الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهروب من معتقل خلف السدة - ذكريات 1 -3

جاسم الحلوائي

2005 / 8 / 27
أوراق كتبت في وعن السجن


ذكريات
الهروب من معتقل خلف السدة
(1 ــ 3 )
عندما قلت لزوجتي ماجدة وبثقة تامة " لاتقلقي إنني سأهرب لو القي القبض علي"، كان بودي أن لا يتسرب اليأس الي قلبها ولكي تبقى ، في حال إعتقالي ، بمعنوية عالية ، و تنتظر عودتي اليها في أية لحظة . وماذا لو طال أمد إعتقالي؟ وهل من الصحيح وهي شابة دون العشرين أن تبقى تنتظر ، ربما ، لسنوات طويلة؟ أليس في ذلك أنانية في موقفي ؟ لم تخطر ببالي تلك الأسئلة آنئذ . وعندما خطرت ببالي لاحقا ، أرضيت ضميري ، معللا الأنانية بحبي لزوجتي ، والحب لايخلو من الأنانية .

في خريف 1964، وعندما كنت سكرتيرا مؤقتا للجنة التنظيم المركزي للحزب الشيوعي العراقي ، إلتحق بأجهزتها الشهيد جواد عطية منتقلا ، مع اختيه ، من مدينة النجف الى بغداد ، وهي مكان إقامتهم ، قبل إنتقالهم الى النجف للإختفاء فيها على أثر إنقلاب شباط الفاشي . كانت ماجدة ، تلي جوادا في تسلسل اخوته، تنشط كمراسلة بين منظمة النجف وقيادة منطقة الفرات الأوسط التي أقامت في الريف بعد إنقلاب شباط ، ولاحقا ، بين الأخيرة والمركز الحزبي في بغداد . كل ذلك وهي لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها! تعرفت عليها وطلبت يدها من أبيها وأخيها وبعد موافقتهما عقد قراننا في بيت جابر الحكيم (أبو عادل) في بغداد ـ كرادة خارج ، بحضورعائلتي أبو عادل وباقر إبراهيم ومرجعي الحزبي صالح الرازقي ، وبحضور السيد الذي قام بمراسم عقد القران ، وفقا لسنة الله ورسوله . ذكرت هذه التفاصيل ، متعمدا، ردا على الدعايات والتخرصات المعادية للشيوعيين والتي تدعي ، زورا ، إستهتارالشيوعيين بالعادات والقيم الإجتماعية. الملاحظة الوحيدة التي سمعتها من السيد هي إن لبس خاتم (حلقة) الذهب حرام ، فخلعت الخاتم ووضعته في جيبي . وبعد خروج السيد لبست الخاتم ثانية ، لقناعتي بأنه غير مخالف للقيم الإجتماعية . وتزوجنا بإقامة حفل بسيط لم يتعد الضيوف فيه أصابع اليد الواحدة ، ولم يكلف زواجنا الحزب أكثر من مئة دينار.. وعندما أعتقلت كان عمر إبنتنا البكر شروق شهرا واحدا.

في مساء 21 تشرين الأول 1965 عندما كنت قادما من مدينة الثورة متوجها الى بيتنا في الكرادة ـ خارج، مستخدما سيارة أجرة (فورد) تسع 14 راكبا، كان علي تبديلها باخرى من نفس النوع في ساحة التحرير. وقد قمت بذلك فعلا وكنت الراكب ما قبل الأخير في السيارة، اما الأخير فصعد مسرعا وهو يلهث وجلس في المقعد الفارغ الوحيد أمامي مرتبكا. تحركت السيارة، وما أن وصلنا الى مكان هو الأقرب الى مديرية الأمن العامة، حتى طلب الراكب الأخير من السائق التوقف وطلب مني الترجل قائلا:

ـ تفضل أخي إنزل وياي. ترجلت وسألت:
ـ شتريد مني؟ تعرفني؟
ـ إمشي وياي للأمن.
ـ شراح إتحصل لو وديتني للأمن؟ أنطيك 50 دينار واتركني لحال سبيلي.
ـ تريد ترشيني إمشي إمشي وياي. ( بصوت عال)
كنت اجرجر نفسي واجرجره معي الى منعطف قريب لكي أحاول الهرب ، فعرف قصدي فسحب مسدسه وأطلق إطلاقة واحدة في الهواء، فتجمع الناس وبينهم أفراد أمن راحوا يدفعونني ويحثونني للذهاب معه، وأنا أصيح محتجا على إعتقالي مسببا ضجيجا بودي أن يصل الى أوسع دائرة، لعله يصل الى الحزب. كان معي بعض الورقيات من لجنة منظمة الثورة رميتها بعيدا عني، عندما يأست من الهرب. أغلق أفراد الأمن فمي ووضعوا الأصفاد في يدي. وبعد دقائق معدودة أصبحت وجها لوجه أمام مدير الشعبة الثالثة الخاصة بالشيوعيين، والذي عرفت إسمه لاحقا محمد صالح، والورقيات التي "تخلصت" منها أمامه على المكتب.

كانت العلاقة بين الحزب وسلطة عبد السلام عارف عدائية. ففي نيسان من نفس العام كنا قد رفعنا شعارأ يدعو لإسقاط السلطة ، بإعتبارها سلطة عسكرية دكتاتورية ورجعية. وذلك في إجتماع للجنة المركزية، حضره كل من سلام الناصري وعامر عبد الله وآرا خاجادور وحميد الدجيلي وناصر عبود وتوفيق أحمد وصالح دكلة وحسين سلطان وبهاء الدين نوري وأنا ، أقر رفع الشعار بالأغلبية ، وقد تحفظ على ذلك بهاء الدين نوري الذي طالب بالإكتفاء بطرح البديل ، وهو إقامة حكومة إئتلاف وطني ديمقراطي .

قبل خمسة أشهر من القاء القبض علي ، وجهت للحزب ضربة قوية بكبس المطبعة الرئيسية وإلقاء القبض على سليم إسماعيل والعاملين معه في الجهاز، ومن ثم القي القبض على عضو اللجنة المركزية صالح الرازقي ، الذي إنهار في التحقيق وأرشد على بيت توفيق أحمد عضو اللجنة المركزية ، حيث القي القيض عليه . ونصب الأمن كمينا في البيت إنتبه اليه عضو اللجنة المركزية الشهيد حميد الدجيلي ، فهرب محاولا الفرار فقتلوه رميا بالرصاص . لم تؤثر تلك الضربة على منظمات الحزب وخاصة منظمة بغداد التي اعيد بناؤها ، وكنت سكرتير لجنتها القيادية ، عند إلقاء القبض على صالح الرازقي وأصبحت عضو مكتبها عندما نسب سلام الناصري عضو المكتب السياسي ، سكرتيرا لها .

أصعب إمتحان في حياتي

عندما أصبحت في المكتب وجها لوجه أمام مدير الشعبة محمد صالح كان عدد من جلاوزة الأمن يحيطون بي ويشيعون جوا إرهابيا . بعد أن فتشوني تفتيشا دقيقا ، وجدوا عندي حوالي 60 دينار ، جلها مالية منظمة الثورة ، ولم يجدوا عندي أي مستمسك ، قال محمد صالح:

ـ إسمع جاسم إحنا نعرف كل شي عنك . انت عضو لجنة مركزية وسكرتير لجنة منطقة بغداد . أحسن لك إتصير عاقل وتعترف من هسَ (الآن) قبل ما يروح جلدك للدباغ ، أو تالي هم تعترف ، لأن أحنا ما ممكن إنجوز منك .

لم أشك بأن الإمتحان الذي سأمر به سيكون مختلفا عن كل الإمتحانات التي مررت بها ، سابقا ، أمام الجلادين . فأنا صيد دسم بالنسبة لهم . فمفاتيح أكبر وأهم منظمة للحزب عندي . والطريق الوحيد لإجتياز هذا الإمتحان الأصعب في حياتي هو أن يقتنع مسؤولي الأمن بأني صلب وغير قابل للإنكسار. قررت إتباع نفس الإسلوب الذي إعتدته ، الإجابة على قدر السؤال ، عدم إستفزاز الجلادين بدون مبرر، عدم إظهار أية نقطة ضعف بما في ذلك " أن لا أدعهم يرون الخوف في عيني". أجبت على سؤال محمد صالح:

ـ ما عندي شيء أعترف عليه .
ـ وين إتقيم ؟
ـ في غرفة عند عائلة متعهد ما أسبب إلها إزعاج .

ما ان أنهيت كلامي ، حتى إنهال علي الجلاوزة شتما وضربا بالأيدي والأرجل ، مطالبين أن أدلهم على مكان إقامتي . عندما توقف الجلادون السفلة عن الضرب والشتم ، سأل محمد صالح ولآخر مرة : تعترف لولا ؟

ـ ما عندي شيء أعترف عليه .
ـ أخذوه خلي يشوف نجوم الضحى .

أخذني شرطي ، رئيس عرفاء ، ماسكا معصمي بقوة ومعه حوالي خمسة جلاوزة آخرين . أدخلوني ممرا طويلا وواسعا نسبيا إنعطفنا فيه مرة أو مرتين الى اليمين وإنتهى بفسحة صغيرة . دفعوني اليها وبيدهم هراوات وصوندات خاصة للتعذيب .

قبل إنقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 كانت لدينا بعض التقاليد عند تعرض المناضل للتعذيب نعتبرها حميدة، على سبيل المثال لا الحصر عدم التفوه بكلمة (آخ) بعد الأنقلاب لم تعد تلك الإعتبارات ذات قيمة تذكر . المهم عدم التفوه بأسرار الحزب أو ما يسيء اليه .

لذلك ما أن نزلت الهراوات على جسمي النحيل حتى بدأت بالصراخ ، صراخ قوي وصل الى آذان فؤاد الركابي وزميله أحمد الحبوبي ( وكانا معتقلين في دائرة الأمن العامة آنئذ )، رغم إنني لم ألحظ أي منفذ في القبو! وقد أوصلا الخبر للحزب . كان الصراخ وسيلتي للدفاع عن نفسي ويخفف الآلام عني ويزودني بطاقة للمقاومة. وعندما إشتد الألم وأصبح هائلا حاولت أن أمسك إحدى الهراوات لادافع بها عن نفسي . وفعلا أفلحت أخيرا أن أمسك بقبضتي على إحدى الهراوات فقرفصت نفسي عليها بكل قوة محاولا إنتزاعها ، بدون جدوى ، ولم ينتزعوها مني الا بعد إنهيار مقاومتي ووقوعي هامدا لنفاد طاقتي . لم أبالي بما يفعلون ، و لم أفقد وعيي . توقف الضرب ، وقبل أن يتوقف لم أكن أحس بألم الضربات لتخدّر جسمي . كنت قد سمعت بنظرية ، إن الجسم يتخدر بالتعذيب وبعدها لايشعر المرء بألألم ، ولم أصدقها إلا بعد هذه التجربة!!

أوقفوني ، وتأبطني أحدهم ليساعدني في السير. وفي الطريق قال لي رئيس العرفاء "إحمد ربك ما وكعت بيد عقائديين" يقصد بيد البعثيين . وضعوني ، مدميا ، في غرفة لوحدي . وبعد فترة قذفوا علي كمية من القطن. وعندما كنت مشغولا بتنظيف جروحي ، وإذا بشرطي يدخل صالح الرازقي الى الغرفة ويغلق الباب خلفه . تظاهرت بأني لا أعرف بإنهياره ، في الوقت الذي ساورتني الشكوك بأن يكون هو الذي ساعد الأمن لإلقاء القبض علي . وقد تأكد لنا لاحقا بأنه كان يخرج يوميا مختبئا في سيارة الأمن ويترصد الكوادر في ساحة التحرير . قال لي صالح الرازقي أسوء مايمكن أن يقال لي وأنا في تلك الحالة :

ـ ما راح يجوزون منك .
ـ أدري .

في صباح اليوم التالي أخذوني للتحقيق ثانية . المكان مكتب معاون المدير . الأجواء نفس الاجواء الإرهابية، عدد من الجلاوزة واقفين على أهبة الإستعداد للإنقضاض علي . والمحقق معاون المدير .

ـ إنت عضو بالحزب الشيوعي العراقي ؟
ـ نعم
ـ إحجي لنا شنو مسؤولياتك ؟ شنو تنظيماتك ؟ منو يشتغل وياك ؟ إذا حجيت وتعاونت بالتحقيق ، أحنا نساعدك . والعناد ما يفيدك ، تأذي روحك بالبلاش . صير خوش ولد وإحجي .
ـ آني عضو بالحزب ومن واجبات العضو الحزبي أن يصون أسرار الحزب . والمعلومات اللي تريدها أسرار حزبية .
ـ شوف.. شوف كام يتفلسف براسنا إبن ... يبين بعده معاند . اخذوه خلي يشوف عناده وين يوصله .


يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة المياه تهدد حياة اللاجئين السوريين في لبنان


.. حملة لمساعدة اللاجئين السودانيين في بنغازي




.. جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا: هل -تخاذلت- الجن


.. كل يوم - أحمد الطاهري : موقف جوتيريش منذ بداية الأزمة يصنف ك




.. فشل حماية الأطفال على الإنترنت.. ميتا تخضع لتحقيقات أوروبية