الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النواحة

حسن الغبيني

2014 / 11 / 3
الادب والفن


ألنواحه

آخر مرة رأيتها تنسل بحزن خفي لتولج حجرتها الرطبة أمي التي توشحت بالسواد ، هكذا ألفتها وهي تلف نفسها فيه ، حتى ألفت السواد فيها . منذ أن أدركت وجودي المبعثر حولي عرفت السواد هو خارطتي التي أسبح فيها .
ومنذ أن أدركت أني سليل نواحين عظام ، وحين أرجع إلى الوراء وألم شتات أفكاري ، أجد نفسي في باحة الدار وبذكره طفل أتمرغ بالزمن ، أمتطيه ، بيدي يتكور أمامي أجد جدي الذي أفاق من سبات نوم طويل ، ينوح بصوت حزين ، يخرج من فمه شجنٌ معجونٌ يقهر الأرض يغوص في الأعماق لينهل من ينابيع الروح صدى ظل يدور في دواخلي سنيناً .
كان ذلك قبل أن تتناسل الحروب فينا ، زمن ضبابي الشكل . ظلت الصورة تطاردني سنوات وهي تكمن في ذكراي ... حتى بقيت أسال نفسي ربما كانت تلك هي البداية لتأسس تاريخ النواح في عائلتي .. إنها صورة غائمة في فضاء ذاكرة طفل تجمدت في الأعماق واختلطت بها الأشياء حتى سال الحزن من بواطنها وتفجرت نهراً من الأمواج والندوب وهي تعصف بنا لتشكل تاريخنا الجمعي عبر العصور ... لم يكن النواح غريباً في عائلتنا هكذا تحدث خالي ليؤكد للسادة الحضور في باحة الدار حين يتربع السواد ويتغلغل في الشوارع والبيوت من كل عام حين يقبل عاشوراء حاملاً ندوباً وجروحاً وعويل أطفال ورؤؤس مقطوعة وسبايا ... ليخيم الحزن علينا من جديد ويبدأ النواح وتلبس الحياة ثوب المغيب . نحن سليل نواحين عظام يمتد بنا النواح حتى يصل إلى أبي النواحين نوح (-;- ) هكذا رأيت الحضور وهو مشدودٌ لخالي الذي يتربع على مجلس الفرار وبصوت شجي تتصاعد الآهات منه والندوب . لترفع الأيدي وتضرب على الصدور تاركة آثار زمن كانت الفضيلة فيه أسيرة الظلم الذي خط مخالبه في كل العصور ، معّبرة عن آهات زمن تحنط في مخيلتنا ، وأنتج كل قلق الآهات كي يطهرنا من أوزار الخطيئة الأولى ..
كنت أسترق السمع لخالي وهو يسرد لنا تاريخ النواح مبتدءاً من الخطيئة الأولى حين طرد آدم من الجنة / هكذا ظل ينوح ويبكي .. ليتطهر من دوامة الخطيئة الأولى – نحن وارثو الآلام ... والأنين والحزن الموغل في الأعماق حيث اختفت الصور ونسجت نسيجاً في ضباب موغل في القديم من ذلك العهد البعيد ابتدأ النواح ليخط لنا منهجاً ، حين رأيت جدي الذي تملكته رغبة النواح قرب شجرة أنين العجوز ، أنطلق صوته من خرير ماء الساقية ، تورمت عيناه وراح يتمايل مثل غصن شجرة حزين ليفجر الصمت الموغل في الصدور وليزيح الهم الذي تلبسه منذ عصور .. حاملاً شعلة الخطيئة الأولى مناجياً تلك القوى التي تحكم العالم . باحثاً عن توبة جديدة هي امتداد لأخطاء الآباء واستمرار الخطيئة الأولى ... التي أنتحلت عبر طريق طويل صورة الإنسانية المعذبة .
فالنواح يولد فينا من جديد ليطمر أجسادنا التي دنستها الخطيئة الأولى عبر مسارات التاريخ ودهاليزه المظلمة ورحلة الدم المقدس في مساراته وخفاياه ... ليعيد لنا تاريخ حضور اللحظة الأولى . يتغلغل الحزن في أزقة بيوتنا الطينية وفي دهاليز أزقتنا الطبيعية ، ليعيد لنا نواح وحروب زمن مدفون في شجرة أنيننا وآهاتنا المحبوسة في هذا الفقر الصارخ .
أول مرة أمي تنوح لتطلق لنفسها العنان بصوتها الشجي والحزين في باحة الدار قرب شجرة التين العجوز في تلك الظهيرة اللاهبة وجسد أخي الممتد في ذلك التابوت الخشبي .. في زمن تناسل الحروب فينا .. واستعجلت المجاعة .. رأيت أمي تستعير صوت أبيها الذي حل في جسدها فجأة لتواصل سلسلة النواح ولتبدأ حياتها الجديدة حاملة معها أرث الأجداد وتاريخ نواح العائلة مخترقةً زمنها ومستعيرة من تلك الأزمان كل الآهات التي تعصف بنا قاطعة مسافات شاسعة تاركة كل شيء ، نادبة هذا الزمن الذي تناسلت فيه الحروب وكثرت فيه الكوارث وتربع فيه الموت على حياتنا قارئة في عيوننا حروباً ودماءاً ، موتاً وانكساراً كاشفةًً لنا ذلك القدر الذي تركض حياتنا لتقع في شباكه.
رأيت أمي وهي تودع أحبابها وأولادها الذين حصدتهم الحروب وقتلهم العوز ، وداس عليهم الحصار ، غائصة في الأعماق بذلك الصوت الشجي لتفجر دواخلنا التي نخرتها الكوارث ، أرامل وعذارى أفقدتهن الحروب أي معنى – أمهات وانتظار توشحن بالسواد زمناً طويلاً ، والنسوة اللواتي أفجعتهن الحروب بفقدان أزواجهن وأولادهن ، ناذرات أنفسهن تاركات كل شيء وساكنات عبر الأولياء الصالحين ... هناك تجمعن .. والشحوب يطرز أيامهن .. حروب وكوارث تدفقت علينا مثل سيل عارم ... هكذا هي المصائب حين تهبط علينا .. لتمطرنا بقوة .. في حزن أم فقدت أولادها كانت أمي تنوح .. وتبكي أولادها الذين أكلتهم الحروب وشردهم الانتظار والكوارث .. وخط في داخلهم الانتظار ندوباً وجروحاً ... أرامل وعذراوات ، عاشقات أنين لحد الجنون – دمرهن الانتظار ، أمهات فقدن أولادهن .. عجائز فارقهن الشباب ، ومزقهن الأنين ، كلهن تجمعن حول أمي متوشحات بالسواد .. متممات خيوط الفجيعة ، قاطعات المسافات يبحثن عن خلاصهن عبر الفجيعة والبكاء ، وحين ينساب صوت أمي عذباً شجياً يخترق الأعماق مثل خرير ساقية يتيمه .. ينهر الصوت .. ماسكاً خيوط الفجيعة – متغلغلاً في أعماقها إرث الأجداد .. معجوناً بحروب وكوارث .. نبؤات وفيضانات ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا