الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بؤس الوجود الرمزي للمثقف

علي المدن

2014 / 11 / 10
الادب والفن


حين يتوغل الدين بعيدا داخل حياة الفرد والمجتمع والدولة، ويتنفسه الجميع يوميا, يتحول نقدُ الدين إلى نقدٍ للواقع المرير أكثر منه نقداً للقداسة.
مشكلة النقد هنا، تتمثل في صعوبة أن يستمر حياديا، أعني أن لا يكون استفزازيا. وهي مشكلة تتعلق بالأسلوب. ولكن ما هو أعقد، أن تنطلي اللعبة على الناقد، فيجهل، أو يتجاهل، تلك الحوافز "الدنيوية" الحقيقية التي تتلاعب بالمشهد، حينها لا يكون فقط "عديم اللباقة" .. بل وسطحياً.
هنا تُسجل نقطة لغير صالح "المثقف": إن هذا يخسر من رصيده الرمزي والمعنوي الاجتماعي لصالح فكرة النزق والتهور وحتى المجون! وهذه أمور يعد خسرانها في وسط يمتلك تاريخا أسطوريا من الهيبة لرجال الدين أمرا في غاية السوء لمسيرة التنوير.
حين نتحدث عن المثقف و (وجوده الرمزي والمعنوي الاجتماعي) فإننا في الواقع لا نطالبه أن يكون تقيّا أو مؤمنا .. لا نريد أن نبعث تحت جلده مفهوما دينيا (ولا أقول رجل دين)، .. إنما نريده أن يكون جديا بالمستوى الذي تفرضه عليه مهمته .. صحيح أن هذه الجدية فيها نوع من الوقار الذي اعتدنا على رؤيته في رجل الدين غالبا .. وصحيح أن هذه الجدية ستبدأ بالتراجع كلما أشتد الفصل في ذهنيتنا الاجتماعية بين حياتي المثقف الشخصية والفكرية .. مما يعني أنها حالة تاريخية مؤقتة، تطول أو تقصر زمنيا .. إلا أن الوعي بهذه الحالة المؤقتة وأخذها بنظر الاعتبار يبقى مهما على أية حال.
وهذه الحالة تختلف عن فكرة "المصداقية" التي على المثقف أن يتسم بها أيضا، أي أن لا يكون انتهازيا براغماتيا بشعا، فإن هذه الحالة يصعب تخيل إنسان مفكر يحمل نفسه ووظيفته محمل الجد أن يتخلى عنها أو أن يضحي بها. وأمثال هذه النماذج (المثقف اللاانتهازي) وإن كان من الممكن العثور عليها في تاريخنا الفكري، إلا أنها نماذج مؤسسة على أفكار دينية، ولذا فإن المثقف الذي يرفض أن يخضع لأيديولوجيا دينية، مطالبٌ أكثر من غيره بخلق نماذجه الخاصة في هذا الصدد. بالتأكيد أن من غير الواقعي توقّع أن يتحول الجميع إلى أنموذج "هادي العلوي"، إلا أن القليل من هادي يتجاوز حد الكفاية.
قد يتصور البعض أن هذه الحالة تشبه الحالة الأولى، في أنها مرحلة عابرة وتاريخية سرعان ما يتم تجاوزها، وأن بعض المجتمعات المتقدمة المعاصرة تجاوزتها فعلا .. إلا أن الواقع ليس كذلك، بالرغم من التحليلات المخيفة التي قدمها نيتشه للحياة الفكرية في "إنسان مفرط في إنسانيته" و"أصل الأخلاق وفصلها" و"العلم المرح"، وبالرغم أيضا من إصرار يورغن هابرماس على تشابك العلاقة بين المعرفة والسلطة، بالرغم من كل ذلك فإن هذه المجتمعات لا زالت يغيضها إذا ما عثرت في سيرة كاتب ما، مفاصل تدل على لؤمه وسقوطه وسفالة سريرته، ولعل النموذج الهيدجري هنا خير مثال على ذلك، حتى وصفه ديفيد جاسبر بـ "المفارقة"، وهي مفارقة انتماء هذا المفكر الكبير للحزب النازي، فكتب يقول: (وقد استمر النقاش مستعرا حول هذه المفارقة لسنين طويلة. والسؤال هو: ما حجم الجدية في التعامل مع أفكار رجل كانت أخلاقه محل إشكال كبير؟).
والآن إذا ما عدنا للحالة الأولى التي هي محل تركيزنا، فإن تتبع واقع المثقف لدينا، لا يشي بأنباء سارة!!
لنتحدث قليلا عن صنف خاص من هذا المثقف، وهو المنشغل بالانتاج الشعري. والسبب الذي يدعونا أن نخص هذا الصنف بالاهتمام؛ أنه الصنف الطاغي على المشهد الثقافي والفكري في البلد، ولأنه أيضا المتورط أكثر من غيره في تشويه هذا المشهد وتحطيم تقاليده الرصينة. إنني لا أفرد هذا الصنف من الشعر والشعراء بالإشارة إلا لاعتقادي بدوره السلبي في تدهور سمعة لقب "المثقف" وهبوط قيمته الرمزية والمعنوية في الأوساط الاجتماعية والأكاديمية، وهذا في رأيي ما يضر كثيرا بسمعة المثقفين الآخرين (الرصينين) ويعرقل جهودهم في ترسيخ مسيرة التنوير والعقلانية. إنني لست في صدد وصف تدهور عموم المشهد الفكري العراقي، وتحميل "الشعر" المسؤولية الكاملة بإنتاج هذا الخراب الكبير، إذ من الواضح أن إلقاء اللائمة على "الشعر" وحده في تدهور العقل العراقي وتراجع الثقافة والفكر والعلوم يعد أمراً غير واقعي ولا منطقي، وأن التحليل العلمي يلزمنا بدراسة الأسباب الواقعية لهذه الظاهرة، نظير الأعراف الاجتماعية والدينية التقليدية، والحروب، ومناهج التربية والتعليم الفاشلة، وضعف الدولة وساستها في استيعاب مهام التغييرية ... إلخ، وغيرها من الأسباب الحقيقية الضالعة في خلق هذه التشوهات.
نلاحظ أولاً هيمنة ما هو "شعري" على كل أصناف المعرفة والفنون الأخرى، ثم نجد ثانيا هذا "الشعري" خاضعا للتصور السائد في ما يجب أن يكون عليه من "عاطفة" و"انفعال" و"مخيلة"!!، ومع هذا التصور، معه بكل فجاجته، يأتي كل ما هو استفزازي وعجول ومرتجل ونزق. بعبارة أخرى: أن مشكلة ما هو ثقافي وفكري عندنا في العراق أنه مفسر بما هو "شعري"، وهو ليس "شعري" بمعنى (رؤية خاصة بشأن الوجود الإنساني ومشاكله وأزماته ...) وإلا لما رأيت هذه الكم الهائل من الدواوين التي تحجب عنك نور الشمس، وإنما "شعري" بالمعنى التقليدي للمهارة اللغوية العروضية المغلفة بشكل من أشكال العاطفة.
في يوم ما، وأمام جمع من الأصدقاء، قلت: إن جُلَّ من يزاول صناعة الشعر لدينا "مترسلون". حينها لامني الكثير من الأصدقاء على تلك الكلمة، واعتبروا صدورها من رجل يملك أثمن روابط الصداقة مع أشخاصٍ "شعراء"، نوعا من "الفضاضة". ناهيك عن النزعة التبخيسية التي تشيء بها هذه الكلمة للثقافة الشعرية، وللروح الإبداعية الخصبة التي تميزنا كشعب. ولكن الحقيقة إنني لم أكن أقصد بتلك الكلمة تلك الرهافة النفسية العميقة بالوجود التي يتمتع بها الشاعر، وإنما تلك الحالة من التطفل والنزق والهذيان المسمى شعرا. لا يكتفي أمثال هؤلاء "الشعراء" بالانشغال بهذيانهم حتى يتطفلوا على كل شيء!! يكتبون في التراث .. ينشرون في النقد بشتى صنوفه .. يمطروننا بتحليلاتهم السياسية .. يقترحون علينا خططاً للتنمية الاقتصادية .. يقدمون البرامج ويشاركون فيها .. وحتى حينما نريد الضحك والترفيه، يداهمنا "شاعر" ما فيلقي على مسامعنا النكت والطرائف!! في كل جيل، وربما في كل قرن، تلد الأمم الحية شاعرا واحداً يتيما .. فتكتفي به وتخلده .. في حين يولد لدينا كل يوم عشرات الشعراء!! لا أحد منا يجرؤ على السؤال: هل يعقل أن يكون هؤلاء كلهم أبناء شرعيون لروحنا الابداعية "الخصبة جدا"؟ أحقا نحن مميَّزون وفطنون لهذا الحد؟!
كان الفيلسوف الوضعي رودلف كارناب يذهب للقول: (إن الفلاسفةَ شعراءٌ أخطأوا طريقهم)، ويمكننا عكس هذه المقالة لنحصل على المعنى الحقيقي للشعر، أي أن نقول: (الشعراء فلاسفةٌ أصابوا طريقتهم)، ولكن! كم شاعر من شعرائنا من يصدق عليه هذا الوصف؟
إن بلدا يعج بظاهرة "ما هو شعري" كالعراق يثير فيَّ من الأسئلة الحائرة أكثر مما يغذيني بمشاعر الفخر: لماذا هذه الوفرة من الشعر في العراق؟ ما الذي يغذي الموهبة الشعرية في الإنسان وما مصدرها وصانعها ومولِّدها؟ هل وجود الشعر يعكس مزاجا خاصا؟ نفسية خاصة؟ نوعا خاصا من المشاعر والمخيلة يتوفر عليهما المرء؟ كالانفعال أو سرعة التوتر أو سرعة الإستفزاز أو الفضول أو الرهافة ... إلخ؟ هل لهذا الوضع النفسي علاقة بقيمة مشاركاتنا في الأصناف الأخرى من المعرفة؟ هل يعني هذا شيئا في فهم شخصيتنا ومجتمعنا وسلوكنا؟
يبدو لي أن الاهتمام بأمثال هذه الأسئلة تشكل البداية في فهم السمة الغالبة على مشهدنا الفكري والثقافي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??


.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??




.. فيلم -لا غزة تعيش بالأمل- رشيد مشهراوي مع منى الشاذلي


.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط




.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش