الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سعاد

مجاهد الطيب
(Megahed Al-taieb)

2014 / 11 / 28
الادب والفن


سعاد

كأنّه يشاهد الفيلم للمرة الأولى ، ومع ذلك نزل فجأة ، لم يغلق التليفزيون ، سمح لي بمشاهدة ما تبقى ، ومضى تاركا آخر التفاصيل :
"الدفراوي سيلقي من السيارة علبة سجائره المدون بها موعد الاجتماع التالي للتنظيم السري ، صلاح ذو الفقار سيلتقط العلبة ويخبرنا ويخبر رشدي به . "
ترك هذه التفاصيل ؛ ليس مسايرة لمن ينتفضون فجأة في قاعات السينما ؛ ليسجلوا نباهة قبل إضاءة الأنوار .
كانت المرة الأولى التي يلتقى فيها سعاد ، بعد "غروب وشروق " مباشرة ، لما قِيدَ أبوها عزمي باشا رئيس قلم البوليس السياسي إلى السجن تحت حراسة رجاله ، وفي مقدمتهم الصاغ فريد مكرم ( محمد الدفراوي ) ، ومضى رشدي أباظة بصحبة صديقه الوحيد كابتن طيار أمين عاكف إلى حال سبيلهما ؛ لأن الفيلم قد انتهي بالفعل . في هذه اللحظة وقفت سعاد إلى جانب الشباك ، وأزاحت ستارته ؛ لترى الراحلين ، وترى وحدتها . هنا بالضبط كان الموعد.

استغرقا وقتا أكثر من اللازم فيما أتذكر وهما يقطعان الفناء الواسع . في حرم القصر الخاوي على عروشه يسيران ، وفي نهاية الممر الطويل جلسة أولى بينهما تأخرت طويلا ، ونادل ينتظر.
أشار إلى التاكسي . طلبت سعاد شايا بالنعناع وجاء له النادل بقهوته كالمعتاد ، كان بوده أن يغير المعتاد - راحت روحه للنعناع ، لكن ، ليكن.
لم يتطرقا مطلقا لما حدث لها ، هي تعرف في الغالب سبب مجيئه ، كان قد شاهد الفيلم مرارا ، وآلمه ما وصل إليه الحال في المشهد الأخير ، إلا أنه في هذه المرة بالذات كان عليه أن يفعل شيئا.
كان المشهد مستقلا ، وإنْ ظلت سعاد بنفس الفستان الداكن ذي الأكمام الطويلة المنتهي بـ ياقة شبه دائرية من الدانتل الأبيض ، الـدانتيل محكَم بـ بروش - كزرار أخير قبل الطلوع إلى الوجه.
لم يتطرقا كما قلت سابقا لما حدث لها ولمديحة عزمي ، على اعتبار أنه ما جاء إلا تأثرا و تقديرا ، أو لأن الكلام في مثل هذه الحالات زائد مهما قلَّ ، ناهيك عن أن دموعها ما هي إلا المشهد الأخير من الفيلم ، ومحمود المليجي لن يدخل السجن ، وربما يتمثَّل في فيلمه القادم الأستاذ زكي رستم ؛ فيتزوج من بنت جميلة تصغره بثلاثين سنة على الأقل ؛ ليصير للحب نهر . وربما يكون رئيس عصابة ، وليس لديه بنت وإنْ حدث فلن تكون سعاد ، ولذا فسوف يستحق عن جدارة مصيره الذي ناله في الفيلم السابق.
. رشدي أباظة ، وإن تمنته سعاد ، لم يعد له دور، حضوره الآن سيفسد كل شيء ، مناسبته في غيابه ، اختفاء رشدي – أقول بتجرد - في مصلحة الدراما تماما.
كانت سعاد ساكتة تضع يسراها على خدها ، وكان هو – بمسئولية - يتحدث بصمت كسلاسل الذهب . تحادثا طويلا ، ، لم يتركا أيا من الأشياء التي تستحق ، كالمعتاد ما لا يستحق كان أجمل . كانت سعاد وكانت مديحة ، وكانت تتململ . .
صمت رهيب وجمال رهيب . سعاد لمّا تشوفها عَ الطبيعة مختلفة شوية ، لم أستطع أنا ولم يُرِدْ هو أن يميز طبيعة الاختلاف ؛ لإنُه مش ها يعرف سعاد النهارده يعني. كانت تبادله الصمت بطلاقة نادرة ، جملة الحوار الوحيدة التي نطقت بها أنْ نادت على النادل " ممكن مية لو سمحت ؟ " .بالقطع لم تكن تريد الماء ، . جاء النادل بكوب الماء ، ثم تراجع ، وهو ينسحب من الكادر أزاح الببيون ثم السُّترة وانضم إلى كثيرين خلف الكاميرا أنهوا أدوارهم ولم يغادروا ، ظلت سعاد مدة تنظر إلى : " ممكن مية لو سمحت " ، بهدوء وراءه ذهول ، لن يُسجَّل ذهولا ، كانت تنظر إلى " ندائها " للنادل بامتنان من اكتشف صدفة أن بوسعه أن يتكلم وبوسع الآخرين أن يسمعوه . . بالمناسبة كانت هذه هي المرة الأولى ( والأخيرة ؟ ) التي يعيش فيها على طبيعته و أمامه جماهير .
أثناء الشاي بالنعناع وبعده تبدلت سعاد كثيرا ، من صمت إلى صمت ، لا صمت يشبه الآخر ، . تجولتْ - بتأنٍ - في أنواع من السكوت يصعب وصفها . نعم صمتها حزين ، لكن الحزن – كما هو ثابت - لا يخفي ما دونه .
رغم أنها كانت ترتدي ملابس مديحة عزمي وكافة إكسسوارت الروح . إلا أنها ضحكتْ . هل تعرف ضحكة سعاد ؟ ضحكتها مجلجلة . صح ؟
ضحكتْ سعاد ؛ فوقفتْ فجأة ، وأرسلت يديها خلف ظهرها ؛ ربما تمهيدا لحيرة سوف تتلبسها بعد عشر دقائق . بدت يداها وهي حرة كأنها ليست لها بالذات ، ثم عادت وجلست و أخذت تدندن ما سوف تقوله بعد خمسة عشر عاما:
" أنا باضحك من قلبي ياجماعة / مع إني راح مني ولاعة / وبطاقتي في جاكتة سرقوها / وغلاسة كمان سرقوا الشماعة" ....

كانت سعاد في مشهد " الشيكا بيكا " كما تعرف ترقص وتغني بحماسة ؛ لتظهر خيبة أملها في الحماسة .أمسكت بالبالونة لو تفتكر ونفخت فيها بعزمها حتى فرقعت . صمتها الآن مرادف لهذه الحالة التي ستأتي بعد سنوات . ليس مرادفا بالضبط .

لا يحب فيلم شفيقة ومتولي ، لكنه من الحريصين على " بانوا بانوا " .
في بانوا يجلجل المزمار البلدي أولا ثم يختفي . إن كانت سعاد ، في بانوا ، عند البعض تقدم حفلة تأبين بنفسها لنفسها ، إلا أنه عندما غنت ( بعد موسيقا أطول من اللازم لولا ما حدث خلالها ) لم يتأثر كثيرا بالكلام ، كان صوتها بعد أن وجد محله المختار يمزج ببال مرتاح بين حزن جديد ( ليس عدوا ولا حبيبا ) ، وبين دلال يحاول أن ينطفئ بخطره .لا ، الدلال يدخل ويخرج كأنه لم يحسم أمره بعد ، الصوت الذي صار جسما يراوح بين التجريس ، وبين العزلة في عز الجمع ، وبين الاستمتاع بلا شبهة أثرة ، كأنها استقرت ، بعد أن رقصت بالفعل ، أنه بات لزامًا أن ترقص للرقص ، وأن هذا لا يضير.
في "الشيكا بيكا - الحركات اللي مش هيا " كانت مصدومة ؛ لأنه ببساطة : ما ينفعش كده !
في " بانوا " تقريبا الدنيا شالت وحطت ، هِيَّ ورا شوية : هل صارت ترى بوضوح أنَّ " القلب على الحب يشابي / والحب بعيد عن أوطانه " ؟
طيب ، لديَّ مشكلة فعلا مع صاحبات الشَّعر الحر ( مهما كان جميلا) اللاتي يعشن أزمة يمكن أن تحل بيد واحدة . وأبدا لا يفعلن ، وإنْ ، فيكون متأخرا جدا . لكن الأمر هنا بدا مختلفا تماما . أعتقد هو أيضا لديه نفس المشكلة ، إلا أنه رأى أنَّ : نفس الاستجابات قد تتكرر بالحرف ، لكنها لن تكون نفس الاستجابات.
حين كانت في قصر أبيها ، حين كانت ترى إليهم من الشباك ، كان شعرها كما تعرف ملموما طبقا لتوجيهات المخرج والسيناريست وتقديرا للظروف ، وظل هكذا لوقت طويل ، لا يعرف بالضبط متى صار حرا ، قد تكون اللقطة البينية قد غابت عنه ، وربما حدث هذا حين امتد حبل الصمت .وربما ..... ، عموما ليس هذا ما شغله ، لأنك يمكن أن تسمتع بشَعر حر ، ولا تسأل عن السبب . الحكاية أنها كانت تقبض على كوب الماء الملآن ، والذي سيظل هكذا ، بيدٍ ، وبكف اليد الأخرى المفتوحة تضغط على التراييزة ، كأنها تسند شيئا ما ، شيئا لا دور له في المشهد ، وربما لا وجود له أصلا ، لكن - كما هو واضح - من المستحيل أن تتركه لحاله ، كأنها كانت تعرف أن خصلات من الشعر الذي صار حرا ستطير ، واليدان - للأسف - مشغولتان .
في الحقيقة ، صار مبررا تماما ، وعلى الرحب والسعة ظهور الشَّعر الحر، بل طيران الخصلات دون مقاومة ، والدليل على ذلك أنه عندما تراءتْ بعد قطع مفاجئ بالبلوزة البيضاء التي تظهر السلسلة الذهبية كاملة ، لم ير الـ " فجأة " ، بالعكس كانت النَّقْلَة ناعمة جدا ، وتقبل بحماس كل ما تلا ذلك من ألوان .
أخبـرها بأكثر من طريقة أنه كان يراها على الدوام إلى جانب دورها ورغمه ، ويطمئن عليها ، لم تكن على ما يرام في أكثر من فيلم .
خلال مسافة في الزمن بدت أطول من الاحتمال صادفتها حيرة ، الحيرة التي أوقفتها وأطلقت يديها منذ عشر دقائق ؟ الحيرة أعقبها تململ ، تلاه سكوت جديد ، ليس كالسكوت الأول .
اختفت الصورة وبقيَ صوت الصمت يسري ، انتظرَ لترجع ، لم تعد ، لم يعرف التفاصيل ولم يحاول ، إلا أنها في لقاء تالِ ، رغم أن الفيلم لم يكن على المستوى ، كانت والحمد لله أفضل كثيرا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض


.. تقنيات الرواية- العتبات




.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05


.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي




.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من