الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أهل الكهف

هشام الطوخى

2005 / 8 / 28
الادب والفن


نحن أبناء أبينا وأحباؤه ... سبعون من الاخوة ، بلهاء ورعاة جهلة . أبونا شيخ المرعى ومعلمنا وكاهن أسرار المعبد ومؤسسه باسم الرب .أرضنا جدباء مقفرة ، تقبع غامضة بين جبال ورمال . حين يبزغ ضوء الصبح يجيئ أبونا الى الكهف فيخرجنا من توابيتنا ، يقودنا الى المعبد ، يباركنا : " الصامتون الطيبون يحببهم الرب " ، يعمدنا بالتراب المقدس ويتلو علينا كتاب الحكمة .
ورغم جهلى وبلاهتى استطعت أن أحفظ شيئاً من الجزء الذى يمجد الأسلاف وأرضنا العريقة التى علمت قديماً الحكمة لجيراننا السمر والصفر من المهراجات وأباطرة أسرة هان.
يودعنا أبونا بالمحبة فنخرج الى الواجب ، نبحث عن الكلأ ، جارين دوماً محاريثنا الخشبية فوق الأرض رغم انعدام المطر وعدم امتلاكنا للبذور .
بقراتنا عجاف وكسيحة ، اذا وجد أحدنا شيئاً من كلأ اجتمعنا فحملناها على أكتافنا اليه ، ونحن لا نأكلها رغم أن ذلك ليس محرماً فى شريعتنا ، أنا لا اعلم سبباً لكن ابانا يعلم .
قبل أن يتلاشى الضوء نهرع الى أبينا فى المعبد ، ينزع عنا المحاريث التى انغرست حبالها فى لحمنا ، يربت على أجسادنا بمحبة ، يباركنا : " المنهكون الطيبون يحببهم الرب " ، يعمدنا بالتراب المقدس ، يتلو علينا كتاب الحكمة ثم يقودنا الى الكهف ، ويرقدنا فى توابيتنا بسلام .
الأصوات نجسة ، تطهرها الحكمة ، ونحن جهلة بلهاء ، لا حكمة لدينا ، من أخرج منا صوتاً تنجس وغضب عليه أبوه ، من يغضب أباه يبقى فى تابوته يوماً ممنوعاً عن ضوء الصبح ، أما من يخرج صوتين فقد يغضب منه الرب ، من يغضب منه الرب يترك منبوذاً خارج تابوته حين يجيئ الليل ، والويل للمنبوذين والموت الأبدى . فمن ذا يقدر أن ينجو من تلك الذرات السوداء التى تثقب الجسم وتهرس اللحم والعظم وتذيب العيون ؟ جاءنا أبونا مرة بعظام الرجل الأصفر المنبوذ ومرة بعظام البقرة التى نسيت فأكلها الليل .
" نحن جهلة مساكين ، لا حكمة لدينا ، الصمت شريعتنا والمجد للصامتين "
فى البدء كنا محظوظين ، حين يولد الواحد منا كانت توضع فى فمه قطعة من القطن مبللة بالأحماض ، وحتى عمر العاشرة كان الواحد منا قد ألقم قطنته مئة ألف مرة . دربنا بكل محبة واخلاص ، فلم تصر لأى منا حجة لتزعزع الايمان .
المأساة حدثت فى ذلك الصباح الذى شرد فيه عنا أحد الاخوة ، كان قد ترك المرعى المعتاد ويبدو أنه طمع فى اسعاد ابيه بعين جديدة للماء أو بمكان يكثر فيه العشب ، لكنه لما ابتعد كثيراً ضل ، فدخل الى أرض الشعب الأصفر ، وهناك صادفه قطيع من أبقار ترعى كلأ وافراً ، ووجد خيمة من الشعر منصوبة ، تلصص حولها ، فلمح قربة من الجلد ، كان شديد العطش فأسرع يعب منها الماء ، لما ارتوى فوجئ برجل أصفر واقفاً أمامه ، ذعر وتراجع خطوات للخلف وبقيا وقتاً يترامقان .
كانت تلك هى المرة الأولى التى يرى فيها هذا الأخ رجلاً أصفر كاملاً لم يأكله الليل .
هو ذو عينين ضيقتين ومنحرفتين ، لديه شعر طويل فاحم و على جسمه لحم كامل ، وهو قصير القامة وكافر .
فجأة بدأت تخرج من فم الرجل الأصفر أصوات ليست كالموجودة فى كتاب الحكمة ، تراجع الأخ الى الوراء خوفاً من اللعنة ، ثم ابتدأ الجرى .
حين عاد الينا آخر النهار تلقفته ، أشار الى بما جرى ، كان سعيداً بالكنز الذى اكتشفه ، قررنا - ومعنا أحد الاخوة - أن نذهب فى الغد لاحضار كل شيئ ، ونبهنا بعضنا مراراً ألا يقوم أى منا بلمس عظام المنبوذ حتى لا يصاب بعدوى اللعنة .
فى هذا اليوم حين دخلنا الى المعبد وتلي كتاب الحكمة ارتجف ثلاثتنا بشدة ، وبكينا باخلاص حين تليت : " الاصوات تطهرها الحكمة ونحن جهلة مساكين ، لا حكمة لدينا ، الصمت شريعتنا والمجد للصامتين " .
فى اليوم التالى شاهدنا أغرب ما يمكن أن يشاهد : الرجل الأصفر بكامل لحمه يحرك فى وجوهنا حربة ويصرخ بأصوات كثيرة ليست من كتاب الحكمة .. هل هذا يصدق : الرجل المنبوذ لم يأكله الليل ؟!!!!
جن أخى ، جمع باقى اخوتنا و أشار لهم بالحكاية مئات المرات ، ظلوا طوال اليوم جالسين أمامه فاغرى الأفواه ، تتدلى منها ألسنتهم المشوهة ، ثم - وياللأسى - ابتدأ يخرج من فمه أصواتاً محاولاً تقليد الرجل الأصفر ، وجرب بعض الاخوة أن يفعلوا مثله .
فى المعبد أشار الأخ الى أبينا بالحكاية ، وحاول أن يخرج صوتاً فمنع بقوة ، وأرسلنا فوراً الى الكهف ، وبقينا تلك الليلة نتقلب فى توابيتنا . حين بزغ ضوء الصبح رأينا عظام أخينا المنبوذ وقد أكله الليل ، وعلى باب المعبد كان معلقاً لسان مشوه .
منذ ذلك اليوم يجرب الواحد منا سراً داخل تابوته ممارسة الأصوات ، ورغم أننا عرفنا أن الاصوات لم تعد نجسة فما يزال علينا أن نحب أبانا ، فليس لدينا غيره ، ونحن نعرف الواجب ، ولن نتوقف يوماً عن جر محاريثنا الخشبية فوق الأرض وحمل البقرات الى الكلأ ، والاستماع الى كتاب الحكمة فنحن جهلة مساكين ، لا حكمة لدينا ، الصمت شريعتنا ، والمجد للصامتين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار


.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة




.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن


.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع




.. سكرين شوت | الترند الذي يسبب انقساماً في مصر: استخدام أصوات