الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمود درويش والتفعيلة المنثورة

صبحي حديدي

2005 / 8 / 30
الادب والفن


في مجموعته الشعرية الجديدة "كزهر اللوز أو أبعد" والتي صدرت عن منشورات رياض الريّس قبل أيام معدودات، شاء محمود درويش تصدير القصائد بهذه العبارة من أبي حيان التوحيدي: "أحسن الكلام ما (...) قامت صورته بين نَظْم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم...". والنصّ الكامل، كما يأتي في الليلة الخامسة والعشرين من "الإمتاع والمؤانسة"، يسير كما يلي: "وفي الجملة، أحسن الكلام ما رقّ لفظه، ولطف معناه، وتلألأ رونقه، وقامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم، يطمع مشهوده بالسمع، ويمتنع مقصوده على الطبع؛ حتى إذا رامه مريغٌ حلق، وإذا حلق أسف، أعني يبعد على المحاول بعنف، ويقرب من المتناول بلطف". (وللتوحيدي، في المناسبة، عبارة اخرى بديعة حول الموازنة بين النظم والنثر، ترد في المقابسة 60 من كتاب "المقابسات"، وتسير هكذا: "في النثر ظلّ النظم، ولولا ذلك ما خفّ ولا حلا ولا طاب ولا تحلاّ، وفي النظم ظلّ من النثر، ولولا ذلك ما تميزت أشكاله، ولا عذبت موارده ومصادره، ولا بحوره وطرائقه، ولا ائتلفت وصائله وعلائقه").
غاية درويش من هذا الاستهلال واضحة، كما يخيّل لي: أنّ القصائد التي تضمّها هذه المجموعة الجديدة تسعى إلى إقامة القول الشعري بين نَظْم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم. في عبارة أخرى: هذه قصائد تتطلع إلى جَسْر الهوّة، إذا كان ثمة هوّة بالفعل، بين وزن الشعر ونثر الشعر، أو ـ على نحو أوضح هذه المرّة ـ بين تسميتين تعانيان عسفاً إصطلاحياً ومفهومياً هائلاً: "قصيدة التفعيلة" و"قصيدة النثر". وفي نظري شخصياً، ليست قصائد هذه المجموعة الجديدة هي وحدها التي تسعى إلى غاية جمالية وتعبيرية رفيعة كهذه، بل إنّ هذه كانت الحال في معظم مجموعات درويش خلال العقدين الأخيرين، وربما منذ "وردٌ أقلّ"، 1986.
وكانت قصائد هذه المجموعة تستانف البحث الجمالي الذي بدأ في بيروت وانقطع فجأة مع الإجتياح الإسرائيلي وخروج الفلسطينيين من لبنان، وبدا أنّ درويش يتفرّغ أكثر من ذي قبل لهواجس الذات والتأمّل والمحاورة الغنائية بين الشاعر والعالم. وكانت تلك، أيضاً، مرحلة استكشاف المزيد من مسائل الشكل والبنية الموسيقية للقصيدة، ولعلّها الفترة الأكثر قلقاً وتجريباً وبحثاً على امتداد مراحل تجربة درويش. ولقد سبق لي، في مناسبة الحديث عن مجموعة "سرير الغريبة"، 1999، أن ذهبت إلى حدّ استخدام نحتَيْن تركيبيين متناقضين في المنطوق الشكلي، هما «التفعيلة المنثورة» و«النثر التفعيلي»، وذلك لوصف تلك المساحة المشتركة التي يخلقها درويش بين الوزن والنثر.
ولقد اعتبرت أنّ تفاعيل المتقارب، الليّنة السيّالة الخافتة الجَرس، والتي بات درويش يكثر من استخدامها في مجموعاته الأخيرة، يمكن أن تصلح فضاءً وسيطاً بين وزن معتدل ليس بالوزن وحده، ونثر موقّع ليس بالنثر وحده. وهذه التفعيلة المنثورة، أو هذا النثر التفعيلي، هو اللغة الشعرية وقد امتلكت سيولة داخلية كثيفة بقدر ما هي طليّة القوام، يوميّة بقدر ما هي قادرة على الإرتقاء إلى مصافّ ليست في أبجدية اليوميّ الرتيبة، وكيميائية التحويل لأنها تفعل في اللغة ما تعجز عن القيام به أيّ أشكال أخرى من الإستخدام اللغوي. هي عفويّة عن سابق وعي تارة (أو كما يقول درويش نفسه: "أحبّ من الشعر عفوية النثر"...)، ولكنها لا تنساق خلف التجاورات المألوفة في مرادفات القاموس. وعفويّة عن سابق اعتباط غامض طوراً، لأنها هنا إنما تنبجس بفعل ذلك اللغز الأبدي الذي يجعل الشاعر غريب الوجه واليد واللسان عن لغة التصريح في الصحيفة وفي الإعلان وفي التقرير، وحين يعرف الشاعر أنّ لغته هي هذه وليست هذه في آن معاً.
لم يكن غريباً، إذاً، أن يرى البعض في تصريحات درويش الأخيرة، في تونس، قدحاً بقصيدة النثر أوّلاً، وكأنّ الإفتراض القياسي المنطقي ينبغي أن ينهض هكذا فقط: الحداثة الراهنة هي قصيدة النثر، أساساً وجوهرياً... أو ربما حصراً أيضاً! لا أحد، بالطبع، ينكر خضوع النتاج الشعري العربي المعاصر إلى ثنائية حادّة في الشكل، بين «قصيدة التفعيلة» و«قصيدة النثر». غير أنّ تلك الثنائية، وبسبب من حال الإغتناء المتبادل بين مختلف مشروعات وتجارب مشهد الشعر العربي المعاصر، تفسح المجال أمام تعدّد واسع في الأصوات والتجارب والأساليب داخل الشكل الشعري الواحد ذاته، وليس داخل المشهد بأسره فحسب.
هي تعددية تتصف، لحسن الحظّ، بأنها عابرة للأشكال إجمالاً، بمعنى أنّ شاعر قصيدة النثر يمكن أن يتفاعل مع شاعر قصيدة التفعيلة، والعكس أيضاً صحيح؛ وأنها عابرة للأجيال، كما حين يتأثّر شاعر شابّ في الثلاثين بشاعر في الستين، أو يحدث العكس فينصت شعراء ستينيون باهتمام كبير إلى أصوات الشعراء أبناء الثلاثين. ولعلّ من الخير أن يستذكر البعض، هنا، عبارة درويش التي ينبغي أن تكون شهيرة أيضاً: "أنا أتعلّم من قصيدة النثر"!
والمأمول، في نهاية المطاف، أن تفلح هذه التعددية في استدراج الذائقة والارتقاء بها إلى ذروة المصالحة الكبرى التي اقترحها التوحيدي: ذلك الظلّ النثري في الشعر، والشعريّ في النثر...












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضحية جديدة لحرب التجويع في غزة.. استشهاد الطفل -عزام الشاعر-


.. الناقد الفني أسامة ألفا: العلاقات بين النجوم والمشاهير قد تف




.. الناقد الفني أسامة ألفا يفسر وجود الشائعات حول علاقة بيلنغها


.. الناقد الفني أسامة ألفا: السوشيال ميديا أظهرت نوع جديد من ال




.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي