الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتحار

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2014 / 11 / 24
الادب والفن


عندما انطلقت "سلوى" خارجة من دار الكتب والوثائق القومية، قرب رملة بولاق، لم تكن تحمل في رأسها سوى فكرة واحدة وهي الانتحار. كلا، لم تكن تريد الانتحار، ولكنها المكالمة الهاتفية التي جاءتها من والدتها تهددها فيها بأنها ستنتحر. لم يكن في صوت الأم أي هزل أو تراخ، ولا زالت أذن "سلوى" تشعر ببرود نبرة والدتها، عندما قالت لها: "لو ما جيتيش من الشغل دلوقت، أنا حارمي نفسي من الشباك... إنتي حرة بقى!".
كيف يبدو المنتحرون؟!
توارد إلى خاطرها الكثير من الصور...
صور تظهر فيها أمها وقد رقدت أسفل النافذة غارقة في بركة من الدماء، وقد التأم حولها أهل الشارع، وراحت السيدات يصرخن ويبكين، بينما أخذ الرجال في الحوقلة والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والكل عاجز عن فعل شيء، عدا محاولة تغطية الجثمان بورق الجرائد، في انتظار حضور المباحث.
صورة أخرى تظهر فيها أمها، وقد رقدت مغطاة بالأبيض، عدا وجهها، على سرير إحدى المستشفيات، فيما ظهرت على الوجه إمارات السلام والهدوء وكأنما وجدت في انتحارها راحة مفقودة.
صورة ثالثة... تظهر فيها امرأة شابة قسيمة الملامح وطفلة صغيرة ملائكية الطابع ورجل بشوش الوجه يسيرون على كورنيش النيل في صفاء نادر، والطفلة تجري وهي تشير لهذا وذاك وقد امتلأت بالمرح حتى سال من عينيها البريئتين ليمنح الكون كله مذاق السعادة.
"العباسية يا أسطى".
توقفت السيارة الأجرة فور أن أشارت لها وسمع السائق العجوز نداءها، ويبدو أنه قرأ في وجهها أن أمها تهددها بالانتحار، فلم توفر "سلوى" وقتا وفتحت الباب بسرعة رهيبة، وألقت بجسدها على المقعد الخلفي، وقالت للسائق "طير يا أسطى وحياة والدك"، قبل أن تصمت نهائيا ولا تلقي بالا لما قاله لها السائق من أن تهدأ وتستعيذ بالله، فيبدو أنه أدرك أنها في حالة من التوتر الشديد بسبب ملامحها وكذلك بسبب عبارة "وحياة والدك" بدت عليه غريبة، ربما لأنه دفن والده منذ ما يزيد على ضعفي عمر "سلوى".
كان أكثر ما يؤرقها كلمة "دلوقت" هذه التي قالتها أمها. هل فعلا تقصد بها وقت المكالمة؟! هذا يعني أنها قد انتحرت فعلا الآن، فلا وجود لعنصر الزمن لدى مرضى خرف الشيخوخة بخاصة في المراحل المتقدمة منه.
قاسٍ أنت أيها المرض... قاسٍ وشرير.
انحرف نهر الأفكار هنا إلى رافد آخر.
لماذا؟!
لماذا يحدث لها هذا؟!
أن يموت والدها وهي في الثامنة من عمرها أمر يحدث لكثيرات.
أن تُسْتَبْعَدَ من التعيين في كلية الآداب — على الرغم من تصدرها ترتيب دفعتها — بحجة عدم الحاجة في هذا العام، أن يحدث هذا فهو أمر شائع، بل والشائع أن يُعَيَّنَ ابن أحد الأساتذة في الكلية مكانها، وهو ما حدث فعلا.
أن تفسخ خطوبتها مرتين وتصل لسن الثالثة والثلاثين دون زواج، فهذا طبيعي للغاية ويتكرر كثيرا.
أن تصاب والدتها بخرف الشيخوخة، فهذا أمر وارد الحدوث.
ولكن أن تحدث لها كل هذه الأمور معًا، فهذا هو غير الطبيعي.
دار في ذهنها كل هذا الهراء عن الأعمال والأحجبة والسحر، إلا أنها كانت، في كل مرة تنحو أفكارها هذا المنحى، تنفي هذا الأمر مستندة إلى أن سوء حظها أقوى من كل العفاريت والجان، وأنه لا ساحر يستطيع صنع حجاب يجلب كل هذا النحس لإنسان. لو كان هذا الساحر موجودا، لتمنت مقابلته لا لقتله ولكن لتحيته على إتقانه عمله!!
اللعنة على إشارة الإسعاف...!!
ولما أوقف السائق السيارة عند الإشارة، صاحت فيه بعصبية بالغة: "يا أسطى وَقَّفْت ليه؟! ماكنتش قادر تمد شوية قبل الإشارة ما تقفل؟!". بدا الغضب على وجه السائق، إلا أنه سرعان ما تمالك أعصابه، وقال لها بهدوء كان من الواضح أنه مفتعل: "يا بنتي اللي حصل، ثم إني مش حادوس على الناس في الشارع عشان ألحق الإشارة قبل ما تقفل". كادت تقول له: "دوس عليهم... الزبالة حاتخف من الكون"، لكنها ابتلعت لسانها، إذ أنها رأت أن السائق لا ذنب له، لكي تخرج شحنتها الانفعالية فيه، واكتفت بأن زوت ما بين حاجبيها في تبرم.
كثيرا ما كانت تتساءل عن عدد الساعات التي أهدرتها هذه الإشارة من حياتها وحياة المصريين. لو كانت تعمل في مركز البحوث الاجتماعية والجنائية لأجرت بحثا عن هذا الأمر.
مزيج قاتل من حرارة يوليو وإشارة الإسعاف وزحام الظهيرة الطبيعي.
والتوتر.
كانت تشعر بالعصارة تحتشد في أمعائها موشكة على الانفجار.
آه لو يحدث فقدان الوعي... ستستريح كثيرا لو فقدت وعيها، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
أغمضت عينيها، ومررت يدها على طرحتها، ذات اللون الوردي المفضل لديها، في حركة عصبية كثيرا ما تفعلها، عندما تواجه سؤالا صعبا أو موقفا محرجا. إنه الموقف الأكثر حساسية وإحراجا في حياتها...
أمها ستنتحر.... أي عار سيتركه ذلك عليها في منطقتهم؟؟!
ماذا سيقول الناس عليها؟!
دفعت أمها للجنون؟! ماتت بحسرة عدم زواجها؟ انتحرت فرارا من سوء معاملتها؟
لن يصمت الناس أبدا.
وأخيرا، انطلقت السيارة، وراح السائق يندفع بها في شارع امتداد رمسيس، حتى وصل إلى... إشارة مسجد الفتح، وهنا انهارت معنوياتها، وراح السؤال يأكل ذهنها: ترى هل انتحرت أمها؟!
بالتأكيد لا، لأنها لو كانت انتحرت لكان الجيران قد اتصلوا بها. إلا أن قلبها غاص في قدميها وظهر الهلع جليا في عينيها العسليتين الضيقتين، وانضمت شفتاها الصغيرتان على بعضهما في إنذار بأنها سوف تطلق صرخة، وذلك عندما بحثت في حقيبتها عن هاتفها المحمول، ووجدته مغلقا، لأن شحنه قد انتهى. وهنا، عاد السؤال يتكرر في أعماقها بشكل أكثر قوة وعنف.
كثيرا ما تساءلت "سلوى" عن العبقري الذي جعل كل هذه الكمية من مواقف السيارات في ميدان رمسيس — هذا الميدان الصغير — والشوارع المحيطة به. جاءتها إجابات كثيرة على غرار أن هذا نتيجة لوجود محطة مصر قرب الميدان. لكن لا إجابة أكيدة أو مقنعة.
ربما كان فيما بعد وقتا مناسبا أكثر للبحث عن الإجابة.
اندهشت كثيرا من كل تلك الأفكار التي اقتحمت رأسها فجأة، إلا أنها قالت ربما كانت هذه حيلة دفاعية من جانبها لتبعد عن ذهنها الأفكار السوداء الخاصة بانتحار أمها.
اعتصرت رأسها الصغير بين يديها اللتين اختفتا وراء قفازين من قماش أسود لامع، وأغمضت عينيها، قبل أن تخرج المصحف، لتقرأ فيه باحثة عن بعض الهدوء، ثم ارتج جسدها الضئيل مع الاندفاع المفاجئ للسيارة، إثر انتهاء ورطة إشارة مسجد الفتح، لتنطلق السيارة بسرعة رهيبة غير مناسبة تماما لزحام شوارع وسط البلد، لكن فيما يبدو أن السائق أشفق على الفتاة من توترها، فقرر أن يدخل سباقا مع النيازك.
وعندما اقترب من مدخل شارع أحمد سعيد، ما كان يعني أنهما قد اقتربا من ميدان العباسية بشكل كبير، سألها عن المكان الذي ترغب في الذهاب إليه في العباسية، فقالت له عنوانا وراء موقف العباسية المجاور للميدان، فقام السائق بمناورة كبيرة بالسيارة لينطلق بعدها في شوارع خلفية لم تدخلها من قبل، ولا تعتقد أنها ستتذكرها فيما بعد حتى ولو مرت بها مرة أخرى.
وفجأة، وجدت نفسها تمر أمام منزلها...!!!
كان السائق قد نجح في الوصول إلى العنوان بكل مهارة وسرعة، دون حتى أن تدري.
شعرت بالسعادة، عندما لم تجد أية مظاهر تدل على انتحار والدتها، وألقت نظرة سريعة على عداد السيارة، ثم أخرجت ورقة نقدية تفوق في قيمتها ضعف الأجرة، وألقتها للسائق، دون أن تلتفت لدعوته لها لتأخذ الباقي، وانطلقت صاعدة السلم المتهالك لمنزلها، وقد ملأها السرور.
إلا أن شيطان الهواجس عاد إليها قبل وصولها إلى منزلها بالطابق الخامس بسلالم بسيطة.
ماذا لو كانت قتلت نفسها بالسكين؟!
تحولت قدماها إلى عجلتين مثلما يحدث للقط في أفلام توم وجيري، وانطلقت تجري بسرعة فائقة لتقطع المسافة المتبقية في ثوان، وتدس مفتاح المنزل في الباب، وتدفع الباب بكل قوة لترى أمها وقد جلست في وسط الصالة منخرطة في بكاء عنيف.
نست "سلوى" كل شيء، واندفعت تحتوي أمها في حضنها في حنان دافق، وقالت لها في صوت هادئ، رغم كل ما يجيش في صدرها من انفعال: "مالك يا ماما؟! بتعيطي ليه؟!".
قالت الأم من بين دموعها: "عشان نسيتي تجيبي لي هدية في عيد ميلادي".
عيد ميلادها؟؟!! لم يحن الموعد بعد، ولكن لا مشكلة في ذلك، فلتجارها في الأمر.
"خلاص ما تزعليش. أنا بكرة أجيب لك هدية إن شاء الله. أنا بس نسيت عشان إنتي عارفة دور البرد اللي جالي خللاني مش مركزة".
"دور برد ينسيكي عيد ميلاد أختك؟؟!! عيب عليكي!".
أختك؟!! لقد تطور الأمر إذن، وتظنها أختها.
حسنا، طالما لم يحدث انتحار، فلا مشكلة. كل شيء قابل للعلاج والمداواة.
المهم الآن، أن تدخل دورة المياه، وإلا انهارت كرامتها أمام نفسها..!
كل هذا التوتر والانفعال الزائد ونلومها لرغبتها الدخول دورة المياه؟! لا ريب أننا سنكون مجحفين، إن فعلنا ذلك...!
اصطحبت أمها إلى الفراش، وأرقدتها فيه، ثم أعطتها حبة دواء مسكنة، على أمل أن تنام الأم، ثم أسرعت هي إلى دورة المياه، ولكنها قبل أن تغادر الحجرة، استوقفتها الأم قائلة لها: "إيه اللي إنتي لابساه ده؟!"
ردت "سلوى" من بين أسنانها: "إيه يا ماما؟!".
"ماما؟؟! جتك مَوّ...؟! ماما مين يا هبلة...!".
"معلش يا "سميحة"... أصلي متعودة أقول لواحدة في الشغل كبيرة في السن يا ماما ولساني أخد على الكلمة"، ثم تابعت في هدوء وهي تضغط على نفسها كي لا تنهار كرامتها: "ماله لبسي؟!".
أجابتها الأم في لهجة من لا يجد كلاما يقوله: "مش عارفة!! حاسة إنه ضَيَّق شوية".
لم تستطع "سلوى" أن تمسك نفسها عن الصياح قائلة: "ضَيَّق..؟! ده إسدال يا ما... سميحة!! إسداااااااال..! ضَيَّق إزاي بقى؟!".
"أنا عارفة بقى؟؟!".
ثم بدأ مفعول الحبة في العمل، فسقط رأسها على صدرها، وراحت في نوم عميق. تنفست "سلوى" الصعداء عندما نامت أمها، وفكرت في أن تتجاهل وضع رأس أمها، وتسرع إلى دورة المياه على أن تعدل وضع رأس أمها فيما بعد، إلا أن ضميرها أنبها، فعادت مرة أخرى إلى أمها وعدلت وضع رأسها على الوسادة، ثم انطلقت من فورها إلى الحمام.
وعندما أغلقت باب الحمام، كانت توشك على البكاء من فرط الحاجة المُلِحَّة المكبوتة، وعندما فتحت الباب ثانيةً، كانت توشك على البكاء، لِما تردد في ذهنها من سؤال...
لماذا هي دون الآخرين؟!!
ظل السؤال يتردد في ذهنها، وهي تبدل ثيابها، وظل يتردد وهي تقوم بتسخين بعض الطعام المتبقي من الأمس في الثلاجة.
وظل يتردد وهي تضع الطعام على المائدة، لتتناوله.
لكنها فجأة هزت رأسها في قوة وكأنها تنفض هذه التساؤلات بعيدا عنها، وراحت تتمتم ببعض الأدعية والآيات القرآنية، ثم قررت أن تشغل التلفاز، لترتاح من كل الأفكار التي تعصف برأسها. ولما شغلته، وجدت إحدى قنوات المسلسلات تعرض مسلسلا تركيا جديدا اسمه "حريم السلطان".
انغمست "سلوى" في المشاهدة، لدرجة أنها لم تتناول الطعام، إلا بعدما جاء أول فاصل إعلاني.
وفي أعماقها، تمنت ألا ينتهي المسلسل...
وألا تستيقظ والدتها.... أبدًا
إلا أن نظرةً للنافذة المفتوحة أمامها، أعطتها فكرة أو فكرتين للخلاص...
فنهضت من مقعدها، واتجهت نحو النافذة، وتوقفت أمامها، ثم أخذت نفسا عميقا... وبدأت رحلة الخلاص.
******








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان