الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بابا الأقباط : لن أدخل القدس إلا محررة

عبدالله عيسى

2014 / 11 / 2
الادب والفن


سبعة أيام بلياليها والموت بحُمّاه التي أوهنت العظم مني ، يحدّق بي في مراياي َ ، فيما ظلّت رائحته ، آناء الليلة وأطراف اليوم ، تحوم حولي كغراب عجوز حول شاهدة داثرة لقبر داثر ، حتى دخلت مدخل صدق هذا البيت .
البيت ذاته الذي يقطن في قلب موسكو ، قبالة البيت المركزي للآدباء حيث ما يزال صوتي يقرأ شعراً لي في أمسيات مع شعراء سوفييت وروس ، وظلي يعانق أحداً ما ، ثم يجلس حول طاولة في المقهى في القبو أو المطعم الكبير فوق ، يبحث عن تفاحة المعرفة في نقاشات تطول حتى مطلع الفجر .
وكثيراً ما كنت أتأمل رجفة العلم المصري المنصوب بعناية على الطابق الثاني لهذا البيت وكأنه يحرسه ، أو يسند جدرانه العاليات . البيت ذاته الذي قيل أن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أقام فيه حين زار موسكو ، حتى أكاد أسلّم على " الريّس " كلما صعدت درجاته مدعواً على امتداد ربع قرن للاحتفال بذكرى ثورة يوليو ، أو الإحتفاء بزيارات كبار رجالات مصر ، أو لزيارات تعلو على هموم ثقافية أيضاً .
ما أن علوت على درجات البيت ، أنا الذي جئت ُ متأخراً قليلاً أو كثيراً ضجراً ما أزال من وطأة زحمة السيارات التي تخنق العاصمة مساء ، لم يهوّن علي ّ من ثقل أحمالها إلا حوار هاتفي أجرته معي محطة الحدث كِلت ُ فيه لداعش والإرهاب ما كالت عين النسر عاصفة الصحراء ، عن لقاء قداسة بابا الإسكندرية وبطريارك القداسة المرقسية تواضروس الثاني ، حيث التأم سفراء عرب ومستشرقون وإعلاميون و مصريون . .
صوته ، آمناً مطمئناً ، يمسّك بالرضى ، فتأمن لذاتك منها ، وتطمئن لها . يأتيك بكلام عربي ، لكنه ليس ككلام كل البشر . إنه قداسة البابا : يخرج إليك بحلوله كهضبة مقدسية ، فيما عيناه الوهابتات تتوهجان كشمعتين تضيئان أبداً درب الآلام الطويل .
فيما تستقبلك ابتسامة السفير المصري المفكر محمد البدري وتعانقك نظرته المرحبة . ثمة ما يجعلك تتأمل في عينيه حجر الرؤيا ، و في حديثه نكهة تفاحة المعرفة . هاجس أصابني مذ تعرفت عليه حين حل الصديق الإعلامي الجميل خيري رمضان في موسكو ، ونحن نتجول في أرجاء الكرملين مأخوذين بأسفار التاريخ الروسي العظيم الذي كان يرصدها في إجاباته بقراءة العارف ورؤيا المتأمل . أنا الذي ، منذ ربع قرن ، أحيا في حركة التاريخ والأدب الروسي تماماً كما أتنفس الهواء الروسي ، أضاف إلى كل علمي بما يعلم .
بجسارة المعنى العميق ذاته ، كما عهدته ، هز ٌ السفير رأسه مرحبّاً بي ، وقد خصّني بابتسامة طيبة مستبشرة ، فتراءت لي الآية الكريمة على بوابة الدخول في مطار القاهرة " وادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " . و كأنه ، ببلاغة العارفين ، رأى ما لا يُرى في قلقي على سؤالي الأبدي ، قدمٌني لأكّلم خضرة قداسة البابا بما تئن به أجراس ومآذن وأحجار وأمطار وأكمات وهضبات وماء وهواء وسماء القدس رحمة ً بالمقدسيين ، رمزاً للفلسطينيين طُرّاً ، حاملي الصلبان بانتظار قيامتهم .
حيّيته ، فردّ بأحسن منها . ومثل حوذي الوقت ، ذكّرت على رؤوس الأشهاد ، عل ّ تنفع الذكرى ، باحتضان الكنيسة القبطية للقدس ، مرفوعاً على وصية البابا شنودة لنفسه ولنا بشأنها ، وقلت له : أريد أن أطمئن على مصير القدس .
وقال لي : إطمئن .
وكأن القدس كلها ، بكنائسها وأديرتها وآلام الصلبان المرفوعة ما تزال في انتظار صلبنا ، هبطت إلينا في كلماته من سماء أعلى . الرعشة المكلومة في صوته التي حملت آلام القدس أرّخت لروح جديد تجعل قيامة أسوار القدس تُرى من تعاليمه في أجسادنا ، نحن الذين نتبعه وندع الموتى يدفنون موتاهم . لن يدخل القدس إلا محررة ويداً بيد مع شيخ الأزهر .بهذه الصرخة الكبرى اختتم قداسته ، ليعلن السفير خاتمة اللقاء على هذه النبرة الوطنية العالية ، كما قال .
وكأن يدي حين صافحني تلجأ إليه في يده . أنا المؤمن أن مصر التي لجأت إليها العائلة المقدسّة هرباً من وجه هيرودس " لكي يتم ما قيل من الرب" ملاذ لي حين تضيق بي الأرض ، أنا الفلسطيني الذي لا أزال أصعد أعلى صليبي الأبدي ، لتطهير البشرية من خطيئتها التاريخية ، إذ أعادت قتلة الأنبياء ليصلبوني من جديد ، بدمي .
وكأن الصليب في يده ، شاهد استشهاد القديس المبشٌر مار مرقس الرسول عام 68 ميلادية ، بعد عيد القيامة ، بعد أن جرّه الجنود الرومان من قدميه ذارعين شوارع الإسكندرية ، شاهد أيضاً على قيامة الفلسطيني حين يأتيه صوت القداسة : لن أذهب للقدس إلا محررة ويداً بيد مع شيخ الأزهر .
وأتيته بكتابي في يميني . ديواني " رعاة السماء رعاة الدفلى " ، وكتبت في الإهداء ، كما أذكر : " قداسة بابا الإسكندرية وبطريارك القداسة المرقسية تواضروس الثاني ، حتى نبقى ، مثلكم ، رعاة سماء وأرض الرب التي خصنا بها. عبدالله عيسى . موسكو 30-10-2014 " ، وسألني عن دلالة الدفلى ، فقلت : شجرة معمرة قد يصل طولها إلى ستة أمتار ، دائمة الخضرة ، بأزهار بيضاء أو حمراء أو أرجوانية أو قرنفلية ، تتجمع حول نفسها وكأنها بوحدتها تحمي نفسها مما تهجس به ، بين شهري أبريل وأكتوبر ، وتسوّر الجدران وأسيجة البيوت ، وتتحمل كل تبدلات الطبيعة ، وترمز لهيروشيما أيضا ً طالما كانت أول من أحيا الرب بعد موات الأرض إثر قصف المدينة بالقنبلة النووية .
في رعاة السماء رعاة الدفلى أصرخ بما قال السيد المسيح ، أنا الفلسطيني على الصليب الأبدي ، مستلهماً من روحه القدسي ّ مشكاة درب آلامي الطويل .
وإذ فتح الديوان ، قرأ فيه ما جعلته هامشاً ، مقتبساً من الكتاب المقدس ، : " يا أورشليم ، يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين هوذا بينكم يترك لكم خراباً " ، لمتن قولي الشعري : أنا ابن الله والإنسان / آيتنا : أطل ّ على خرائبكم / وفي ألمي مِدى الجاني .
و لأن قداسته وعدني أن يقرأ الديوان ، فقد شهدت أنني قد كتبت ُ ، وأنني قد عشت ُ .
ولم يعد شبح الموت يطأ ظل روحي في مراياي .
طوبى لكم .
* شاعر وأكاديمي مقيم في موسكو
د. عبدالله عيسى *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى