الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العباءة

ماجد رشيد العويد

2005 / 8 / 27
الادب والفن


ـ (( صفّي البلورة يا بن العورة. ))
ـ (( وين الصورة يا بن البورة. ))
هكذا كنا نوقّع شتائمنا، وكأنه بهذا التسجيع ستعود الصورة إلى طبيعتها، نظيفة، ويعود الصوت واضحاً.. أيامها كنا لا نبالي بشيء. أما أكثر ما كان يخيفنا فهو منظر رعاة البقر عندما يطارد بعضهم بعضاً، متراشقين بالنار. كانت تحتبس أنفاسنـا، فنقول: سيدعسنا هذا الحصان، هيه، انظر إنه يقترب منا. ولأجل ألا يحدث هذا نختبئ من الرعب تحت المقاعد لأنه سيفعل لو ظللنا في مكاننا.
من هذا أنه شاهدنا مرة فيلماً لرعاة البقر، ومن مشاهد الفيلم أن (( البطل )) أطلق على المجرم ناراً كثيفة. كانت الكاميرا متوجهة تماماً إلى فوهـة المسدس. عندما دوى صوت الرصاص، صاح زميلي وبصوت عال مملوء رعباً دفع بالمشاهدين، ومن خلال السكون الذي فرضته مشاهد الفيلم المؤثرة إلى الالتفات جهة الصوت:
ـ أخ.. لقد أصبت.
مسح بيده على مكان الإصابة ثم قلبها على بطنها فإذا بها مملوءة دماً، استطعت أن أراه رغم العتمة. وضعت يدي على يده فإذا هي رطبة ساخنة. بدا ذلك شيئاً مروّعاً، فكيف تخرج الرصاصة من الشاشة إلى صدره وتستقر في القلب، فينتفض انتفاضته الأخيـرة ويموت؟
كنت مغموراً بالدهشة، فاغر الفم، جاحظ العينين. الناس من حولنا تركوا الفيلم واتجهوا بأنظارهم إلينا. أحدهم قال:
ـ نعم رأيت الرصاصة وهي تخرج من الشاشة، أقصد كما ترون لقد احترقت...
وتابع آخر:
ـ لقد قامت الساعة!!!
وقال ثالث:
ـ شيء لا يقبله العقل!!!
توقف العرض على الضجة التي أحدثتها الوفاة. امتلأت الصالة بالنـور فتوجهت أبصارنا، وبشكل عفوي، إلى مكان العرض. فبرزت حقيقة ما قاله الرجل، النار تأكل الشاشة. عند ذلك تدافع الحضور إلى الخروج خوفاً من أن تصيبهم اللعنة وتقتلهم رصاصة طائشة، وكدت بدوري أن أصدق ما قاله الناس لولا أني أعلم طبيعة الأمر...
***
حدث هذا في ستينات القرن الماضي. لم يكن في بلدتنا غير سينما فؤاد تهفو إليها الأفئدة للترويح والمتعة، وكانت إلى جانب هذا شيئاً كالأعجوبة، وحال خروجنا منها نقوم بتمثيل الأدوار التي أعجبتنا، ونقلّد أصوات الممثلين، ولا نتورع عن ضرب المارة بسيوفنا الخشبية لإضفاء طابع الحقيقة على المشهد، ليكون في الواقع كما رأيناه على الشاشة. وأما النساء فكن ينتظرن حفلتهن في موعـدها، صيفاً، في الساعـة الخامسة من يوم الأحد. وكن إذا ما شاهدن فيلماً فإنهن يتزودن بالمناديل الورقيـة، لأنهن سيبكين عند رؤية الصور وهي تتحرك مثيرة فيهن ألواناً من الشجن، ويتذكرن من مات من الأحبة ومن سافر بغير رجعـة.
كان رجلان يحملان الإعلان عن الفيلم المخصص للنساء عـلى لوحـة خشبية، يدوران بها على البيوت ليأخذن فكرة عنـه. كان القيظ يحملنا على الاحتماء بالظـل حماية لرؤوسنا من الشمس، نتخذ من الزوايا مكامن نرى من خلالها إناث مدينتـنا وقد غطـين أجسادهن بعباءات سود.
آنذاك.. كنا على شقاوة نادرة. الحر يخترق جلودنا وأدمغتنا فتلتهب منا المشاعر، ونسعى إلى المغامرة غير آبهين بالعادات والتقاليد. ولأجل أن يرى الواحد منا حبيبته وضعنا أرواحنا على أكف العفاريت.
بدوري كنت أنتظر هذه الساعة لرؤية الفتاة التي عزمت على الزواج منها. إذا لم أرها الآن فلن أراها أبداً، ولذا فلابد من المغامرة. أما زميلي فقد هيأ نفسه وأخرج العباءة من حقيبة كان يحملها معه، وفي غفلة من الناس ارتداها، وغطى وجهه بأطرافها العلوية، ثم انخرط في صفوف النسوة على أنه واحدة منهن.
في الصالة وعندما انطفأت الأضواء سلّم عليها. وعندما سمعتْ صوته ارتجفت وارتعدت. وبرغم الظلمة فقد ملأها الوجل فأخذت تتخبط في كرسيها. أما بالنسبة لي فهي مغامرة لا أجرؤ على القيام بها، ولذا فلقد اكتفيت بالإشارة والابتسامة.
قلت له قبل أن يدخل معهن إلى صالة العرض:
ـ إن تصرفك هذا قد يودي بحياتك لو علم أهلها. إلا أنه لم يكن يهتم بردة فعلهم، أيامها كان كل ما يعنيه هو أن يلقاها فقط. قال لي:
ـ لا يهم، هي حياة واحدة.
كانت السينما شيئاً جديداً في حياتنا، تعامل معها كبار السن على مضض، ولكنهم قبلوا مع ذلك أن يدفعوا ببناتهم إليها ليرفعن عن أنفسهن تعب الأسبوع. غير أنه لم يكن من المتوقع أن يدخلها شاب في زي امرأة.
مرّت اللحظات بطيئة قاسية. مدّ يده إلى يدها فارتعدت ثم ما لبثت أن توسلت إليه باكية حتى يذهب، ولكنه لم يفعل حتى أخذ موعداً. وكلما أراد لقاءها ومانعت لجأ إلى هذه الحيلة.
وفي يوم ذهبنا أنا وهو لمشاهدة فيلم جديد. بدت الصالة ممتلئة تماماً. ولانقطاع التيار الكهربائي مرات عديدة كنا نصيح صياحاً شديداً دون أن نضع اعتباراً لأحد، ونشتم دون أن يردعنا رادع، وفي فترة الاستراحة رأيت أخاها، عابس الوجه مكفهراً. آنـذاك انتابني الرّوع لا أدري مم؟ ولكنه الخوف ملأني لما رأيته، ولعله الإحساس البعيد بأن شيئاً ما سيحصل. عندما حلّت الظلمة من جديد همست في أذن صاحبي:
ـ إنه هنا
ـ من؟
وأجبته خائفاً:
ـ أخوها!!
كنت مذعوراً إلى الحد الذي بدأت أفقد فيه السيطرة على أعصابي.
ـ من تقصد؟!!
ـ منى، إنه أخوها، هل تفهم؟!!
أحسست به لحظتها أنه كمن وقع في كمين. سألني هامساً:
ـ أين يجلس؟
ـ يتقدمنا بصفين. ابق هادئاً، وسنغادر بصمت.
كنت في غاية القلق، فأخوها لا يتورع عن شيء وإن كان القتل، ولابد أن إحدى الفتيات قد سرّبت إليه خبر الحيـلة التي كان يتبعها للقاء فتاته، وتحديد مواعيد الغرام معها. وفي مثل سريـان النار في الهشيم، جرى الخبر فاستفز الناس، وتنادى أهلها إلى شراء شرفهم بالدم.
كنا ومن مقعدينا ننظر أمامنا، إلى حيث يجلس، وكان بدوره ينظر خلفه حيث نحن. عندها أدركت تماماً أنه يقصدنا...
لم يكن وحده، فقد رأيته يميل ناحية شاب آخر يجلس إلى جانبه. همس في أذنه ببضع كلمات نهض على إثرها واتجه إلى باب الدخول فعلمت لحظتها أنه قد أحكم الحصار على صاحبي، الذي بدا عليه التوتر.
حاولنا الهرب فلم نتمكن. فوجئنا بأن إلى جانبينا شابين كانا يمسكان بنا كلما انقطع التيار. وعندما حانت اللحظة المناسبة، وصوّب فيها راعي البقر رصاصته إلى صدر عدوه اتجهتْ أخـرى إلى صدر صاحبي، وثالثة من حولي إلى الشاشة لتحترق، ويدب الذعر في الناس، وأرى بدوري آخر نظرات أخيها وقد امتلأت شرّاً وتحذيراً من أنني سألاقي المصير ذاته إن لم أنس ما حدث.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07