الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دون كيشوت التركي

طوني سماحة

2014 / 11 / 22
كتابات ساخرة


عندما ظهر دون كيشوت على مسرح الرواية الاسبانية في العام 1605، قلّ من كان يدري أنه سوف يتحول لشخصية عالمية تعيش عبر الازمان والاجيال، حتى انه ما زال حيا يرزق في عالمنا المعاصر.

دون كيشوت رجل خمسيني، يغوص في قراءة كتب الفروسية لدرجة انه أخذ يمزج بين الواقع والخيال. شعر دون كيشوت ان ثمة فارسا يتنفس في داخله، ورسمت له مخيلته العالم مسرحا لمغامراته وحروبه، فما استطاع إلا أن يدير أذنه لصوت قلبه الذي يدعوه لمحاربة الفرسان الاشرار، وصراع الوحوش القاتلة، وانقاذ الارامل والمساكين من براثن ظالميهم. عندما اطاع دون كيشوت صوت الواجب، ارتدى درعه المهلهل، اعتلى صهوة جواده الهزيل، استلهم الحب من جارته دولسينا، وهي التي لم تكن تعرف شيئا عما يجول بخاطر جارها من حب لها، ومضى باحثا عن مغامراته. وفيما هو يبحث عن البطولات، قادته خطواته الى فندق صغير حيث فتيات غانيات يقدمن خدمات لزبائنهن، فإذا بالفارس المقدام يظن أن الفندق قلعة والغواني سجينات وصاحب الفندق السجان. فلم يستطع البطل سوى أن يبادر بفتح معركة كيما يحرر تلك السيدات من ظلم سيدالقصر (صاحب الفندق). و لم يغادر دون كيشوت ساحة المعركة الا بعد ان هيّأ له أنه حقق النصر المبين. وفي معركة أخرى، شاهد الفارس الشجاع عشرات من الطواحين تلوح بأجنحتها يمينا ويسارا. فخيّل إليه أن الطواحين وحوش كاسرة وما عليه سوى مهاجمتها كيما يخلّص الناس من شرها. طبعا هجم الفارس على الطواحين ملوحا برمحه، فطرحته دواليبها وأجتحتها الى الأرض وكسرت رمحه. ومع ذلك لم يقتنع فارسنا ان هذه الوحوش ليست سوى عبارة عن طواحين تدور يمينا وشمالا.

عندما صرّح السيّد طيّب رجب أردوغان أن "المسلمين كانوا أول من اكتشف أميركا وأن سفنهم رست على شاطئ القارة المجهولة عام 1187"، أيقنت أنني أمام دون كيشوت التركي الذي فجر قنبلة صوتية بهدف تحقيق انتصار وهمي. ليس أنني أعارض وصول المسلمين الى اميركا قبل كولومبوس بما يقارب الثلاثمائة سنة، لكنني أبتسم عندما أرى رجلا بحجم الرئيس التركي يطلق تصريحا بشأن حدث تاريخي دون أن يضمّنه دليلا واحدا. ليس في حوزة الرئيس مخطوطة واحدة صحيحة او مزيفة. لم يطلعنا على دراسة جامعية واحدة ولا حتى ثانوية. لم يكلّف عالما بالقيام بدراسة عميقة ولا حتى سطحية. ليس في التاريخ من اشارة قريبة او بعيدة تثبت صحة قول الرئيس باستثناء جملة يتيمة دوّنها الرحالة الايطالي في يومياته يذكر فيها رؤيته لجبل يشبه جزأ من مسجد. ويجمع العلماء على أن هذه الجملة لا تتخطى كونها تعبيرا مجازيا.

تختلط عليّ الامور وأنا أحاول فهم ما يبغي إليه دولة الرئيس من خلال تصريحه. أتراه يدغدغ مشاعر المسلمين كيما يطرح نفسه زعيما على مستوى العالم الاسلامي؟ هل يريد إحياء السلطنة العثمانية من خلال رفع راية الاسلام السياسي وجعل نفسه السلطان الجديد؟ هل هو محبط من وضع المسلمين في العالم حيث أن دولهم الاكثر فسادا و أزمات وحروبا ودكتاتورية وتخلفا فأراد أن يحفظ ماء الوجه؟ لست أدري، لكن مما لا شك فيه أن تصريح الرئيس لا يتعدى كونه قنبلة صوتية تصنع ضجيجا دون ان تغيّر في وقائع الامور.

عندما فجر أردوغان قنبلته الصوتية، قام موقع الجزيرة باستفتاء القراء للاطلاع على رأيهم حول هذا الموضوع. فما كان من المعلقين إلا أن فتحوا النار بالاتجاه ذاته الذي رمى فيه السيد الرئيس قنبلته. فتتالت التعليقات لتتهم أميركا بإخفاء الوثائق. وقال آخرون أنه لو لم يكن بحوزة الرئيس ملفات لما قال ما قاله. لست هنا لأبرّأ أميركا أو أتهمها، لكن التعليقات تعكس حال العالمين العربي والاسلامي: نظرية المؤامرة. المؤامرة التي نرمي عليها فشلنا واخفاقاتنا. المؤامرة التي تسببت بتخلفنا. المؤامرة التي ولدت الارهاب في مجتمعاتنا. من المؤسف ان المعلقين لم يبذلوا أدنى جهد في سؤال أنفسهم "كيف لأميركا التي تأسست في أواخر القرن الثامن عشر أن تخفي وثائق عمرها مئات السنين دون أن يطلّع عليها أحد من قبل؟ أين كانت هذه الوثائق قبل ولادة الدولة الاميريكية؟ لماذا لم يترك الرحالة المسلمون مخطوطات تثبت ادعاءات اردوغان على غرار ابن بطوطة؟ كيف حدد السيد اردوغان العام 1187 لوصول البحارة المسلمين الى الشواطئ الاميريكية وما هي المعطيات التي اعتمدها؟ ان كان المسلمون قد تركوا وراءهم مسجدا، فلا بد ان يكونوا قد تركوا وراءهم أتباعا أيضا. ترى أين هم؟ أين هي الآثارات التي تثبت اكتشافاتهم؟ هل أسس المسلمون جالية هناك على غرار المكتشفين الاوروبيين. ترى ماذا حصل بأفراد هذه الجالية؟ هل ارتدوا جميعا عن الاسلام بعدما غادر البحارة البلاد؟ أم أن البحارة ذهبوا الى هذه القارة المجهولة سرا كيما يقولوا صباح الخير لأهل تلك البلاد ومن ثم يعودوا أدراجهم الى بلادهم دون أن يطلعوا أحدا على الامر أو دون أن يخطر ببالهم زيارة تلك البلاد ثانية؟"

يشهد التاريخ علينا أننا برعنا في تسجيل الانتصارات الوهمية بقدر ما برعنا في عدم اعترافنا بإخفاقاتنا. لقد ولد دون كيشوت في القرن السابع عشر وبقي أسير فصول رواية فروسية. لكن دون كيشوت التركي والعربي لم يمت ولم يهزم، وهو ما زال حيا يرزق يُلقي القنابل الصوتية ويسجل انتصارات وهمية واحدة تلو الاخرى. ومن ثم نتساءل عن سبب هزائمنا المتتالية ونلقي باللوم على المؤامرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي