الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موجز لمسيرة القطاع العام في سوريا

عادل شكيب محسن

2014 / 10 / 26
الادارة و الاقتصاد


شهدت ستينيات القرن العشرين تغيرات هامة وجذرية في التحول الاقتصادي في سوريا, فبعد نجاح ثورة الثامن من اذر عام 1963 بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي, اصبح الحزب هو القائد للدولة والمجتمع. وتم توجيه الاقتصاد السوري بشكل واضح وصريح نحو الاقتصاد الاشتراكي الذي يقوم على اساس التخطيط المركزي والملكية العامة لوسائل الانتاج وتنشيط دور القطاع العام في الدولة. فتم اعتماد سياسة التأميم من قبل الحكومة والتي افضت الى تأميم العديد من المصانع والشركات والمصارف ومصادر الطاقة والموارد الطبيعية والمواصلات والكهرباء والاتصالات ونظام التعليم والصحة في البلاد. كما قامت الدولة بالتدخل في التجارة الداخلية, وأصبحت مهمة تحديد اسعار السلع والخدمات الاستهلاكية من مسؤولياتها بدلا من ان تترك لحرية العرض والطلب في السوق. ايضا, كانت التجارة الخارجية وتجارة الجملة تحت سيطرة القطاع العام من خلال مؤسسات القطاع العام المختلفة.
ومع تمكن الدولة من السيطرة على الاقتصاد السوري بشكل كامل, قدمت الحكومة السورية لكل مواطن خدمات التعليم المجاني بكل مراحله والخدمات الصحية المجانية وشبه المجانية ووسعت شبكات الطرق والكهرباء والاتصالات والمياه والصرف الصحي لتصل الى الارياف والمناطق البعيدة عن مراكز المدن. وعملت بشكل جدّي على تحسين البنية التحتية في البلاد لتكون قاعدة متينة يمكن الاعتماد عليها في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تسمو الى تحقيقها. كما تم دعم القطاع الزراعي على اساس انه يشكل القاعدة الاساسية التي يمكن الاعتماد عليها في تحقيق التنمية المنشودة من خلال تزويد المواطنين بالغذاء ورفد الخزينة العامة للدولة, فحصل الفلاحون على القروض والبذور والآلات الزراعية وغيرها من مستلزمات الانتاج الزراعي التي ساهمت في تحسين اداء هذا القطاع. الّا ان المبالغ الكبيرة التي انفقت من الحكومة بقصد خلق البنية التحتية الصلبة وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين من خلال تقديم الخدمات المجانية وشبة المجانية وإتباع سياسة دعم الاسعار للسلع الاستهلاكية الاساسية ادّت الى حصول عجز في الميزانية العامة للدولة. ومع بداية ثمانينيات القرن العشرين دخلت سوريا في ازمة اقتصادية حادة نتيجة هبوط اسعار النفط العالمية وانخفاض قيمة الصادرات وتدهور سعر صرف الليرة السورية ومواسم الجفاف التي تعرضت لها البلاد وانخفاض حجم المساعدات المالية المقدمة من الدول العربية. ناهيك عن الاحداث الامنية التي عاشتها سوريا في تلك الفترة نتيجة قيام حركة الاخوان المسلمين المعارضة للحكومة السورية والمدعومة من بعض الدول الغربية والعربية المتحالفة معها بتمرد مسلح ضد الدولة السورية, مما انعكس سلبا على الاقتصاد السوري بشكل عام. اضف الى ذلك تدهور العلاقات السورية مع الدول العربية والغربية بسبب موقف سوريا المعادي لاتفاق السادات (رئيس مصر السابق) مع اسرائيل في نهاية السبعينيات ووقوفها ضد حرب العراق على ايران عام 1980, وتوقيعها لمعاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيقي عام 1980. الّا انة وبالرغم من كل هذا وبنيّة صادقة من الدولة السورية للاستمرار في مشروعها التنموي الاقتصادي والاجتماعي, زادت الحكومة من حجم انفاقها واستثمارها العام. اذ ارتفع حجم الاستثمار العام من 91367 مليون ليرة سورية عام 1980 ليصل الى 113566 مليون ليرة سورية عام 1985. وفي النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي, عملت الحكومة السورية على تخفيض العجز الحاصل في الميزانية العامة للدولة من خلال تخفيض حجم النفقات الحكومية, عن طريق تشجيع القطاع الخاص للمشاركة بالاستثمار في قطاع الزراعة والسياحة والتجارة الخارجية, كما تخلّت الدولة عن احتكارها للتجارة ببعض السلع والخدمات لصالح القطاع الخاص, مما ادى الى انخفاض في حجم استثمارات القطاع العام من 113566 مليون ليرة سورية عام 1985 لتصل الى 42515 مليون ليرة سورية عام 1990, مما ساهم في تخفيض الضغط على الميزانية العامة للدولة.
ومع تحسن الوضع الاقتصادي في تسعينيات القرن العشرين نتيجة انفراج الازمة الاقتصادية التي عاشتها سوريا في الثمانينيات وتفعيل دور القطاع الخاص (بعد اصدار قانون الاستثمار رقم 10 عام 1991 والذي فتح المجال امام القطاع الخاص ليزيد من حجم استثماراته في سوريا) وتحسين الانتاج الزراعي وزيادة عائدات الصادرات النفطية وفتح دول الخليج العربي لأسواقها امام العمالة السورية, زادت موارد وإيرادات الخزينة العامة للدولة. فقامت الحكومة بالعمل على تحسين البنية التحتية بهدف خلق مناخ جاذب للاستثمارات المحلية والأجنبية تماشيا مع السياسة الجديدة للحكومة السورية والقائمة على تشجيع الاستثمار (المحلي والأجنبي) في البلاد, فتم العمل على تحسين وضع شبكات الطرق والكهرباء والمياه والنقل والاتصالات والمواصلات, بالإضافة الى تحسين قطاع التعليم والصحة, وخلق العديد من فرص العمل الجديدة, والعمل على رفع المستوى المعيشي للمواطنين, كما استمرت الحكومة في سياسة دعم اسعار السلع الاستهلاكية الاساسية, مثل السكر والخبز والطحين والأرز والوقود. مما ادى الى زيادة في حجم الانفاق الحكومي واستثمارات القطاع العام. اذ وصل حجم استثمارات القطاع العام عام 2000 الى 99331 مليون ليرة سورية بعد ان كان حوالي 42515 مليون ليرة سورية عام 1990.
ومع بداية العقد الاول من القرن الحادي والعشرين, كان هناك تحولا واضحا في سياسة الحكومة السورية نحو اقتصاد السوق, لكن هذا التحول كان يتم بشكل تدريجي بما يلائم عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة من قبل الحكومة. الّا ان الدولة لم تعلن توجهها نحو اقتصاد السوق بشكل صريح حتى تم تبني سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي في مؤتمر حزب البعث العربي الاشتراكي عام 2005, ومن بعد ذلك تم تبني مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي بشكل واضح وصريح في الخطة الخمسية العاشرة (2006-2010). كما عملت الحكومة السورية على تخفيض العجز الحاصل في الميزانية العامة وتحسين السياسة المالية والنقدية المعتمدة وتفعيل دور القطاع الخاص في البلاد. عملت الحكومة ايضا على تطوير اداء القطاع العام من خلال العمل على معالجة مشكلة الروتين والبيروقراطية ومكافحة الفساد المستشري في المؤسسات العامة, بالإضافة الى تحسين المناخ الاستثماري وتطوير قطاع الصناعة من خلال خلق بنية تحتية ملائمة لتطوير هذا القطاع ورفع كفائتة الاقتصادية, فتم انشاء المدن الصناعية التي بلغ عددها 4 مدن حتى عام 2009. كما عملت الحكومة على إصلاح القطاع العام الصناعي, وأقامت العديد من المشاريع لتحسين اداء القطاع الزراعي وقدمت له الدعم المباشر والغير مباشر, كما ركزت ايضا على تحسين وتطوير المستوى المعيشي للمواطنين من خلال تحسين البنية التحتية وتطوير قطاع التعليم والصحة في البلاد وخلق فرص عمل جديدة وتخفيض الضرائب وزيادة الرواتب والأجور. كما كان هناك تركيز واضح من قبل الحكومة على زيادة الاستثمار في مشاريع البنية التحتية وتحقيق التنمية البشرية ومحاربة الفقر. فقد ازدادت قيمة استثمارات القطاع العام لتصل الى 146688 مليون ليرة سورية عام 2005.
الا انة في النصف الثاني من هذا العقد, انخفضت قيمة الاستثمار العام لتصل الى 112739 مليون ليرة سورية عام 2008. اما اسباب هذا الانخفاض فكانت نتيجة تخلي الدولة عن بعض انشطتها الاقتصادية للقطاع الخاص, وتراجع تدخلها في التجارة الخارجية, وتخليها عن احتكار استيراد العديد من السلع والخدمات بهدف فتح المجال بشكل اكبر للاستثمارات الخاصة في البلاد. اضف الى ذلك, كان القطاع العام بحد ذاته يعاني العديد من المشاكل التي اثرت سلبا على ادائه في تلك الفترة, فكان من بين هذه المشاكل على سبيل المثال: انخفاض الانتاجية والجودة والقدرة التنافسية لمنتجاته, غياب التكنولوجيا الحديثة وتدني مستوى الخبرة البشرية, عدم اتباع اساليب الادارة الحديثة, المركزية الشديدة في اتخاذ القرار, القيود التنظيمية والإدارية والمالية, اضافة الى البيروقراطية وانتشار الرشوة والفساد الاداري في مؤسساته. مما كان له الاثر السلبي الكبير على اداء هذا القطاع وتحميله الكثير من الخسائر, وبشكل خاص بعد اتباع الحكومة السورية لسياسة تحرير التجارة الخارجية والانفتاح الاقتصادي بهدف جذب الاستثمارات الاجنبية وتشجيع القطاع الخاص على زيادة وتطوير انتاجه, مما عرّض منتجات القطاع العام لدرجة اعلى من المنافسة في الاسواق المحلية والدولية, الشيء الذي ادّى الى تكبّده للمزيد من الخسائر. الّا انه وبعد هذا الانخفاض في حجم استثمارات القطاع العام, ادركت الحكومة بانه لا يمكن الاعتماد فقط على القطاع الخاص ليقوم بتحقيق عملية التنمية المنشودة, فسارعت باتخاذ اجراءات اسعافية لمعالجة مشاكل القطاع العام وإعادة تنظيمه وتطوير ادائه وتفعيل دوره بشكل اكبر وجنبا الى جنب مع القطاع الخاص لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة. فارتفعت استثمارات القطاع العام لتصل الى 144153 مليون ليرة سورية عام 2010.
ومع بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين تغيرت الظروف ودخلت البلاد في ازمة كان لها الاثر السلبي الكبير على الوضع الاقتصادي والاجتماعي وحتى الانساني في البلاد. فكثيرة هي المرافق العامة التي دمرت او تضررت, وكثير من الضرر لحق بمشاريع البنية التحتية التي طالما عملت الدولة السورية على تحسينها وجعلها القاعدة المتينة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة. فمع نهاية عام 2013, وصل عدد المدارس التي خرجت من الخدمة الى 4000 مدرسة, كما تم تدمير العديد من المنشآت الصحية, وتضرر حوالي 71 مستشفى عام (45% منها خرج كليا من الخدمة). بالإضافة الى ذلك, نتيجة عمليات التخريب والأضرار الكبيرة التي لحقت بمؤسسات القطاع العام, تراجعت الايرادات العامة وانخفضت عائدات الميزانية العامة للدولة, مما ادى الى زيادة حجم الدين العام الى مستويات غير مسبوقة. الّا انه وبرغم كل ذلك, ظل للاستهلاك العام الدور الهام والحاسم في منع الاقتصاد السوري من الانهيار التام. فقامت الحكومة بزيادة الاجور ورفعت الرواتب عام 2013 للمحافظة على القوة الشرائية للمواطنين الّا ان هذه الزيادة لم تكن كافية لوقف التراجع في الاستهلاك العام بالقيمة الحقيقية. اذ انكمش الاستهلاك العام بمعدل 8.3% عام 2012, وبمعدل 23.4% و 11.9% و 16.2% و0.3% في الربع الاول والثاني والثالث والرابع من عام 2013 على التوالي, مقارنة معه في عام 2012. وكان للاستهلاك وظيفتين رئيسيتين خلال هذه الازمة, اما الوظيفة الاولى فتمثلت في توفير الدعم اللازم للمواطنين من اجل البقاء على قيد الحياة والمحافظة على الدخل الاساسي للكثير من الاسر والشركات, والوظيفة الثانية فكانت تخصيص جزء من الموارد للأغراض العسكرية بظل ظروف الحرب التي تشهدها البلاد. اما بيئة الاستثمار فقد اتسمت بالمخاطرة العالية وغياب الامان, فبعد ثلاث سنوات من الازمة تعرضت البنية التحتية المادية للكثير من الاضرار, كما ان كثيرا من الابنية والآلات والمعدات والمرافق قد دمرت, بالإضافة الى تجزيئة الاسواق وصعوبة الوصول للوقود والمواد الخام, ما انعكس سلبا على عمليات الاستثمار في سوريا. كما ان ظروف الحرب التي تعيشها البلاد فرضت على الحكومة ان تغيّر من اولوياتها بحيث خصصت جزء من مواردها من الانفاق الاستثماري الى الانفاق العسكري والأجور والدعم. فانخفض حجم الاستثمار العام في سوريا بمعدل 82% و 61.9% و 39.8% و 16.9% خلال الربع الاول والثاني والثالث والرابع من عام 2013 على التوالي, مقارنة معه في العام 2012.

عادل شكيب محسن
2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخبار الساعة | رئيس الصين يزور فرنسا وسط توترات اقتصادية وتج


.. الاقتصاد أولاً ثم السياسة .. مفتاح زيارة الرئيس الصيني الى ب




.. أسعار الذهب اليوم الأحد 05 مايو 2024


.. رئيس مجلس النواب الأميركي: سنطرح إلغاء الإعفاءات الضريبية عن




.. ملايين السياح في الشوارع ومحطات القطار .. هكذا بدا -الأسبوع