الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باتريك موديانو هل يستحق نوبل الآداب؟

سعد محمد رحيم

2014 / 11 / 18
الادب والفن


أغامر أحياناً وأقتني أعمالاً روائية لكتّاب عالميين لا أعرفهم، آملاً، بحدس قلما يخيب، بأن هناك ما قد يفاجئني فيها ويُدهشني.. وهكذا استطعت اكتشاف روائيين وروائيات ليسوا ممن اعتدنا قراءة نصوصهم، أو عنها في صحفنا ودورياتنا وكتب نقادنا.. وكان ديدني هو الوقوع على أساليب وتقنيات مبتكرة ومائزة في حقل الكتابة الروائية الذي يعد المختبر الأكثر ثراءً للتجريب وإبداع أشكال جديدة، طالما أن نوع الرواية متحررٌ من الشكل الواحد الجامد والقار. وهنا كنت أحظى أحياناً بروايات مثيرة ومذهلة، فيما تُحبطني روايات أخرى أجدها عادية وضعيفة. وفي الأحوال كلها تكون التجربة مفيدة ومثمرة. ومن ضمن أولئك الروائيين باتريك موديانو الفرنسي الفائز بجائزة نوبل للآداب لهذا العام ( 2014 ). ومن المؤكد أن لحُسن الترجمة وبراعة المترجم دورهما في هذا الجانب. وفي الغالب يشجعني اسم المترجم، أو تمنحني قراءة صفحة واحدة وبضعة مقاطع من صفحات أخرى لأعمال موقّعة بأسماء مترجمين لم أقرأ لهم، من قبل، انطباعاً يكاد يكون صحيحاً عن هذا الأمر قبل اتخاذي قرار شراء الكتاب وقراءته.
حين تُوِّج باتريك موديانو فائزاً بجائزة نوبل للآداب منتصف تشرين الأول الماضي بدا اسمه غريباً عليّ، واعتقدت أنه لم يسبق لي قراءة شيء له، لكن حين أشارت مدوِّنات عديدة على الفيس بوك لعنوانات أعماله المترجمة إلى العربية فطنت إلى أنني قرأت روايته القصيرة ( مجهولات ) قبل أكثر من سنة بترجمة رنا حايك. ولا أدري لماذا علق في ذهني عنوان الرواية واسم مترجمتها وغاب اسم المؤلف. ولعل هذا يُعضِّد فكرة موت المؤلف التي أشاعها البنيويون منذ خمسينيات القرن الماضي، وإنْ كنت ممن لا يؤمنون بها.
وأول ما يلفت النظر في رواية ( مجهولات/ نشرت بالفرنسية عام 1999 )، أنها نص لا يمكن وصفه بالتقليدي، بلغته المكثفة، وبنائه السردي الرشيق الذي يعتمد النسق المتوازي، حيث يحكي عن حيوات ثلاث نساء مجهولات ( بلا اسم ) لا يبدو أن أي واحدة منهن تعرف الاثنتين الأخريتين. فضلاً عن جو الغرابة الذي يكتنف مسار الأحداث.
كتابات موديانو مسكونة بهاجس الماضي، لكنه ليس الماضي الصافي المتماسك والصلب، بل الهش والمتشظي والمبهم. ولذا فإن ما ترمي إليه نصوصه الروائية هو النبش في هذا الركام الذي تركته الشخصيات وراءها بقصد انتشال صورة الذات وهويتها من مجرى الزمن. وهنا يكون موديانو سليل ذلك العبقري الباحث عن الزمن الضائع؛ مارسيل بروست. وشخصياته التي فقدت الذاكرة هي الأكثر قدرة ربما على المضي بالتحري إلى آخر الشوط ومهما كانت النتائج. هذه المفارقة تضفي على سرد موديانو هالة خاصة، وعنصر إثارة لا غنى عنها في أية رواية يبغي كاتبها شد القارئ إليها.. غير أن قارئ موديانو لابد من أن يكون حاصلاً على قدر من الثقافة، ويتمتع بذكاء كافٍ يعينه في استجلاء خفايا ذلك السرد.
حرّضني فوز موديانو بالجائزة العالمية إلى قراءة رواية أخرى له هي؛ ( شارع الحوانيت المعتمة/ دار الهلال 2009، بترجمة محمد عبد المنعم جلال ).. ومنذ جملة الاستهلال؛ "أنا لا شيء غير طيف واضح". يضعنا الكاتب أمام أفق انتظار مقلق مشحون بالغموض والالتباس. فالراوي ( البطل ) الذي سيعرّف بأسماء عديدة لن نعرف اسمه الحقيقي أبداً. ولن نكون على يقين تام من حقيقة علاقة القرابة التي تربطه بالشخصيات التي يسعى للعثور على تفاصيل من حيواتها الماضية وجذورها العائلية والاجتماعية.. فأولئك، مثلما يقول؛ "أناس غريبو الأطوار لا يتركون خلفهم ما يدل عليهم غير بخار لا يلبث أن يتبخر ويزول".
يفرض التاريخ الشخصي، والتجربة الذاتية، والمشهد السياسي الاجتماعي الذي عاش في قلبه، منطقه وموجِّهاته على الكاتب في جعل ثيمة ما مركزية في كتاباته.. وأعتقد أن ما قاد موديانو إلى اختيار البحث عن الهوية مادةً رئيسة في كثر من رواياته هو تحدره من أصول عرقية متباينة، فقد ولد بباريس في العام 1945 عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية من أب إيطالي يهودي وأم بلجيكية تعمل ممثلة، ليحمل جنسية فرنسية، حيث افتقد في معظم الأحايين وجود الأب فيما انشغلت أمه عنه في طفولته بسبب العمل. وحين مات أخوه مبكراً اهتز موقعه في الوجود وهو لما يزل في مرحلة يفاعته الغضة.. وهذه هي الأرضية الخصبة المحرِّضة على السؤال عن الأنا في العالم؛ من أنا حقاً؟ ومن هم الآخرون؟ لينطلق بعدئذ لتقصي قضايا الوجود الكبرى؛ الحب والحرية والموت.
الرواية ولع موديانو الأول، غير أنه كتب قصائد أغنيات أيضاً.. أدت من شعره فرانسواز هاردي وريجين بعض الأغنيات. كما كتب سيناريوهات عدد من الأفلام منها ( البريء، ابن غاسكون، رحلة سعيدة ). وفي كلا المجالين حقق نجاحاً نسبياً.. وقبل حصوله على نوبل الآداب حاز على رضا النقاد، غير أن رواياته لم تُعرف كثيراً في الفضاء الثقافي الأنكلو سكسوني. أما المسوِّغ الذي ساقته لجنة نوبل في منحه الجائزة فهو اهتمامه بفن الذاكرة في معالجته المصائر الإنسانية الأكثر عسراً على الإدراك، وسبر العالم الذي خلّفه الاحتلال.
ربما نجد في رواياته شيئاً من بصمات كافكا، وهو يظلل عالم الواقع بمسحة من الغموض والسحر. وشخصياً حين قرأت روايته ( شارع الحوانيت المعتمة ) استعدت في ذهني رواية ( لو أن مسافراً في ليلة شتاء ) للإيطالي إيتالو كالفينو لوجود نوع من التناظر في بناء الروايتين إذ يتم جمع شظايا أحداث متباينة في فسيفساء مبهرة. مع التأكيد بأن كلا من الروائيين استخدم تقنية ولغة ورؤية مختلفة عن استخدامات الآخر.
ليس من السهل أن نحكم فيما إذا كان موديانو يستحق الجائزة أكثر من بقية المرشحين لها، أو لا.. لكنه قطعاً يقف إلى جانب كبار الكتّاب العالميين بعدما اختط لنفسه طريقة استثنائية لافتة في السرد الروائي، هو الخجول، المحب للعزلة، الزاهد بالشهرة، والذي يعترف بأنه لا يتقن فن الكلام، لاسيما عن نفسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضحية جديدة لحرب التجويع في غزة.. استشهاد الطفل -عزام الشاعر-


.. الناقد الفني أسامة ألفا: العلاقات بين النجوم والمشاهير قد تف




.. الناقد الفني أسامة ألفا يفسر وجود الشائعات حول علاقة بيلنغها


.. الناقد الفني أسامة ألفا: السوشيال ميديا أظهرت نوع جديد من ال




.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي