الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
27 يوماً في بغداد - ج5
محمد ابداح
2014 / 11 / 24الادب والفن
الرّيوق في بغداد
أستيقظت على وقع طرقات متواصلة على باب غرفتي ، ويبدو أن صاحب تلك الدقات المزعجة كان مصراً على إيقاظي لسبب ما في نفسه ، نظرت لساعتي وكانت تشير للسابعة والنصف صباحاً ، نهضت مسرعاً وصرخت عليه من خلف الباب : مين :
فرد صوت امرأة قائلاً : أنا .. أريد أنظف الغرفة !
فتحت الباب ، فرأيت أمامي امرأة نحيلة تلبس عباية سوداء ، تغطيها من رأسها حتى قدميها ، دخلت من فورها ، وتوجهت نحو سلة مهملات ، كانت بجانب السرير، حملتها ونظرت بداخلها ، ثم أعادتها لمكانها ، فقد كانت فارغة أصلاً ، نظرت المرأة إلى أرجاء الغرفة ثم غادرت ، فلم يكن ثمة شيء بحاجة إلى تنظيف ، وفي الحقيقة كنت أنا من يحتاج للتنظيف ، فلم استحم منذ يومين ، وشعرت بأن علي أن آخذ حماماً ساخناً وممتعاً، ولكني لم أحضر معي أية أغراض خاصة بالإستحمام ، كالشامبو وليفة الإستحمام ، لأنني لم أكن أعلم بأنني سأحتاج لها ، أو بأنني سأقيم في فندق ، لذا فلم أجلبها معي من عمان ، وأما ألان فقد اختلف الأمر ، فنويت الذهاب للسوق كي أشتري تلك المواد.
ولكن قبل ذلك كان علي أن أغسل وجهي على الأقل ، فتحت شنتطي الصغيرة وأخرجت منها بشكيراً كنت أحتفظ به لهذه الغاية ، ثم توجهت للحمام ، وكان واسعاً ، يحتوي على ممر في الوسط ، وغرفاً صغيرة متجاورة ، حمامات لقضاء الحاجة ناحية اليمن، ومثلها للإستحمام جهة اليسار، فضلا عن مغاسل لليدين في بداية الممر نحو اليمين ، غسلت وجهي ، وعدت للغرفة ، وبعدها نزلت مباشرة للطابق الأرضي ، ولم أشاهد أي شخص بمكتب الإستعلامات ، فتوجهت حيث المضافة ، وكانت شبه فارغة ، باستثناء بعض الرجال ، جالسين يشربون الشاي .
لاحظت بأن التلفاز كان مغلقاً ، ربما لأن القناة العراقية الأرضية لم تفتح بعد، ولكن كان ثمة راديو ترانستور يعمل، وهو عبارة عن صندوق خشبي كبير نسبياً ، ولكنه مزخرف بطريقة جميلة، ويبدو عليه أنه قديم جداً من فترة الخمسينات ، كان معلقا على الحائط ، فوق رف خشبي ، ويبث أخباراً من قناة أخبار عالمية تدعي ( بي بي سي ) ، وأذكر بأن المذيع كان يتحدث عن الأزمة السياسية الدولية ، والتي حدثت نتيجة احتلال الجيش العراقي للكويت .
جلست في المضافة أستمع للأخبار ، ولكن كان أكثر ما يشغل بالي هم أهلي في الكويت ، وخصوصاً بأن المذيع كان قد تحدث عن جرائم حرب تقع الآن في الكويت من قبل أفراد وضباط الجيش العراقي ، وبأن قد حدثت تفجيرات وحرب شوارع ومقاومة من قبل بعض المواطنين الكويتيين، والأنباء متضاربة عن أعداد القتلى والجرحى ، وبأنه يوجد انفلات أمني تام ، وبالطبع كانت تلك أخبار سيئة جداً، ولاتدعو إلا لمزيد من القلق والخوف ، فأخذت أدعو الله أن يحمي والدي وأخوتي من كل مكروه، وأن تمر هذه الأزمة على خير.
بعدها بقليل شاهدت الصبي (مهدي) ، يسير بسرعة في ممر الفندق، وكان يحمل بيده بعض الأكياس البلاستيكية، ولست أدري لماذا كلما رأيته تذكرت الطعام ! ، ربما لأنه وصف لي أنواع الأطعة العراقية بشكل يفتح الشهية للأكل، رغم أنني حينها لم أعرف معظم أسماء الأطعمة التي ذكرها لي ، وماهي مكوناتها أصلاً ، باستثناء السمك المسقوف ، والذي عرفت الشق الأول منه فقط ، أي السمك ولكن لم أعرف المقصود بكلمة ( المسقوف ) ، ثم عرفت لاحقاً بأنه يوضع في عيدان خشبية ثم يشوى على الفحم ، على أية حال قمت من مجلسي كي أتحدث معه ، وكي أطلب منه أن يجلب لي بعض الأغراض من البقالة ، وكان قد دخل إلى الكافتيريا فتبعته ..
قلت : آه مهدي ! ، الله يعينك ..
فقال : هلا صباح الخير ..
سألته إن كان بإمكانه أن يجلب لي بعض الأغراض من البقالة ، فوافق ، لكنه أخبرني بأن عليه القيام أولاً هو وأخته ( نادية ) ، بإيصال طلبيات الرّيوق ( الفطور ) لأصحابها من نزلاء الفندق ، وعندها قلت له : خلاص ما في مشكلة ، ساذهب بنفسي للبقالة ..
خرجت من الفندق ، وكان ثمة دكان شعبي ، يبعد بضعة أمتار قليلة عن موقع الفندق ، فذهبت إليه ، وقمت بشراء لوازم الإستحمام ، ولكن فيما يتعلق بالليفة ، لم أجد عنده سوى ليفة من النبات الطبيعي ، وهي جافة وخشنة جداً ، كأنها مكونة من الشوك ، إلاًّ أني اضطررت لشراءها، ثم عدت للفندق، واستمتعت بحمام رائع ومنعش ، جدّد طاقتي وحيويّتي ، فقد كان الماء بارداً ومنعشاً ، فوقفت تحت دش الماء وفركت رأسي بالشامبو، ولكن حين أردت استخدام الليفة ، شعرت بأنها ستمزق جلدي، فرغم أني فركتها جيداً برغوة الشامبو، إلا أنها كانت تخدش الجلد كالشوك ، فأخذت أفرك فيها بيديّ حتى لانت قليلاً، أتممت حمامي، وبعدها توجهت لغرفتي، وغيرت ملابسي بأخرى نظيفة ، ثم نزلت للطابق الأرضي ، وكان أبو مهدي في مكتبه .
قلت له : صباح الخير أبو مهدي ..
فقال : هلا عيني ، صباح الورد ابو جاسم ، ثم قال : ها شلونك اليوم ، ان شاء الله أحسن ؟
قلت له : الحمد لله .. أنا زين .. وكلّش تمام !!
قال : إيه .. زين .. الحمد لله ..
ثم سألني : أبو جاسم ؟ إنت رح تبقى عندنا بالفندق اليوم ؟
في الحقيقة استغربت من سؤاله ، فقلت له : نعم طبعاً سأبقى ، وأكملت قائلا : يعني وين تعتقد إني بدي أروح يا أبو مهدي ، أنت شايف الوضع الأمني والحدود مغلقة ، بس تفتح الحدود رح أسافر ! ، ولكن طول هذه الفترة سأبقى عندكم في الفندق .. ، ثم سالته بغضب : يعني في سبب أنت تريد مني أغادر الفندق يا ابو مهدي ، ولا إيش القصة ؟
فقال : لا .. لا .. موقصدي ابو جاسم، بس يعني .. أنا أقصد بالنسبة للفلوس .. يعني أجرة الفندق اليوم يعني رح تدفع هسه ولا بعدين!!
قلت: آه .. هذه القصة يا بو مهدي .. ثم قلت له يا صباّح يافتاح .. يا عليم يارزاق .. ، بعدنا يا بو مهدي في الصبّح !! ، أجرة الأمس دفعتها لك ، ثم أكملت : لاتخاف .. الحمد لله .. أنا معاي فلوس .. رح أعطيك الأجرة الآن .
فقال : إيه .. أفتهم .. أفتهم .. ، هذا اعتيادي .. خلاص .. ولا يهمّك ابو جاسم ..
غضبت جداً منه وقلت له : لا ابو جاسم .. ولا ابو حاسم ، ثم أخرجت محفظتي وأعطيته ورقة فئة عشرين دينارعراقي ، وقلت له إسمع هذه عن اليوم وبكرة أيضاً ، ثم أكملت : لو سمحت يا ابو مهدي أعطيني وصل بالمبلغ ..
فقال حينها : ابو جاسم ! إنت ظجت مني !! ( يقصد غضبت ) ، والله والحسين الشريف ماقصدت أزعلك .. ثم أكمل : يعني أنت تعرف هي بس مصاريف الفندق والموظفين ..
فقاطعته قائلاً : لا .. مو زعلان خلاص .. هاي الفلوس عندك ، وان شاء الله رح أعطيك كل يومين مقدماً كمان .. ثم تركته وتوجت للكافتيريا ، ولم أخذ منه وصلاً بالمبلغ .
كان مهدي مشغول جداً في ذلك الصباح ، والكافتيريا تعج بالزبائن ، فدخلت إليها ، وكنت غاضباً قليلاً من الموقف الذي حصل بيني وبين ابو مهدي، أخذت أنظر للزبائن ، وكان ثمة باب صغير في مطبخ الكافتيريا ، ينفذ إلى الساحة الخلفية للفندق، فدخلت منه لتلك الساحة ، وشاهدت رجلاً واقفاً أمام منقلاً كبيراً لشواء اللحم ، فقلت : إذن هذا طعام الفطور في العراق !.
عدت للمطبخ ، وكانت رائحة طهي ( الباجه ) الدسمة والزفرة، تطغى على رائحة شواء الكباب، ولم أعد أشعر برغبة في تناول الفطور، ولكن تجدر الإشارة إلى أن أكلة (الباجه) الشعبية تلك ، ليست مشهورة في العراق وحده، بل معروفة أيضاً لدى معظم الدول العربية، لكن مع إختلاف التسمّيات ، فالبعض يدعوها الكراعين أو الكوارع أو الفوارغ ، وهي الأكلة المتضمنة رأس وأحشاء الخروف أو العجل أو البقر، وقد علمت من أحد العراقيين، بإن كلمة (باجه) تعود إلى اللغة الفارسية وتعني الأرجل، ولكن ما يمكن ملاحظته بشكل ملفت للنظر، هو أن هذه الأكلة الدسمة تعد وجبة الفطور المفضلة في العراق! وخصوصاً في أول ساعات الصباح الباكر ، وهذا ما أثار دهشتي في البداية ، لكن يبدو بأني سرعان ما سأعرف السبب.
فلم أكن أعلم بأن وقوفي متعجباً في المطبخ، وأنا اشاهد بعض الزبائن العراقيين يتناولون رؤوس وأرجل الخرفان والبقر المسلوقة في الصباح، قد أثار إنتباه أحد الطهاة لي ، فقد تقدم نحوي ثم سلم علي قائلاً : أغاتي !! .. شنو تآمر ( يقصد : ماذا تأمر! ).. شتريد تفطر ؟
وكان يقصد بكلمة (أغاتي ) يعني ( عزيزي ) أو ( حبيبي) ، وهي كلمة عراقية دارجة بمعنى التحبب والتودد ، فقلت له : لا .. تسلم .. بس أنا بصراحة محتار إيش أفطر !!..
فقال : إيه عيني .. تدلل ..
فقلت له : حسناً .. أنا بصراحة لست جائعاً ، لكن حب الفضول هو من جعلني أدخل للمطبخ ، ولكن لدي سؤال إن تكرمت ؟
فقال : إيه .. تفضل إسأل !
قلت له : لماذا تأكلون الباجه على الفطور ؟ ثم أكملت : فهي أكلة دسمة جداً ، ونحن نتناولها على الغداء فقط وليس على الفطور !
فقال: إيه معك حق، هذه عيني أكلة ما يعرف قيمتها إلا اللي يتناولها الساعة ستة الفجر!، وخصوصاً عمال البناء، هذول عيني ( يقصد هؤلاء) يشتغلون بمهن صعبة تحتاج طاقة وجهد هواية ( كلمة هواية في اللهجة العراقية تعني كثير )، عشان هيتش ( يقصد : ولهذا.. ) ، لازم يفطرون الصبح أكلة مثل الباجة ، تعطيهم القوة على العمل.
فقلت له : آه .. فهمت الآن ..
وفي الحقيقة كان هذا التفسير، هو أغرب تفسير سمعته بحياتي !، وذلك بأن الشخص كي يعمل بجد، يجب أن يتناول رطلا من سُم الدهون المشبعة والدسمة جداً في الفجر، إن تلك الوجبة ستصيب حتى الفيل بالتخمة ، وستشعره بالنعاس طيلة اليوم ، وليس بالنشاط ، ناهيك عن أمراض القلب والشرايين ، المصاحبة لتلك العادة السيئة، ولو كان ذلك صحيحاً لكات العراق الآن تمتلأ بالأهرامات وناطحات السحاب والمباني الضخمة ، وعلى أية حال ، فقد جاريت الطاهي في كلامه ، لأنني أحترم العادات والتقاليد الشعبية في أي بلد ، وليس بالعراق فقط ، ثم سألته إن كان ثمة أطعمة أخرى خفيفة ، يمكن تناولها للفطور، بدلا من الباجة والكراعين والكباب واللحوم الدسمة!
قال مبتسماً : أغاتي أنت ، ماتعرف إن العراق بلد الخير ..، ثم أخذ يصف لي حقيقة المطبخ البغدادي ، وبأنه مزيج بين كافة الحضارات المتعاقبة عليها، مرورا بالبابلية والآرامية والآشورية والكلدانية والإسلامية ، وما زالت الأطعمة تتطوربغداد حتى يومنا الحالي ، ولذا فإن هذا الأمر قد أدى لإثراء المطبخ العراقي بكافة أصناف وأنواع الأطعمة والأكلات الشعبية المحلية والعالمية .
وفجأة !! صرخ الرجل الواقف أمام مناقل الشواء في ساحة المطعم الخارجية قائلاً : حميد !! ، الله يرحم والديك!! تعال ساعدني بتقليب شياش الكباب ( يقصد أسياخ الكباب ) ..
ولم أكن أعلم حتى وقتها بأن حميد هو نفس الطاهي الذي كنت أتحدث معاه، حيث دعاني للتوجه معه إلى مكان الشواء في ساحة المطعم لمساعدة الرجل في الشواء ..
وقف حميد أمام أسياخ الكباب ، وأخذ يقلبها بيديه ، وحقاً كانت رائحة الشواء الرائعة لايمكن وصفها ، وكان منظر الدهن حين يذوب عن الكباب المشوي مغرياً ، وخصوصاً حين تسقط قطرات الدهن على الفحم مصدرة أصواتا خافتة ( تس .. تس ..) ، تأملتها برهة ، ومتعت نفسي براحة الشواء الزكية ، ولم يقطع صفو هذا التأمل السريع ، سوى صوت الطاهي حميد..
قال : تعرف يا ..
فقلت فوراً : أخوك محمد ..!
قال : إيه .. اللهم صل على محمد وآل محمد ! وأكمل قائلاً : تعرف أبو جاسم !!
قلت : إيه تفضل !!
فقال : أحياناً أسمع بعض الطهاة المشهورين وخبراء الأطعمة يقولون : بأن المطبخ العراقي مزيج بين المطبخ العثماني والفارسي ، وهذا ظلم كبير وانتقاص غير مبرر بحق العراقيين وثراث وبحق الأطعمة العراقية الشعبية !
قلت له : وكيف ذلك ؟
فقال : يعني عندك مثلاً .. أكلة الدولمة الشعبية ، موجودة منذ العهد البابلي ، ( وهو يقصد بها أكلة محاشي الأرز واللحم المفروم عموماً، والتي نعرفها في بلاد الشام ، كمحشي الكوسا أو الباذنجان ورق العنب وغيرها )، ثم أكمل قائلاً : وغيرها من أكلات اللحوم والطيور والأسماك والبقوليات وهكذا، لقد تعلمتها إيران وتركيا ونقلتها عن العراقيين ، فهي أطعمة شعبية عراقية ..
ومغزى كلام ذلك الطاهي ( وهو في اعتقادي رأي سليم )، بأن هذا التنوّع الكبير بأصناف الأكلات الشعبية العراقية ، هو الذي جعل وجبات الأكل في العراق متنوعة في الفطور والغداء والعشاء، ومع تعدد انواع تلك الأكلات الشعبية في مختلف أنحاء العراق يبقى هناك تشابه الى حد كبير مايتناوله العراقيون على الريوق ( طعام الفطور) في الصباح مع فوارق في طريقة وشكل التحضير والمقادير من مكان لآخر.
وفي الحقيقة يُقبل البغداديون على تناول الأطعمة الشعبية سواء في المطاعم أو من بائعي الأطعمة المتنقلة على العربات، والتي هي جزء من ثقافة مدينة بغداد ، بل والعراق بأسره ، هذه الأطعمة العريقة بما كانت تحويه من تنوع يعكس ثراء الموروث الغذائي الشعبي في الحضارة العراقية ، ولايمكن لك كزائر أو مقيم إلا أن ستطعم وتتلذذ بتلك الأكلات ، والتي لن تنساها أبداً ، وخصوصاً طعم السمك المسقوف والمشوي على الفحم ، على ضفاف نهر دجلة بحي أبو نواس الشهير ، والذي يمتلأ بالمطاعم والمقاهي الشعبية العراقية.
وعلى أية حال قلت للطاهي : والله يارجل إنك فتحت شهيتي للفطور .. وقد كنت سعيداً بما سمعت وبثقافته الواسعة حول تاريخ الأكلات الشعبية العراقية ..، فعرفته على نفسي وبأني من دولة الأردن ، وبأن اسمي محمد ، وبأنني أحترم جدا عادات الأكل الشعبي في العراق ، وخصوصاً على الفطور ، ولكن سألته إن كان يوجد فطور خفيف الدسم ، ضمن مائدة ( الريوق) العراقي ، أي بمعنى آخر ، فطور لايتحوي على فوارغ ولحمة راس أو كباب أو أية دهون حيوانية دسمة ..
فقال : أنا أخوك ( حميد ) من مدينة الموصل ، وأكمل قائلاً : تدلل عيني ، أنا عرفت من لهجتك إنك أردني مو عراقي ،واحنا ترى يجينا هواية ( كثير) زبائن من الأردن ، وأهلا وسهلاً بيك ..
ثم أكمل قائلاً : طبعاً عيني .. اعتيادي أكو عندنا ريوق خفيف ، لكن أنا حبيت بالأول أنطيك فكرة عن الأكلات الشعبية في العراق ، لأن هذا من تراثنا واحنا نفتخر بيه ..
فقلت له : أكيد طبعاً هذا الكلام سليم جداً، وأنا مسرور بالمعلومات القيمة هذه ، وطبعاً كل بلد له تراثه الخاص به سواء في الأكلات الشعبية أو الملابس أو في البناء وغيرها ..
كان يبدو واضحاً بأن الطاهي( حميد ) ، كان مسروراً بإطلاعي على أنواع الأطعمة الشعبية العراقية ، ولذا لم أشأ أن أضعف حماسته أو أمنعه عن التحدث ، فقلت له : طيب يا شيف حميد! ، ماهي أكثر الأكلات الشعبية شهرة في العراق، والتي يتناولها العراقييون عادة في الصباح والظهر والمساء ؟
ابتسم حميد وكأنه كان ينتظر هذا السؤال ..
فقال : صباح الفشافيش!!
فقلت متعجباً : الفشافيش ! ..
فقال ضاحكا: إيه عيني .. الفشافيش ، يعني لحمة فشة الخروف والبقر، فقد تعود العراقيون أكل اللحم في الصباح فترى كثيراً من الموظفين والتجار يقدمون عل أكل التكة ( لحم الضان ) والفشافيش والكباب لدى بائعيه المتجولين، وهم يتواجدون من الصباح وحتى الضحى بعرباتهم ومناقلهم والفحم والمهفة ( مسكة مصنوعة من سعف النخيل لتحريك الهواء على الفحم) التي تحرك نار الفحم في الساحات وبعض من الأزقة في كافة مناطق بغداد وعلى الهواء الطلق .
ثم أكمل قائلاً : وبعد شيشين تكة أوالفشافيش أو الكباب، مع الخضروات والبصل المشوي والطماطة المشوية ورغيف من خبز التنور، ( الطماطة يعني الطماطم)، أو الصمون الحجري ( ويقصد خبز الصمون المخبوز في فرن التنور )، ثم أخبرني بأن من عادة العراقيين في الصباح ، وأثناء تناولهم الريوق ، تبادل الاحاديث والحوارات السياسة التي تهم الشارع العراقي ، ثم يختمون فطورهم بالشاي العراقي الثقيل، والذي يتم تحضيره على الفحم.
وأخبرني بأن البغداديين يتناولون على الفطور الكبة المحشية باللوزمع لية الخروف! ويغمسون الخبز في مرقة اللحم، ولذا ينتشر بائعي هذه الأطعمة في شوارع الأحياء والأزقة العراقية ، وتجري العادة أن ترسل بعض العوائل أولادها في الصباح حاملين الصحون لشراء الكبة، أما الموظفين فتراهم يقصدون مطاعم الكبة المنشرة في بغداد وأشهرها كبة السراي ( وهو اسم مطعم مشهور ) التي تناول كبتها كبار رجال وسياسي العراق..
فقاطعته حينها قائلاً : كبار سياسي العراق ؟
فأجاب : إيه طبعاً أكوعندك مطعم كبة (السراي) ، والذي يصنع الكبة الشهيرة المحشية باللية واللوز وكذلك حلاوة (شربت زبيب الحاج زبالة !!) العريق ، وكان الباشا نوري السعيد رئيس الوزراء في العهد الملكي وقبل توجهه لدوامه الرسمي في سراي الحكومة ، يذهب لهذا المطعم لتناول الكبة ، وقد كان مغرم بهذه الاكلة الشعبية ، وكذلك الملك فيصل الاول والوصي على عرش العراق الامير عبد الاله كانا من زبائن مطعم كبة السراي الذي افتتح في العام 1933 في مدخل سوق السراي ، أشهر سوق للوراقين في بغداد ، ثم أكمل قائلاً : أما بالنسبة لمحل شربت زبالة ، فان محل الحاج زبالة افتتح في العام 1914 في مدخل جسر الشهداء ، ثم انتقل الى موقعه الحالي في شارع الرشيد امام جامع الحيدر خانة ، وكان من ابرز زبائنه الملك غازي والرئيس عبد السلام محمد عارف ورئيس الوزراء عبد الكريم قاسم ، فيما كانت الملكة عالية والدة الملك فيصل الثاني ترسل سائقها ليشتري لها الشربت! ، وقد اختص هذا المحل بتقديم سندويشات (جبن العرب) اللذيذة مع شربته ذي المذاق الفريد ، وهو ما جعل معظم رواده يختارون تناول فطورهم هناك او فى الاقل ارتشاف كأسين من شربت زبالة ( شراب الزبيب) قبل ذهابهم الى العمل.
كما أخبرني بأن البعض يفضل مطاعم الكبة في مناطقهم التي يقطنون بها، ففي منطقة الفضل كبة (عمعم) والكاظمية كبة (ضياء دروش) والأعظمية في الكسرة وفي الساحة المقابة لجامع أبو حنيفة، وفي الكرادة كبة ( أبو جلال) وفي ساحة الحرية وهكذا..
ثم قال حميد : وكذلك الباجه من أكثر الأكلات الشعبية المشهورة في العراق ، لذلك فأن باعة الباجه والكراعين( الفوارغ) يتواجدون منذ الصباح الباكر، وترى أقبالاً كبيراً على هذه الأكلات...
فقاطعته عندها قائلاً : إيه.. الباجه عرفتها ، فهي تتكون من لحم راس الخروف يتم غليُه لساعات بعد تنظيفه ، ويضاف اليه بعض العظام ليزداد الدسم ، ثم يقطع الخبز في المرق الناتج ، لعمل فتة خبز بمرق اللحم ، ويوضع فوقه اللسان المقطع والكرش (اجزاء من الامعاء ) اما الدماغ فيقدم في صحن مستقل ويأكل كمقبلات ، ويقدم معها صحن صغير من لبن وثوم، وكذلك طبق الكيبايات ( وهي اكلة مكونة من امعاء الخروف تأخذ وتغسل جيدا لتصبح كيس طويل و ضيق رقيق و تملئ بالرز واللحم المتبل ثم تطبخ، ثم أكملت قائلاً : بس يا حميد ما في أكلات نباتية ؟
فأجاب : لا طبعاً ! أكو ، عندك مثلاً أكلة الباقلاء المشربة بالدهن !!..
فقلت حينها : أيضا بالدهن !! ، يعني يا حميد لازم يكون في دهن بالموضوع ؟
فضحك ثم قال : أغاتي ابو جاسم !، هذي أكلات شعبية عراقية متوارثينها أباً عن جد ، يعني إنت هسه روح الشارع، رح تشوف بياعين التشريب الباجلاء (الفول) في أزقة بغداد في رأس الدربونة (حي من أحياء بغداد) ومعهم قدر الباجلاء باللحم والخبز منقع (منقوع) بالتشريب، فتأتي العوائل حاملة صحونها للشراء، وهناك من يأكل الباجلاء في نفس الموقع على الأرض.
قلت له : حسناً يا حميد ، وشنو بعد ؟
قال : وعندك بعد أكلة المخلمة والجلفراي وعروك الطاوة!!
فقلت فوراً : شنو ..شنو !! مخلمة !! ، وبدت لي تلك الأسامي وكأنها طلاسم ورموز يصعب حلها ..
قال وهو يرى تعجبي من تلك الأسامي : المخلمة أبو جاسم .. المخلمة .. ، هذي أكلة كلّش زينة!! .
سألته عندها : حسناً مم تتكون هذه الأكلة ؟
قال : يا سيدي .. هذه تتكون من لحم الخروف أو العجل !! و...
قاطعته قائلاً : الله أكبر ، كمان لحم عجل يا حميد !!
فقال : إصبر يا بو جاسم !! إنت ما تعرف هذي الأكلة ، هذه أصلاً أنا فنان في تحضيرها..
ثم بدأ يصف لي مقاديرها قائلا : تجيب كيلو لحم خروف أو عجل ، مع البصل المفروم والكرفس والبقدونس والبطاطا والبازلاء ، وبهارات حسب الرغبة، يعني ابو جاسم ! فلفل اسود وكمون وكركم وجوزه الطيب، او ممكن تضع بهارات البرياني ، ومعها خمس بيضات نية!! ..
ثم أكمل : وبعدين تجيب طاوة ( طنجرة) تيفال نضع الزيت ونقطع البصل مكعبات صغيره ونقلبة الى ان يذبل ثم نضع علية اللحم المفروم ونصف مقدار البهارت ونقلبهم لحين اختفاء الماء من اللحم نضيف عليه قطع البطاطا ونقلبهم جيدا ونضيف مقدار نصف كوب ماء للخليط ونتركهم حتى ينضج الخليط ، ثم تضيف البقدونس والكرفس المفرومة حسب الرغبة، وأكمل : ثم نضيف البازلياء والملح وباقي البهارات ونقلبهم جيدا واخيرا نخفق البيض ونضيفة فوق الخليط ، ونضع على الطاوه غطائها ونتركهم على نار هادئة لمده عشر دقائق لحين حصولنا على قالب متجانس ، ثم يقلب الطعام في صحن ويزين بقطع الطماطم والخيار ويقدم مع الخبز..
وفي الحقيقة بدى لي أن العراقيون لايأكلون سوى اللحم فقط .. فأملت أن يكون ثمة طعام لايدخل اللحم في مقاديره ، فسألته : طيب يا حميد ، شنو ( بمعنى : ماذا باللهجة العراقية ) الأكلة الثانية اللي حكيتلي عنها ... جلفر..!!
قال : إيه أكلة ( الجلفراي) ! ، هذه عيني تقريباً نفس الشي ، لحم عجل مفروم تقليه بالدهن ! ، مع قطع البطاطا والبصل والبهارات وشوية فلفل أسود ! ..
فقلت : يا عيني عليك يا حميد ! كمان دهن ولحم عجل ! ..
قال : أما أكلة (عروك الطاوة ) يا بو جاسم ! إووه ، وما أدراك ما عروق الطاوة !! ..
قلت له مازحاً : هاي الأكلة يا حميد ، أكيد عجل كامل ، ومحشي بداخله خروف مشوي !!
فقال: ابو جاسم ! خروف محشي شنّو.. (أي : ماذا تقول يا محمد !) ..
ثم أكمل قائلاً : هذه أكلة شعبية عندنا تتكون من لحم عجل مفروم مع بطاطا مهروسة ، مع شوية طحين فوقها عشان تجعلها متماسكة، مع فلفل اسود وملح وكزبرة وتخلطها وتعملها كرات ثم تقليها بالدهن ( يقصد الزيت) ! .
قلت حينها : والله يا حميد ، أنا صار لي يومين عندكم في العراق ، وخلاص شعبت من ريحة الدهن والزيت ، ويبدو أن الفطور عندكم كله لحم محشي باللحم والدهن ..
ضحك حميد مرة أخرى ثم ناولني شيش (سيخ) كباب ، قائلا : هاك ابو جاسم ذوق طعم الكباب !!
ثم أكمل قائلاً: أنت تعرف إن الأكلات هذه اللي قِلِتلك عنها ( بكسر القاف واللام وسكون التاء) ، وهو ( يقصد المخلمة والجلفراي وعروك الطاوة ) ، بأن أكثر من يتناولها هم طلبة الكليات والمعلمين حيث بعض من البائعين مع عرباتهم يتواجدون في الساحات وألأماكن المزدحمة في بغداد كالأعظمية وباب المعظم والميدان والعلاوي والباب الشرقي !
نظرت لسيخ الكباب ، وقلت لحميد ، أريد أدخل للمطبخ أجيب خبزة لأضع الكباب فيها..
فقال : لحظة شوية ، ثم مد يده إلى داخل شوال صغير من القماش الأبيض، كان موجوداً على طاولة بجانب منقل الشواء، أخرج منه رغيف خبز، وناولني إياه قائلاً : هذا خبزعرب من التنور..
كان رائحة رغيف الخبز طيبة جداً وطعمه لذيذ جداً، والتنور هو موقد دائري الشكل ، وهو مصنوع من الطين، ومعظم المنازل العراقية القديمة، تمتلك تنوراً لعمل الخبز وتسخدمه أيضاً لشواء الدجاج والسمك باستخدام الحطب ، وكما علمت من الشيف حميد ، فلقد تفننت المرأة العراقية بصناعة الخبز بأنواعه، ففي الأهوار خبز عجينة الرز المعمولة على الصاج وفي الشمال خبز الرقاق، وكذلك خبز الشعير لمرضى السكر وكل له خميرته الخاصة، حيث تقوم بائعات الخبز بالتجول في أزقة ودروب بغداد وأسواقها لبيعه، وقسم آخر يعمل خبز( العروقي ) ، من خلال أضافة اللحم المفروم مع البصل والكرفس الى العجينة مع أضافة التوابل، كما أن البعض يعمل أيضاً خبز ( النذور( خبز العباس ، وهو خبز يصنع في المناسبات الدينية الخاصة بالطائفة الشيعية العراقية ، ويوزع مجاناً .
وعموماً يمكن القول بإن الخبز ، له مكانة خاصة لدى كافة الشعوب ، فقد ضربت الكثير من الأمثال عن الخبز وأشهرها ( بيننا خبز وملح ، أو عيش وملح باللهجة المصرية )، ومما فهمته من خلال وجودي في العراق ، بأن قدماء العراقيون كانوا يقدمون الخبز الى الآلهة، وبأن خبز التنور والمصنوع يدوياً ، لايزال يتربع على المائدة العراقية حتى يومنا هذا .
ثم ختم حميد كلامه بإعلامي أن مدينة الموصل، (مسقط رأسه) ، تشتهر بالكبة الموصلية الكبيرة والتي تشابه الكبة السورية، حيث تشتهر المناطق الشعبية في وسط العاصمة بغداد بمطاعم الكبة البغدادية أو الكبة الحامضة، وتطلق عليها هذه التسمية لإضافة الليمون إليها، وهي أكلة خاصة يتم تحضيرها عن طريق ملء القرع أو الفلفل أو الخيار أو الباذنجان أو الطماطم باللحم والرز والتوابل ومن ثم طبخها، يضاف إليها حسب الذوق أصناف أخرى من الخضروات كالفول والذي يسمى بالعراق (الباجلاء)، ثم أخبرني بأن وجبة تشريب الباجلاء تعتبر من الأكلات المفضلة لدى العراقيين للفطور الصباحي، وهي منقوع الخبز مع الفول المطبوخ والبيض المقلي وبعض التوابل، وكذلك تشريب الباميا أي مرق البامياء المطبوخة مع أضلاع لحم الغنم الذي يصب فوق قطع الخبز.
شكرت حميد على سيخ الكباب والخبز ، ثم خرجت من المطعم ، بعد أن أتحفني بكل تلك المعلومات الهائلة عن الأكلات الشعبية العراقية المقدمة على مائدة الفطور تحديداً ، والتي تكفي الواحدة منها كي تبقي الشخص شبعاً طيلة اليوم ، فإن كان الفطور هذا حاله ، فما شأن طعام الغداء !.
وبالطبع كنت موقناً بأن بلاد الرافدين ( العراق) ، لديها المزيد لتقدمه لأبناءها العراقيين ، وضيوفها ، ولكل من لايرغب في تناول اللحوم والشحوم الدسمة صباحاً ، فابتداءاً من التمور العراقية مختلفة الألوان والأصناف والطعم ، ومروراً بالقيمر، وهو القشطة المُصنعة من حليب الجاموس والذي يعتبر جزءاً أساسياً على مائدة الأفطار في البيوت العراقية وخصوصاً يوم الجمعة، ويعتبر قيمر الحلة والسدة من أجود أنواع القيمر ويضرب به المثل لطعمه اللذيذ والمميز ، ويرى الزائر بائعات صواني القيمر موضوعة رؤوسهن مع شروق الشمس يرددن: قيمر.. قيمر ..
وكذلك الجبن، فعادة ما يباع الجبن في محلات الأجبان المنتشرة في بغداد بمناطق الكسرة وراس الحواش والصدرية والشواكة والكاظمية والكرادة، ولا تخلو مائدة الأفطار من جبن العرب الحلو والمملح، والجبن الكردي، وفي موسم الربيع يتوافد الأكراد الى محلات وأزقة بغداد لبيع الجبن الكردي والزيتون والعسل وهم ينادون: ( أوشاري الجبن..)، ويقصدون بذلك من يشتري الجبن !.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مهرجان مراكش السينمائي يكرم الراحلة نعيمة المشرقي بحضور نجوم
.. 276 حول الحالة الثقافية والعلمية بإلمنيا/ حكايات وذكريات الس
.. أنجلينا جولي تكشف عن رأيها فى تقديم فيلم سيرة ذاتية عن حياته
.. اسم أم كلثوم الحقيقي إيه؟.. لعبة مع أبطال كاستنج
.. تستعيد ذكرياتها.. فردوس عبد الحميد تتا?لق على خشبه المسرح ال