الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما يفعله البهاضمة يتكرر 7

حسين الرواني

2014 / 11 / 19
الادب والفن


هذا المخزن ثقب أسود يمتص بخراطيم يقطر منها الحمض، أيام خضر الراكدة كرماد في قعب تنور، ويكتب بها على جدرانه الداكنة استغاثات مختنقة الى ارباب السماوات، وأرباب الارضين، كان تمني المعجزة على أشده، معجزة يصحو على أنبائها في صباح من صباحاته المشبعة بدخان اليأس المتصاعد مع أذان المساجد، ممزوجة بطعم الغبشة المحبطة سلفا الى المسطر، معجزة من خيارين، إما العودة إلى الكرغولية بشيء يستحق العودة به، أو خيار آخر، كانت مرارته تتناثر في ريقه كلما فكر فيه، كتناثر قنابل عنقودية في حقل شعير، ورغم حنظلية هذا الخيار الثاني، إلا أنه لم يكن يدرك على نحو الحقيقة ماهيته، لكنه ما دام خيارا، فهو مر، ومرعب، ويقلص مساحة الرؤية إلى صفر.
رن هاتفه أسود اللون، في عصر التاسع عشر من تشرين الثاني، قرأت عيناه اسم المتصل، حسن المرواني:
ـ ألو السلام عليكم
ـ وعليكم السلام أبو ديار، شلونك أستاذنا شلون صحتك.
قبل عشرة أيام من هذه المكالمة، كان ضيفا على حسن، من محاسن حظه أن حسن انتبه إلى ضعف حالته المادية، كشفها قبوله بالتاكسي الذي احتجزه له حين توادعا، ومع هذا الاطلاع العياني من قبل حسن، تيقنه من قدرة خضر في اللغة والأدب وتمكنه من النحو والصرف بعد نقاش في تفسير الأبيات الشعرية والقوافي خمس ساعات مستمرة، هذا ما فهمه خضر من اتصاله الآن.
ـ آني حسيت بيك تعبان، وأكو فرصة عمل كمصحح لغوي، بجريدة المدى، ينطونك بأول تلت أشهر تلثمية وخمسة وسبعين، وبعد التلت أشهر يعدلون راتبك ويصير اربع مية.
ـ أبو ديار بنص هذا المبلغ اشتغل، دليني بالجريدة مكانها وين.
ـ بالسعدون، قريبة على أبو نؤاس. تروح ويستقبلك شخص اسمه أبو مهند الأمين، وإذا ما خلوك الحرس تطب كللهم آني جاي على ابو مهند، واريد اشتغل بالجريدة.
استجمع قدرته على الفرح والانتشاء، لكنه لم يقو على الشعور بردّ فعل عاطل عن العمل، عاش حياة كالتي عاش، وبُشّر بفرصة عمل تدر سعر تبغ، وأجرة كوستر، ترك هذا الاتصال رغم بشراه، ثقلا عليه، كيف سيذهب إلى المقابلة، وانشغل مع نفسه في منولوج قصير جدا، ترك عليه مظهر حكيم من حكماء اليونان.
ـ منين اتداين الكروة؟
تسارع تدخينه الذي يكاد يأتي على السكائر القليلة المتبقية في الباكيت، وتزايد القلق، لم يفكر بها على الإطلاق، انشغل بهمّ أجرة الذهاب إلى العمل الجديد، أول عمل سيشتغل به براتب شهري ثابت، خرج يشحط على الأرض بنعل متهرئ أصفر اشتراه قبل عامين، وبيجامة وقميص قديمين تصدق عليه بهما متصدق، خرج يخبّ في شوارع المعسكر، لا إلى وجهة محددة، استعرض كل أصدقائه ومعارفه، ولم ينجح في العثور على شخص مناسب للمهمة، استدانة عشرة آلاف، فهم إما بعيدون بحيث يتطلب الوصول إليهم الركوب في سيارة، وإما قد أقرضوه من قبل مرات ومرات، حتى حذفهم من قائمة أصدقاء الطوارئ، خجلا منهم، لكنه وجد نفسه مضطرا أخيرا، إلى اللجوء إلى واحد من هؤلاء المحذوفين، اتصل بسيد علي، وتأكد من وجوده في المنزل القريب من منزله، كان سيد علي قد رجع لتوه بزوجته الحبلى من المستشفى وقد ولدت، طلب منه أن يذهب معه في سيارته إلى الأمين لتسوق بعض ما يحتاجه الطفل وأمه، وفي الرجوع أخرج سيد علي العشرة آلاف التي طلبها، باعتذار عن عدم وجود غيرها.
الآن، هو أكثر ارتياحا، وأكثر استعدادا للانتشاء، استعاد في ذاكرته اتصال حسن، واسترجع تفاصيل البشرى، واشترى باكيت أسبين من دكان خارج المنطقة، لأن كل الدكاكين القريبة تطلبه، سينام ليلة أهدأ من السوابق.
حين انتهت الأشهر الثلاثة، تم تثبيته على الملاك الدائم، براتب لم يستلم خضر يوما بقدره، 5 مئة ألف، أصبح الراتب يكفيه وزيادة، لكن جثة حلم سابق، بدأت بالتحرك داخل نعشها الملحود في باطنه.

19 من شهر تشرين الثاني، إنه يوم الكرامة العالمي، بالنسبة له، ويوم البدء في الخروج من حياة يعيشها الملايين، إلى حياة يعيشها أفراد، حياة تنعم بالطمأنينة، والهدوء، وبشعور عجوز يجلس على الشاطئ، وفي يده تبغه، وإلى جانبه قوري الشاي على وجاغ من طرفة.
تشرين الثاني، شهر اللقمانية، ففيه استحق خضر الدخول في مرحلة إعداد أخيرة ليصبح لقماناً آخر، وفي الحادي عشر من الشهر ذاته بعد عام واحد، تتوجت لقمانيته بالوتر والريشة.
لحظات الألم التي يعيشها المرء، أكبر من الكلمات، لأن الكلمات من قالب مكاني، والألم شعور، والشعور من قالب زماني متحد بالذات، فلن يكون في وسع بشر أن يدرك تماما حجم ما قاسى خضر، وهذا يشبه تماما، استحالة شعور الآخرين بما يحدث في دواخل خاطره حين يملأ أذنيه بنغمات المتعلقين بين الدنيا والآخرة يعزفون، هذا من ذاك.
يا لقمان النبي، في هذا الشهر، في التاسع عشر، استحق ابنك هذه المرتبة، كان الطريق طويلا، شاقا، كثير المفارق، صادف فيه وجوها كثيرة خلفها وراءه، ووطئ بقدميه أماكن أكثر، ونودي بشيخنا مرة، وبزميلي، ثانية، وأستاذ ثالثة، لكن ملوحة الأرض كانت قد نسجت نفسها في موشور لوني مع بلازما دمه، وربطه حب الطقس والحدس بأنوائه، بقومه الفلاحين.
تاه في تلك العشرين عاما نصف تيه بني إسرائيل، وتطوع بالنصف الثاني على شرف الصرامة والخشونة مع الذات، فأكمل تيههم بما اصطنعه لنفسه، مما لم يكن أحد يلزمه به، ولا لامه أحد حين فك روحه من خيوطه السامة.
في التاسع عشر، يتذكر طعم فرحة اليائسين المصطنع بصدق تمنيهم، في انفتاح نافذة من الحياة، لم تستطع مكفهرات الليالي ومرارها إغلاقها، حين يصبح المرء خربا، تتساوى عند الأحوال، ويصبح التراب هو الشيء الوحيد الذي يستحق النظر إليه.
من كتبوا عن تفاصيل حياة التشرد على الأرصفة، فاتهم أن ما عاشوه، عاشوه بأبعاده الثلاثة، وما كتبوه، كتبوه ببعد واحد، كان الأحرى بهم، تحويل مخزونهم من شعور مستمر باللوعة، إلى نغم، لأنه أكثر تجردا، وبعدا عن التأويل، والمسافة البينية فيه أكبر، وهذا ما يشجع عليه ثيودر ليبس فاسألوه.
وكل دمعة تسكب في طقوس البكاء السري، تحفر في خد الذكريات مكانا لها، لكن الذكريات لا تُرى، إنها محفوظة في الخاطر، يهيجها الصوت، والصورة، واللون، والطعم، والرائحة، ودين المحسوسات والحواس أقرب إليه من دين المثاليات والمشاء والإشراق والحكمة المتعالية، رغم كل ما به من مثالية، ونزوع إلى مغادرة الزمان والمكان، وسجون الوجود في عالم الإمكان، حتى الهيولى بتجردها محدودة.
في التاسع عشر، تحرر عبد من رق صفير الجيوب، ومن تطبع قسري بطباع شعب من مخلفات الحروب، في هذا اليوم، أضيف إلى تاريخ بني البشر يوم يفخرون به، يوم تتويج ثاني بشري بتاج اللقمانية، والتسامي الكامل على الجواهر والماهيات، على عالم العناصر والعقول العشرة، على الواجب الوجود وجميع ممكناته، ووسائط فيضه.
كلما اختلف هذا الرامق بطرفيه إلى السماء، عن الناس في نمط اهتماماته، وما يفكر، ويعمل، صغرت المساحة المشتركة بينه وبين كائنات الشرق الأوسط الناطقة.
لم تذب خصوصية محنته في عمومية مصائب بلد خرب يحترق بجهاته الاربع، لم تذب هذه الخصوصية التي تزداد مرارة كلما عاش يوما آخر من الحياة، من العذاب، لم تذب في بحور من المصائب التي نالت آلافا مثله، ومثلها، وهذه الحقيقة، رغم أنها فرضت نفسها بشكل راسخ على حياته، بشكل لا تنفع معه كل محاولاته في التهوين من شأن مصيبته، بمقايستها على مصائب الناس، ارتاح لهذه الحقيقة، لأنها توفر له شيئا من اليأس، فهو أروح له من أمل معلق في الهواء، أمل مجهول الزمان والمكان، رضي عن طيب خاطر بهذه الحقيقة، وراح يبرر استسلامه لها، بأن محنته الخاصة كمحنة الناس العامة، تجر مخه إلى التساؤل: لم حدث هذا أصلا؟
كان هذا التساؤل، يحمل في طياته معنى آخر غير الاستفهام، إنه يحمل مبررا ومسوغا ليمنح نفسه الحق في المزيد من التمرغ في نيران الحزن والأسى عليها، والمزيد من اليأس، وفراغ نفسه من الدنيا وأهلها، وهويه بشكل متزايد يوما بعد آخر، في جب من صمت، وأمنية أثيرة لدى نفسه، في أن يحظى ولو بعد سنوات، بخرابة طين في الريف يعيش فيها ما تبقى برفقة صديقه العود.
كان يعقد مقارنات فلسفية، ويناجي نفسه ببراهين عقلية، ويستعمل الجدل مع ذاته، فيسأل، ويجيب، وينقض، ويرد النقض، ويشكل، ويحل الإشكال، كل ذلك في محاولة لتهدئة نفسه، وسعيا للاقتناع بأن محنته ليست هي الأمرّ والأقسى في هذا البلد، لكنه بدل ذلك رضخ إلى حقيقة تنازعه إليها نفسه، هي أن محنته بنفسه وبها، حتى لو لم تكن هي الأشد والأصعب مما عند الناس، فإنها مؤلمة ولاذعة كسكين حادة تحتز أوصاله يوميا في زمن أوقفه عن الجري عفريت.
من المحتمل أن سبب عدم ذوبان خصوصية مصيبته بها في عمومية مصائب هذا البلد الذي يزداد جحيمية يوما بعد آخر، هو أن الإنسان قد يكون مجبولا على عدم القدرة على هضم المصائب الكبيرة بحجم الناس والتعامل معها، أن المصائب الجمعية للمجتمع بشكل كبير، هي أقرب إلى كونها مفهوما ذهنيا من كونها تجسدا زمكانيا ماديا واقعيا، وهذا يختلف عن التلوع بمصيبة شخص واحد يعرفه المرء جيدا، من المحتمل أن التعامل مع مصيبة شخص واحدة، مصيبة محددة، هو تعامل حزني حسي محدد الجهة، باتجاه معين إلى هم شخص واحدة، والتياع بمآساته، هذا ما يصنع مجالا أرحب ودافعا أقوى إلى الانفعال النفسي ويزيد شدته، أكثر من الهم بآلام الناس بصورة عامة، فهذا أقرب إلى المفهوم منه إلى القصص الحسية المحددة بتحدد شخوصها.
بعد الحادثة، ظل يجهد نفسه في محاولات دؤوبة حافظ عليها جيدا من أن يتسلل اليها اليأس، محاولات في استذكار وجهها، لكن محاولاته تلك، كانت ترتد على أعقابها كل مرة، بعد سنين، وفي إحدى صفناته، خطرت في خاطره للمرة الخامسة أو السادسة منذ استيقظ من النوم، كانت هذه المرة مميزة، شخصت ملامح وجهها في ذاكرته، نعم إنها ملامحها، إنه متأكد من ذلك جيدا، فهو ليس ثملا، الوقت نهار، وهو لا يشرب في النهار أبدأ لأن ذلك كما يقول هو، يعكر مزاجه، ويفسد عليه بقية وقت نهاره، وهو يقضي نهاره عادة في غير أيام العمل، ممسكا بعوده يتمرن، كانت التمارين المتواصلة على مدى 14 ساعة، تتطلب منه صحوا ومخا يقظا لا ثملا.
إنها ملامحها، بدأت تشرق تدريجيا في ظلمة معتمة من غلس ذاكرة موحولة بغبار نهارات الضياع، وظلام ليالي التشرد والمبيت على أرصفة بغداد.
إنها المرة الأولى التي تحضر ملامح وجهها بهذا الوضوح، كانت معاني وجهها مبتهجة، فرحة، كادت شفتاها تبسمان، لكن المؤكد عنده أنه عينيها كانتا تضحكان، يعرفها جيدا، ويعرف طباعها، يعرف متى تضحك بعينيها، ومتى تفعل ذلك بشفتيها الصغيرتين، لثوان قد لا تكون تجاوزت الثلاث، ظلت عينا خاطره، شاخصتين ترمقان وجها بدأ ضوؤه الأشقر الذي يشبه الشمس في أولى لحظات شروقها أو غروبها، بدأ يستسلم لظلام نشر جناحيه الغرابيين ليسدل الستار على أجمل صورة رآها غائبة، بعد آلاف من صورها التي ملأت عينيه حضورا.
فكر في سبب حضور طيفها هذه المرة، كيف نجحت أحد أوراد استذكاره في استحضار ملامحها بهذا الإشراق، والقرب، والواقعية، وبسرعة البديهة، رمى كل اعتقاده في أن السبب هو التناسي، التناسي لمدة طويلة، أو على الأقل، تقليل التفكير بها، يساعد على تركيز صورتها في العقل الباطن، لكنه فرحه بالعثور على طريقة ناجحة ليحظى بلقائها، اصطدم بلوعة أنه مضطر ليحرم نفسها من التفكير بها يوما واحدا، فضلا عن أشهر أو أعوام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة