الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوقت لايكفي لبناء حلم آخر

عقيل الواجدي

2014 / 11 / 24
الادب والفن


قصة قصيرة
عقيل فاخر الواجدي

(( الوقت لايكفي لبناء حلم آخر ))

الزمن المتبقي لا يَصْلـُـحُ لتشييد عصر آخر ، ولا الوجوه المكعبة تصلحُ لبناءِ هيكلِ بطلٍ اسطوري ، فكل ما في المدينة أزقة خرساء وليل يتسلل كالخدر في المفاصل ، اوصدت المحلات ابوابها ليغرق المكان بكلمات التوديع المعتادة والمتأملة ان تكون الليلة افضل من سابقتها ، استسلمت المدينة للظلام بانطفاء اخر ضوء لمحل اعتاد صاحبه ان يكون الاخير من بين المغادرين ، حَزِمَ البقايا من وقته ليركنه في زاوية التأمل بعيدا عن العيون التي تتسرب اليه – نهارا - من النافذة الواطئة المطلة على الشارع وهو يرمق اخر المغادرين - بظهره المحدودب - يدلف من اخر الشارع نحو شوارع اشد حلكة ، كان الليل ملاذه الوحيد ليتلمس وجوده في غرفته المنزوية في طرف البناية التي تهالكت حتى يكاد يشعر بثقل البناية على غرفته بتقوس جدرانها .
الاحلام ضيقة في المدن التي تغفو مبكرة ، والادعية ساذجة حد القيء ، الابواب متطفلة تترصد المارة ، تنبح كالكلاب في وجوه المتسولين ، لا شيء يمكن ان تجود به البيوت الخاوية الا للفئران خشية على اسلاك الطاقة ..
فالوقت يغمض عينيه سأماً من حركة الرقاص غير المجدية ، متوقف كلُّ شيء في هذه البيوتات ، حتى شهوات الرجال تنام مبكرة ، فتحتضن النساء الوسادات لتملأ فراغ الرجال الذين استحالوا قططا عمياء .
كأيّهم – هو - كان يغلف شهواته او يلقيها سراً يشيعها بتأوهات مكبوتة ، ليطمئن على سلالاته ان تنفد ! وكأيهم كان يماطل سنين العوز بالاستسلام ، يدخر خيباته في اقصى زاوية من ايامه ، الشارع على ضيقه كان متنفسه ، هو العالم الذي اخضرّت فيه امانيه المتسلقة كشجرة اللبلاب عند نوافذ الحبيبة ، الحبيبة التي لم تطل منها منذ ان غادرت الحي ، الكل يغادر من هنا الا العوز !!
اعوام يستظل العصا التي هي كل ما ورثه عن ابيه ، معلقة على الحائط منذ ان اقتسموا تركته – ابيه - وهو لازال يرسف في اغلال بدلته البيضاء في الغرفة المجاورة ، كان صغيرا حينما مات ابوه ، شاركهم – اخوته - الضحك كثيرا وهم يرتدون الاقنعة ، اشعروه بالحب الذي لم يعهده منهم من قبل ، حتى انه اوشك ان لا يصدق ما يراه هو جثمان ابيه !
ضحك كثيرا وهو يغمس ابهامه في الحبر ، وعدوه بالكثير من الحلوى ان رسم لهم ظلا لإبهامه على الورقة ، كم ضحك كثيرا في وقتها ولازال يضحك للان من خيبته !!
رسم ظلال مملكته في جوف الغرفة التي منحها له اخوته بدلا من اصابع الحلوى التي وعدوه بها ، اسدل الستارة الوحيدة على شباكه الذي خلا من الزجاج في احدى جانبيه فاكتفى بورق الكارتون عوضا عن الزجاج ، واوصد الباب بعناية خوفا من ان يصدر صوتا باحتكاكه بالارض ، الماء الذي يتسرب اليه في الايام الممطرة زاد من اتساع الباب فجعل من الصعوبة اغلاقه ، الكرسي الذي يستند الى الحائط المقابل للشباك متعته الكبيرة ، كان حلمه ان يجلس على هذا الكرسي الذي لطالما كان ابوه يجلس عليه ، كان يغبطه كثيرا وهو يرى المتزلفين يحيطونه ايام المناسبات لتهنئته ، كان - ابوه - سخيا فأورثه العوز !
ايقظه جرس الندم وهو لا ينفك يرن بذاكرته مشتتا من حوله لحظات الصمت التي يعج بها المكان ولحظات الاسترخاء التي يعيشها متصفحا السكون من حوله من على كرسيه ، فها هو يعيش عزلته دون تلك الوجوه التي لطالما تزاحمت هنا لتحط رحالها عند اخوته ، الوجوه كالذباب لا تحط على الصحون الفارغة ..
- لابد ان اقنن مؤونتي كي لا تنفد ، يكفيني رغيفا واحدا ، وان كان نصفا فسيمنحني زمنا اطول للبقاء ، هكذا تقافزت المفردات في مخيلته ، وما يضيرني ان أحرم القطط من الطعام لتتمكن من القضاء على الفئران لأرتاح من خشخشتها داخل الغرفة وهي تتسلل اليَّ من بيوت الجيران !
الوحدة لم تمنعه من السعي لتحقيق ذاته ،لاشك ان الفئران وحدها كانت كافية لتمنحه السعادة وهو يراها مضرجة بمخالب القطط الجائعة ، او مرتهنة وسط الاقفاص الصغيرة ، اطمئنان تام ان ترى الفئران حبيسة او ميتة او حتى جائعة !!
عليه ان يدون تاريخا له ، فالتاريخ الذي لا تدونه الدماء لا يُكتب !!
سخر كثيرا مما آل اليه تصوره وهو يدرك ان غرفته حتى الفئران هجرتها من امد بعيد ،عمله في بيع الكتب على الارصفة لن يمنحه ان يجلب مما يمكن ان يغري الفئران بالعودة لغرفته ، انسل منها - غرفته - يطويه الظلام باتجاه الشارع ليرقب نافذة الحبيبة ، الهواء البارد يجلد جسده ، والحزن يجلد البقايا من حلم تسمَّر عند اطراف النافذة المظلمة ، مدركا انها لن تطل مرة اخرى ولا الوقت يكفي لبناء حلم اخر ..


الناصرية
24 تشرين الثاني 2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا


.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم




.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا


.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07




.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب