ص 41-42
(2) هو لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الأزدي الغامدي، أبو مخنف صاحب المقتل رحمه الله. وقد عده بعض المؤرخين من رجال وأصحاب أمير المؤمنين عليه السلام. ويرى آخرون أن هذا غلط لأن لوط بن يحيى لم يلق أمير المؤمنين عليه السلام وكان أبوه يحيى من أصحابه. وفي رواية أخرى إنه من أصحاب الحسن عليه السلام، وفي ثالثة إنه من أصحاب الحسين عليه السلام، ورابعة من أصحاب الصادق عليه السلام. وذكروا أن له كتباً كثيرة في السير منها : أخبار مقتل الحسين وكتاب المختار بن أبي عبيدة الثقفي وكتاب مقتل محمد بن أبي بكر، وله كتاب مقتل عثمان وكتاب الجمل وكتاب صفين وكتاب خطبة الزهراء عليها السلام، وغير ذلك من الكتب وهي كثيرة. ولقد روى عنه هشام بن محمد الكلبي ونصر بن مزاحم المنقري، ومحمد بن جرير الطبري في كتابه (تاريخ الأمم والملوك) وابن الأثير في كتابه (الكامل) .. ينظر : مقتل أبي مخنف للمؤرخ الشهير لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن مسلم الأزدي الغامدي المتخذ من تاريخ الأمم والملوك للمؤرخ المحدث أبي جعفر محمد بن جرير الطبري / من منشورات المكتبة العامة لحضرة العلامة المحقق آية الله العظمى السيد شهاب الدين المرعشي النجفي، لحجة الإسلام والمسلمين آية الله الحاج ميرزا حسن الغفاري / المطبعة العلمية قم / محرم الحرام 1398.
(3) ينظر : الملحمية في الرواية العربية المعاصرة، ص 153 – 154 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال