الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإستجواب

حيدر الكعبي

2014 / 10 / 28
الادب والفن


الإستجواب


أنزله أحدهم ممسكاً به من زنده. وما كادت قدماه تستقران على الأرض الحجرية لِمَا بدا أشبه بمجاز أو ممشى، حتى جاءته دفعة من الخلف، فتعثر وأفلت الحذاء من قدمه اليمنى. ومع أنه استرد توازنه فهم لم يمهلوه ليتخلص من فردة الحذاء الأخرى، فاندفع أمامهم يَعْرج في مشيته، حتى اصطدم أو كاد بشبح رجل يقف أمامه. وسمع الرجل يصرخ: "مالك؟ أعمى؟" وجاء صوت ضاحك من خلفه يقول: "طوِّل بالك، الحجّي سكران." فأمسكه الرجل الذي أمامه من زنده الأيمن وقاده وهو يقول: "سكران؟ والله عمي تسكرون." وحين لم يعلِّقْ ناجي بشئ، هتف الرجل مخاطباً صاحبَ الصوت الأول: "صاحبك سكران ...وأخرس." "طوّلْ بالك عليه،" عاد الصوت الأول يقول، "الحجّي راح يصحى ويتكلم." وسار به الرجل بضع خطوات ثم هتف به وهو يهزه من زنده: "إنزل." وفتح ناجي فمه للمرة الأولى ليقول: "أنزل وين؟" وسرعان ما خطر له أنه بسؤاله هذا قد حقق نبوءة صاحب الصوت الأول. وبدا أن كَسْرَهُ لصمته قد أرضى الرجل الذي يقوده، والذي قال مجيباً: "أبويه هذا درج قدامك. دا أقول لك إنزل. إي قابل ح أذبك بهبيّة؟" واغتنم ناجي لحظة وقوفهما ليتخلص من فردة الحذاء الأخرى، قبل أن ينزل مع الرجل درجات سلم حجري ضيق يقود الى قبو، وهو يشعر بإبهام قدمه اليسرى ينتأ عارياً من ثقب في الجورب، ويحس بالحَلْمات والنتوءات الحجرية الحادة لدرجات السلّم تَخِزُ باطنَ قدميه المسطحتين.

في ممر في السرداب، تركه الرجل قرب جدار قائلاً: "إبق هنا." وخطا خطوةً أو اثنتين قبل أن يتوقف ليضيف محذراً: "إبق بمكانك، لا تتحرك." وسَمِعَ خطواتِ الرجل تبتعد عائدة من حيث جاءا، أو هكذا خيل إليه. ثم سمع خطوات مسرعة تأتي من نفس الإتجاه، لكنها اجتازته دون أن يتحدث إليه أحد. وعاد فسمع خطوات تأتي من الجهة الأخرى. ثم راحت الخطوات تأتي وتذهب بلا انقطاع، ولم يعد يأبه بها. وتحسس بقدميه البلاط الأملس المربع لأرضية السرداب. وشعر بإبهام القدم اليسرى ينطوي وينسحب الى داخل الجورب. كانت يداه المربوطتان خلفه تَحُولان دون أن يستند بظهره الى الجدار—جدار صلد مستوٍ كالمكواة. وفجأة سمع صرخات استغاثة حادة تنبثق من مكان ما على بعد ذراعين منه "آآآآآآآآآآخ ... ياااااااابويه...آآآآآآآآآآخ." خيل إليه أن مُطْلِقَ الصرخات كان يواجهه على الجدار المقابل. "دخيييييييل الله ....دخيلكوووووووووم ...آآآآآآآآآآآآآآآخ." ولم يدر من أين جاء أو كيف. "ياااابويه ... راح أمووووووووت." كان بوسع ناجي إذا أحنى رأسه أن يرى الزرَّ الأعلى لقميصه، تحت فتحة الياقة، من خلال فجوة تشبه خيطين من الضوء في شكل جناحَيْ خيمة، بين الحافة السفلى للعصابة وعرنين الأنف. فإذا أراد أن يرى شيئاً أمامه تعيَّنَ عليه أن يتجه بوجهه الى السقف. لم يَكُفَّ الرجلُ عن الضراعة والعويل، "أهل المروووووة ....آآآآآآآآخ ...آآخ ...آآآآآآآآخ ... ." وتساءل ناجي في سره: "كيف يأمل هذا الأحمق بترقيق قلوب هؤلاء، وهو لم يُثِرْ عندي، أنا رفيقه في الحبس، سوى الإشمئزاز؟" ثم عَنَّ له خاطرٌ آخر "ربما يعمل معهم." واطمأنَّ الى هذه الفكرة. فهو لم يسمع أحداً يتحدث الى الرجل، ولا صوتاً يدل على الضرب أو الجلد. ثم حدَّثتْه نفسه أن الصوت ربما كان صادراً عن جهاز تسجيل، لاغير.

لكنَّ خطواتٍ جديدة مقرقعة ومتمهلة راحت تقترب من يساره فتقطع تأملاته. وسمع صوتاً رفيعاً يقول لاثغاً الراء: "وَي وَي، لابس كاوبوي، السغسغي،" وشعر بصاحبِ الصوت يقف بجانبه الآن. وفوجئ برجل آخر يدمدم متهكماً، بصوت غليظ كالخوار، وباحترام مصطنع: "لا... هذا شاااااااعر الحزب." لاشك أن أحد الرجلين كان يرتدي حذاء رياضياً، فهو لم يسمع سوى خطوات شخص واحد. "شاعغ الحزب؟" تساءل صاحب الصوت الرفيع. "بالله ما تشنـِّف أسماعُنا بشعغُكَ البعغوغي؟ هاه ، هاه ، هاه ، ها." وقبل أن تهدأ الضحكة حطَّتْ على وجه ناجي صفعة شديدة خلّفتْ طنيناً في أذنه، واستدرَّتْ الدمع من عينيه، وتردد صداها في السرداب. أدرك حالاً ان مصدرها ذو الصوت الغليظ. أصبح بوسعه الآن أن يلحظ بوز الحذاء الجلدي الأسود اللماع لصاحب هذا الصوت، وجانباً من حذاء الجوت الأسمر الذي يرتديه الفتى ذو الصوت الرفيع. وقدّر أن المسافة التي تفصله عن الأول لن تسمح له بمد رجله بحرية. وكان الجدار خلفه يحول دون تراجعه. وكم تمنى لو كان حذاؤه في رجله في تلك اللحظة. وفتح فمه ليقول، آملاً في صرف انتباههما عن انسحابه الحذر بقدميه وعن إمالته لأعلى جسمه الى اليسار—ولعلهما فسرا ذلك بخشيته من تلقي صفعة أخرى— : "أقرا شعر ..وانا.. بهاي الحالة؟" وسمع الصوت الرفيع يقول عابثاً: "قصدك ...الجو مو شاعغي ... ها؟" "لا..." قال الصوت الغليظ مفسراً لزميله: "قصده ..." وندت عنه صرخة. لقد أسكتتْهُ رفسة مفاجئة في صدره. كان ناجي يتمنى لو أصاب بقدمه البقعة الرخوة في منتصف صدر الرجل عند ملتقى الأضلاع أسفل عظم القص. ووجد نفسه يدق الأرض بقدمه، ويستند بجبينه الى الجدار ليحتفظ بتوازنه. أحس بمفاصل قبضة متوترة تضربه بشكل محموم ومتواصل على مؤخرة الرأس. وسمع أقداماً عديدة مسرعة تقترب، ولغطاً كثيراً. إستدار فأمسكتْه كفٌّ من شعره وحاولت صَدْم رأسه بالجدار. رفع قدمه ثانية، لكنه أحس بما يشبه السيخ المحمى يخترق خصيته اليسرى، ويشل حركته. تدفق عليه سيل من اللكمات والركلات مختلطة بالشتائم والصياح. وشعر كأن السقف قد انهار وراحت أحجاره تتساقط، بعضها كبير وبعضها صغير، بعضها يصيبه وبعضها يخطئه. ثم أحس بكتلة ثقيلة صلدة تصطدم برأسه. وأصبحت الأصوات تأتيه من بعيد. وأصبحت الضربات تسقط عليه سقوط حبات البرَد. ثم أصبحت تسقط عليه سقوط ندف الثلج. ثم أصبحت تسقط عليه سقوط ندف القطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل