الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زكريا تامر لم يشتر بيتاً في دمشق لأنه لم يعثر عليها

إبراهيم الجبين

2005 / 8 / 26
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


"سألتُ شجرة النارنج عن عمرها قالت الرجال لا يتكلمون مع الأشجار"
دمشق...
لا يمكنك أن تجلس مع زكريا تامر لوقت قصير. ليس لديه وقت للاختصار: إنه يحيطك بغلالة محبة تمنعك من التعجل في إنهاء الجلسة كي تمكّنه من توضيب أغراضه قبل ساعات من الرحيل الجديد إلى أوكسفورد.
ولأنه زكريا تامر فإنك تصغي إليه، لكنه يريدك أن تتكلم. تحاول أن تبدو هادئاً لتستدرجه إلى دفق من نوع خاص يظهر فيه نزقه وضيقه بالأحوال والمتحولات، ثم تتراجع عن استدراجه وتقرر أن تترك فنجان الكابوتشينو يحدد مجرى مركب صاحب "النمور في اليوم العاشر" و"صهيل الجواد الأبيض" و"دمشق الحرائق" و"ربيع في الرماد".
"أنا لم أعثر على دمشق في هذه الزيارة. حتى الخبز واللحوم هنا لها طعم مختلف عما كانت عليه في الماضي. ماذا حصل للبلاد ؟!". لا تعرف بماذا تجيبه. توافقه من دون أن تجرح دهشته التي لا تختلف في شيء عن دهشة بطل عمله الأخير "القنفذ"، الصادر حديثا لدى "دار رياض الريس للكتب والنشر". البطل هو الطفل الذي يروي ويروي كل القصص - باستثناء الأخيرة منها - والذي، من قامته التي تكاد لا تصل إلى أكرة الباب، يرى العالم "دون استعادة للطفولة" كما يرد على الغلاف، لكنه يستعير ذلك الجسد ليقبض على الشخصية السورية في زمنها هذا ويعيد بثها من جديد بعد أن يعمل على تحريرها من التشويه الذي أصابها طوال عقود من الاستبداد والعنف.
"بحثت عن قميصي الأزرق، وسألت زوجتي عنه، فقالت إنها وجدت ياقته مهترئة ورمته في الزبالة، وبحثت عن حذائي الأسود المريح، وسألت زوجتي عنه، فقالت إنها وجدته مثقوباً ورمته في الزبالة، ورغبت وأنا أتأمل عينيها السوداوين ووجهها الأبيض المتعب في أن أسألها عن حبها لي، لكني فضّلت أن أظل ساكتاً": مدهش وعبقري وخاص في بحثه عن الإنسان زكريا تامر. يتجول صاحب "هجاء القتيل لقاتله" مع زوجته في دمشق القديمة. نتوقف يوسف عبدلكي وأنا في القباقبية، اذ أحاول أن أدلّه على حجر أفلت من البنائين ولم ينتبهوا إلى أنه رولييف نصفي للمسيح على ارتفاع سبعة أمتار في جدار الجامع الأموي. يقترب زكريا تامر من خلفنا ويتحدث ضاحكاً عن إعادة اكتشاف المكان من جانب أهله، وكأن أهل مكة لم يدروا يوماً بشعابها.
نتقدم جميعاً في القيمرية، وزكريا يفكر في ما آلت إليه الثقافة في سوريا: صحيح أن رجال وزارة الإعلام السورية كرّموه، لكنه لم يشكرهم على ذلك التكريم، فهو يشعر أنه حقه وأنه من الناس وليس من الرسميين. نجلس في "عالبال" ونشرب القهوة مع رواد إبرهيم. حازم العظمة على طرف الطاولة يحاول إقناعه بشراء بيت قرب بيته على ضفاف البادية شرق دمشق. يتابع زكريا كلامه كمن يحدّث الحيطان في "القنفذ"، يحاور قطته وجنية البيت التي تساكنه غرفته، ويخاطب الشجرة ويقلدها واقفاً فارداً ذراعيه منتظراً أن تنبت الأغصان على الأصابع ويفرع الورق: "سألت شجرة النارنج المنتصبة في باحة البيت عن عمرها، فأجابت أنها ولدت قبل أن أولد، وسألتها بعد ثلاثين سنة عن عمرها، فقالت لي مستغربة إن الرجال لا يتكلمون عادة مع الأشجار". نقرأ أيضا: "رآني حارس المقبرة محنيّ الرأس والظهر أكلم قبر أبي وأمي معاتباً أخي المسافر الذي لم يرد على رسائلي منذ سنتين، فقال لي إن الموتى يضيقون بالكلام، ويفضلون سماع آيات من القرآن الكريم". يعود زكريا تامر إلى وعيه الأول وهو يشاهد ما تبقّى من ثقافة السوريين، يكتب عن مفقودين يتحسس وجودهم حوله. ليس متشائماً لكنه يبقى في حرارة الرؤية: "رأيت أثناء سيرنا ولداً صغيراً واقفاً على الرصيف يبكي، ولا أحد يسأله عن سبب بكائه، فأغمضت عينيّ. ورأيت أثناء سيرنا متسولة تقعد على الرصيف مع ثلاثة أطفال مبتوري الأيدي، فأغمضت عينيّ. ورأيت ورأيت... سألني أبي: ما بك يا ولد؟ لماذا تغمض عينيك بكثرة كأنك أبرص يحاول النظر إلى الشمس؟ فقلت لأبي إن الغبار كثير".
ماذا يفعل زكريا تامر في "القنفذ"؟ إنه يعبث بالزمن وينقل الحال إلى صورة أخرى: صورة طفل في ثلاثينات القرن العشرين يطلب من أبيه جهاز تلفزيون هدية في العيد. يتحدث تامر عن هذا الزمان لكنه يتحرّر في عبقرية الكتابة من نظام الحكي والسرد والقص، ويدخل لعبته التي طالما برع فيها. وهو لم يعد يلعب على ورقه الأبيض فقط، بل انتقل الآن إلى حقل آخر. وهو لا يغادرنا بالحركة البطيئة، بل يعود إلى سوريا على طريقته واضعاً خطوته الأولى في صفحات "القنفذ" عابراً الحاجز الكبير في الحياة السورية نحو علاقات وادعة تجلّ ما يصنعه الكتاب الحقيقيون وتسخر مما مسخه "النهاقون" كما يقول.
"أحوص في باحة بيتنا المغمورة بشمس الصيف (...) ألصقت أذني اليمنى بجذع شجرة النارنج، فلم اسمع قلباً يخفق وينبض، فقلت لنفسي إن شجرة النارنج نائمة ولا بد من أنها مختلفة عنا، تنام وينام قلبها. شجرتي نائمة... الماء في الأنابيب نائم أيضاً... قطتي نائمة... الحيطان نائمة، أسألها ولا تجيب... الارض نائمة، أمشي فوقها على رؤوس اصابع قدميّ حتى لا أوقظها من نومها... العصافير هي وحدها المستيقظة، تطير من شجرة إلى شجرة ولا يصدر عنها أي صوت": تترك الكتابة عند زكريا تامر شكلها وتذهب نحو منطقة لا يعرف تضاريسها سواه، لكنه لا يقدر سوى على الفرح. حين كرّموه في أواخر الشتاء الماضي قلت إنهم نمور في يومهم العاشر، وإنهم مضطرون لتكريم زكريا تامر ولم يقوموا بما يُشكرون عليه. يومذاك لم يكن كتابه الأخير قد صدر بعد في بيروت، لكنه كان يبتسم حين يقتربون منه، يعرف ما الذي يدور في رؤوسهم ويعرف أنهم مغتاظون، لكنه بحكمته المتهكمة يتركهم يدورون حوله مكرِّمين فن الكتابة في سوريا مجسداً بالحداد زكريا تامر الذي تمكن من القبض على السوريين دفعة واحدة في "قنفذ" لا يتجاوز الـ 80 صفحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام: شبان مغاربة محتجزون لدى ميليشيا مسلحة في تايلاند تستغ


.. مفاوضات التهدئة.. أجواء إيجابية ومخاوف من انعطافة إسرائيل أو




.. يديعوت أحرنوت: إجماع من قادة الأجهزة على فقد إسرائيل ميزتين


.. صحيفة يديعوت أحرنوت: الجيش الإسرائيلي يستدعي مروحيات إلى موق




.. حرب غزة.. ماذا يحدث عند معبر كرم أبو سالم؟