الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموت المجاني في بر مصر

خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)

2014 / 11 / 11
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


"لكنها تدور"

الموت المجاني في بر مصر
د. خالد سالم
هناك حكاية يلف سردها روياتان مختلفتان في مضمونهما، ففي روايتها الأولى أن نوعًا من الفئران يسكن جزيرة وعندما تدرك الجماعة اقتراب انتهاء ما في الجزيرة من طعام لها يؤثِر فريق منها الموت حفاظًا على حياة باقي أعضائها فتتوجه مجموعة منها إلى البحر وتنتحر بشكل جماعي، وتفيد روايتها الثانية أن فريق الانتحاريين يأتي على الأخضر واليابس وهو في طريقه إلى البحر.
ما يحدث لهذا الفصيل من القوارض ينسحب على ما يحدث في أرض الكنانة، وهذا ليس وليد اللحظة، بل يمتد بجذوره ليصل إلى الانفلات الذي أنتجته براثن سياسة الانفتاح منذ منتصف السبعينات وما تلاها من سياسات "الخطف والجري" التي رسخها نظام طويل العمر مبارك.
فالمتابع لحوادث السير في الطرق والموت في المستشفيات العامة والخاصة يدرك أن ما يحدث انتحار ونحر جماعي، إذ أصبحت الطرق تعج بالحوادث المميتة جراء الرعونة وعدم احترام قواعد المرور من قِبل شريحة معينة من السائقين، إضافة إلى سوء حال الطرق والشوارع، ما جعل مصر تتصدر دول العالم في حوادث السير وما تسفر عنه من قتلى ومصابين. وقد خرج هذا إلى الضوء جراء تسليط وسائل الاعلام الضوء على الحوادث المميتة التي وقعت في الأيام الأخيرة، دون أن تشير إلى الاهانات والسباب والاحتكاكات اللفظية التي تشهدها الطرق على مدار الساعة، وكأن الشعب قرر، تحت الضغوط اليومية، اللجوء إلى شكل من أشكال الانتحار والنحر.
ولعل المتابع يدرك أن التكاثر الذي لا مثل له في بلد محدود الموارد والأرض الصالحة للسكن ويعج بالسكان مثل مصر هو السبب الرئيس في التآكل والتردي الذي تعانيه البلاد على المستويات كافة. وتمثل ظاهرة وفرة الانجاب جانبًا آخر من جوانب الانتحار الجماعي . كلُّ له حججه وأسبابه الوجيهة في كثرة الانجاب: فهي تارة عزوة، أو بحثًا عن الذكر عندما تتصدر الصبايا قائمة انجاب الأسرة، أو رفض موانع الحمل لأسباب دينية.... وكان حريًا بالشعب أمام تردي سبل الحياة وتغيب مؤسسات الدولة والخدمات العامة أن يكف اراديًا عن الانجاب بهذه الطريقة المزرية والمهينة للإنسان مع غياب الخدمات وتهالك الموجود منها.
قطاع الصحة، بشقيه العام والخاص، يمثل احدى نقاط الانتحار والنحر في بر مصر، فقد انتشرت الأحداث المتعلقة بهذا الأمر وكثرة ضحايا الاهمال في العيادات والمستشفيات، وأصبحت المستشفيات العسكرية المخرج الوحيد إذا أراد أحدهم تلقي علاجًا آدميًا وينفذ بجلده من موت محقق في العيادات والمستشفيات الخاصة والعامة. الاهمال وانعدام الانسانية أصبحا سمة من سمات قطاع الصحة، فقد تخلى المصريون عن شهامتهم وإنسانيتهم بعد سيطرة المادة على كل شيء منذ السبعينات، انطلاقًا من مبدأ "اخطف واجرِ" ، وسادت المحسوبية تحت خيمة اللامبالاة.
الأمثلة وفيرة، ومن أبرز حالات الاهمال في المستشفيات الخاصة والعامة التي أدت إلى الوفاة الأسبوع الماضي كانت محورها مهندسة شابة، في مطلع الثلاثينات، وفاء النجار، كانت تعمل في الدوحة وقرر زوجها أن تضع وليدتها بين الأهل في مصر. اختاروا مستشفى خاصًا لاجراء الولادة القيصرية، إلا أنها دخلت غرفة الولادة على ساقيها وخرجت منها في غيبوبة عميقة بعد ثلاث ساعات من محاولة الافاقة الفاشلة، جراء جلطة غطت الجانب الأيمن من المخ. ويؤكد حضور الكارثة أن طبيب التخدير خرج من غرفة العمليات وجلس في غرفة أخرى يتناول الفطور، رغم أن أبسط قواعد الرعاية تنص على ألا يخرج من غرفة العمليات قبل افاقة المريض، فهذا النوع من العمليات لا يتأخر أكثر من نصف ساعة. توقف القلب ولم تدرك الطبيبة المولدة الأمر إلا بعد فوات خمسة عشر دقيقة. جرت محاولات الافاقة لأكثر من ساعتين، ودخلت الفتاة في غيبوبة عميقة جراء اصابة الجزء الأيمن من مخها بجلطة غطته كله تقريبًا حسب الأشعة التي أجريت لاحقًا.
وما كان من طبيبة التوليد ومعها طبيب التخدير إلا أنهما استغلا نفوذهما في مدينة المحلة الكبرى، حيث وقعت الحادثة، ووفرا لها مكانًا في مستشفى تابع لوزارة الصحة، رغم أن الحالة كانت حرجة للغاية. وفي هذا المستشفى الأخير لاقت المهندسة الشابة أصناف اهمال التمريض والعناية الصحية بحيث أنه في اليوم الثالث أخذت تظهر تقرحات الفراش التي صالت وجالت في جسدها وبعد عشرة أيام وصل أحدها، في ظهرها، إلى العمود الفقري فبانت فقراته، وآخر في مؤخرتها كان يسع كف يد وجزءًا من المعصم، حسب شهادة شقيقتها وزوجها.
اسغرقت الرحلة بين الولادة والموت ثلاثة أشهر، انتهت في نهاية أكتوبر الماضي، ذاقت الأسرة أصنافًا عدة من التهديدات بحجب الرعاية وزيارة الأهل وتخفيف العلاج الذي كانت والدتها الأرملة تشتريه على نفقتها. لم تبخل الأسرة عليها بجراجين واخصائيي مخ وأعصاب على نفقتها لمتابعة الحالة في المستشفى الحكومي، على أمل أن تنهض من غيبوبتها العميقة، إلا أن مساعي الأسرة المكلومة التي يخيم عليها الموت وحادثة سير لابنة أخرى تركتها شبه عاجزة عن السير والحياة.
لم تفد بركات الصحابي عبد الله الصفطي، إذ يوجد ضريحه في القرية نفسها، صفط تراب، مسقط رأس الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي. و تجسدت النتيجة المتوقعة في موت وفاء النجار بعد ثلاثة أشهر ذاقت فيها الأسرة كافة أنواع التهديد والعذاب لتجاسرها على طلب رعاية صحية آدمية لابنتها، فكيف تجاسرت وقبلت تحقيق النيابة في الواقعة والاعراب على موافقتها على أن يأخذ القضاء مجراه في قضية ابنتها. أذكر من بين التُرهات التي حُكيت أن بعض الأهالي زاروا مدير المستشفى طلبًا لرعاية صحية أفضل، خاصة تسهيل مهمة تقليب المريضة حتى لا تزيد التقرحات، فما كان منه إلا أن ذكرهم بأن هذا أمر الله وقرأ عليهم آية من سورة "أهل الكهف" " ونقلبهم ذات اليمين وذات اليسار"، ما يفضح ضعف موقفه.
الأسئلة المطروحة حول هذه الحكاية كثيرة، فكيف يُسمح لطبيب ارتكب مثل هذا الخطأ بممارسة الطب، التخدير، طوال عمره المهني الذي يزيد على أربعة عقود، وكيف يمكن أن تحدث هذه التقرحات، وكيف يُسمح لما يطلق عليه مسمى مستشفى خاص بمواصلة عمله. فهذه ليست أول حادثة من هذا النوع يشهده هذا المستشفى الخاص وعلى يد الطبيب نفسه حسب شهود عيان.
هذا الاهمال دمر أمًا ومعها بناتها، وقصتها معهن قصة كفاح أم ترملت وهي في مطلع ثلاثينات عمرها، لتخوض معركة تربية بنات قدمتهن لخدمة بلد أضاع احداهن وأصاب اهمال السير في الطرق أخرى بعطب كبير في الساق والعمود الفقري. لقد ترك الاهمال أطفالاً، منهم رضيعة، موزعين وممزقين بين قطر ومصر، بعد أن كانوا يعيشون في كنف أسرة مستقرة سعيدة تسعى لبناء مستقبل لها ولأبنائها.
هذا الحكاية أسوقها لأنها نموذج لحكايات وأساطير حول العلاج في مستشفيات القطاعين الخاص والعام، فالتكاسل مخزٍ بدءًا بالتمريض ومرورًا بالأطباء المعالجين. الغريب أن هؤلاء الأطباء والممرضات عندما يهاجرون للعمل في دول الخليج يلتزمون بالقواعد ويمارسون عملهم على خير وجه.
الملاحظ أن أزمة وجود تخيم على تصرفات المصريين اليومية وكأنهم يعيشون محاصرين، في مصيدة ضاقت بهم بعد أن تآكلت الأرض الزراعية في الدلتا والوادي جراء البناء عليها لسد العجز في المسكن لمواجهة الانجاب الجنوني. وحوادث السير وضحايا الاهمال في المستشفيات الخاصة والعامة خير مثال على هذه الأزمة. هذا ناهيك عن العراكات الممتدة على طوال الشوارع والطرق السريعة لكثافة السيارات والافتقار إلى اشارات وقواعد المرور في هذا البلد الذي علم البشرية الكثير منذ فجر التاريخ. لقد رخصت الحياة لدى شعب بنى صروحًا عظيمًا، الأهرام، حبًا في الحياة، من أجل الخلود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أليس في مصر من يغير على شعبها ويعاقب أمثال هؤلاء ا
محمد الصياد ( 2014 / 11 / 24 - 20:09 )
مساء الخير دكتور خالد
واضح أن أمر هذه الفتاة يؤلمك، فليس هناك جديد في هذا الحادث الذي يتكرر في مصرنا العزيزة كل يوم. ورغم هذا فقد جعلت منه بقلمك الجرئ قضية رأي عام.
هل طبيب التخدير لا يزال يمارس عمله؟ وهل مدير المستشفى العام لا يزال في منصبه بعد هذ ا البؤس والتخلف؟!!!!
أعرف الإجابة، ولكن أليس في مصر من يغير على شعبها ويعاقب أمثال هؤلاء القتلة؟


2 - إنهم قتلة ولصوص!!!!
توفيق المقصبي ( 2014 / 11 / 25 - 20:27 )
أصبت فى توصيف ما يحدث فى بلاد النيل، واهب الحياة، لكنك تصرفت كما يقول ولا تقربوا الصلاة... لماذا لم تذكر المسئولين عن هذه الجريمة باسمهم؟ هل تتصور أن من يقرا عليه أن يبحث عنهم فى المحلة الكبرى؟ يجب أن تفضحهم باسمائهم حتى يتجبهم الناس وهذا أضعف الإيمان. إنهم قتلة ولا يجوز تركهم يمارسون مهنة خُلقت لعلاج الناس وليس لقتلهم.


3 - الإمارة ولوعلى الحجارة
خالد سالم ( 2014 / 11 / 27 - 08:10 )
ثمة مثل عربي أصيل يقول - الإمارة ولوعلى الحجارة- فهذا هو ما يحدث في أرض الكنانة الطيبة من قِبل كل مسؤول، سواء أكان صغيرًا أم كبيرًا وفي أي موقع، فالكل على مقعد منصبه دون أن يفعل شيئًا مما يقره منصبه، ولهذا اهترأ البلد وتسيب كل شيء خلال العقود الأربعة الماضية.
هذا المدير، حسب ما قرأت في الصحف، رُقي مؤخرًا الى منصب أعلى رغم عدم وفائه لما هو قائم!!!!

اخر الافلام

.. اجتماع مصري إسرائيلي أميركي مرتقب بشأن إعادة فتح معبر رفح| #


.. المتحدث باسم الخارجية الأميركية لسكاي نيوز عربية: الكرة الآن




.. رئيس مجلس النواب الأميركي يعلن أن نتنياهو سيلقي كلمة أمام ال


.. أربعة عشر متنافسا للوصرل إلى كرسي الرئاسة الإيرانية| #غرفة_ا




.. روسيا تواصل تقدمها على جبهة خاركيف وقد فقدت أوكرانيا أكثر من