الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهروب من معتقل خلف السدة - 2

جاسم الحلوائي

2005 / 8 / 31
أوراق كتبت في وعن السجن


ذكريات
الهروب من معتقل خلف السدة
(2 ــ 3 )
أخذوني تحت درج ، وثقوا يدي من الخلف بحبل وراحوا يسحبون الحبل الى الأعلى تدريجيا ، وطوال الوقت يطلبون بإلحاح أن أعترف (إعترف أحسن لك) إنطوت يداي الى الخلف وراح كتفي يؤلماني . وإشتد الألم عندما إرتفعت قدماي عن الأرض. مع مرور بعض الوقت دخلت في حالة نفسية صعبة جدا، بعد أن ترك الجميع المكان وحل فيه سكون تام . كنت مستعدا أن أعطي أي شيء أملكه حتى لو كان الف قصرا! أو مئة مليار دولار! لكي تلامس قدمي أي شيء صلب. كنت أرمي بجسمي الى الأمام عسى أن تلامس للحظة الجدار الذي أمامي ، ولكن دون جدوى، فقد كان الجدار أبعد من أن تلامسه قدماي. وعندما إقترب مني أحد أفراد الأمن، ( نفس الشخص الذي القى القبض علي ) محاولا أن يكويني بسيكارته، ربما ليتأكد من إني لم أمت بعد، تلقفته برجلي مشبكا إياها عليه بكل قوة . كنت مستعدا أن أخرج روحه من جسده ، على أن لا أرجع للوضع السابق . إستنجد بالجلاوزة ، فساعدوه وأنقذوه مني ، وإبتعدوا مرة أخرى. في ذلك السكون كنت مستعدا ان أموت فعلا، بدلا من الوضع الذي كنت فيه، فأية آلام عاناها الشيوعيون الذين إستشهدوا تحت تعذيب أقسى على يد البعثيين الفاشست؟ قفز هذا السؤال الى ذهني ، ومرت في خاطري وجوه الشهداء الذين سبق وأن إلتقيت بهم وتعرضوا للتعذيب حتى الموت ـ سلام عادل ومحمد حسين ابو العيس وجمال الحيدري وحسن عوينة ونافع يونس، ومحمد موسى وعبد الأله الرماحي ، وقد ساعدني ذلك على الصمود .
عندما كنت معلقا لخص الجلاوزة مطلبهم بان أرشدهم الى مكان مواعيدي الحزبية، لكي ينزلونني الى الأرض. عندما لم يحصلوا على نتيجة ، طلبوا إسمي الحزبي فقط ، لم ألب طلبهم ، رغم أنني أعرف بأن ذلك لم يعد سرا، بعد إعترافات صالح الرازقي ، لأنني كنت أعرف بأنهم سيحاولون إستدراجي . قد يعتبر البعض بأن موقفي متزمتا أولا ينم عن ذكاء. ولكن التجارب تشير، كما ذكرت ذلك في هامش إحدى مقالاتي ، بأن العلاقة بين الأجهزة القمعية والقوى التي تتعرض للقمع لم تكن ولايمكن أن تكون لعبة ذكاء وغباء كما يظن بعض مدعي الذكاء. إنها صراع بين قوة غاشمة بإمكانيات غيرمحدودة تريد أن تجبر المرء على المساومة، بأي شكل من الأشكال، وحدها الأدنى إخراج المناضل من حلبة النضال أو كسر شوكته من جهة، وإرادة إنسان حريص على مصائر رفاقه ويأبى المساومة على أسرار حزبه ومعتقداته وقضية شعبه وكرامته وعلى حريته كإنسان ، من جهة أخرى .
في اللحظة الأخيرة من تعليقي تحت الدرج ، إقترب مني أحد أفراد الأمن وقال لي "إسمك ناهض مو؟ " في تلك اللحظة لم أكن قادرا على لفظ أية كلمة ، مستسلما لقدري أعاني ، بلا مبالغة ، من سكرات الموت . وإذا بالذي تلفظ إسمي الحزبي يصرخ "إعترف.. إعترف يكول إسمي ناهض". عندما أنزلوني شعرت للحظات بأني بدون أيدي ، فقد كان القسم العلوي من بدني مخدرا. أخذت أتلفت يمينا وشمالاٌ قبل أن يدير الجلاوزة يداي المخدرتين ليعيداهما الى محلهما.

توقفوا عن تعذيبي وزجو بي في موقف مديرية الأمن العامة التي تحوي مجموعة زنازين، تفتح أبوابها نهارا وتغلق ليلا. كان الشيوعيون يحتلون جهته اليمنى والبعثيون جهته اليسرى. التقيت هناك بعمر علي الشيخ وتوفيق أحمد وسليم إسماعيل وأحمد الستجري وجورج يعقوب . كان الجو العام أفضل بكثير من سجن بعقوبة الإنفرادي في العهد الملكي . فهنا تدخل الصحف والمجلات بما في ذلك المجلات المصرية كالكاتب والطليعة ويسمحون بالأوراق والأقلام ولدينا شطرنج وطاولي. وكان إحتكاكنا بالبعثيين محدودا.
بعد حوالي إسبوع إستدعوني لتسجيل إفادتي . وإستغربت في البداية أن يجري ذلك يوم الجمعة ، ولكن ظهر إن ذلك طبيعي في هذه الدائرة . كان المحقق ملازم حازم وحده . إستقبلني بشيء من الإحترام وقدم لي قهوة وسيكارة، وشرع يكتب بيده إفادتي . أنكرت المبرزات التي "تخلصت" منها عندما القي القبض علي . أنكرت سبع رسائل بإسمي الحزبي ، وأنكرت إسمي الحزبي معها . واجهني المحقق بمقتطفات من إفادة صالح الرازقي وكانت في ملف أمامه. كذبت إدعاءات الرازقي، وطلبت مواجهتنا. كنت أتمنى أن يتم ذلك ، لكي أأنبه على خيانته للحزب . أكدت مجددا بأن واجبي كعضو في الحزب هو أن أصون أسرار الحزب، ردا على بعض الأسئلة . أخيرا قال لي المحقق:
ـ إشلون أقدم مثل هالإفادة للحاكم؟
ـ بسيطة ، قدمني وي الإفادة لحاكم التحقيق .
لقد أغراني السلوك المؤدب والإيجابي للمحقق وخلو الدائرة بسبب العطلة وثقتي بالنفس بعد إجتياز الإمتحان الصعب في اليومين الأولين من إعتقالي ، الى محاولة كسب المحقق للتعاون معنا!؟. وقد قطعت شوطا معينا في التمهيد لذلك . وردا على رأيه بأن الحكومة قوية والحركة ضعيفة قلت له: " تصور إن جلستي هذه مع أحد مسؤولي هذه الدائرة في يوم 13 تموز 1958، فهل كان يقول غير الذي تقوله أنت الآن ؟ ولكن يوم 14 تموز برهن إن الحكومة ضعيفة والحركة قوية. وبعد أن عرف نواياي ، عندما قلت له من الممكن أن يقدم أي إنسان ، من موقعه ، خدمة للحركة ، إخشوشن وذكرني بأني في جلسة تحقيق ، وطلب مني عدم التدخين! ومن ثم أنهى اللقاء ، بعد أن طلب مني أن أوقع إفادتي . قرأت الإفادة ووقعتها .
كان كبس مطبعة الحزب الرئيسية في صيف 1965، وإلقاء القبض على الكوادر العاملة في هذا الجهاز وإنهيار صالح الرازقي وكبس بيت توفيق أحمد عضو اللجنة المركزية ، والذي كان مركز عمل لجنة التنظيم المركزي( لتم )، وإلقاء القبض على توفيق وإغتيال حميد الدجيلي عضو اللجنة المركزية ، بمثابة أقوى ضربة للحزب بعد إعادة بنائه. فجاء موقفي الجيد في التحقيق، حيث لم تمس لا تنظيمات بغداد ، ولا ما أعرفه من أسرار أخرى بأي سوء بعد إعتقالي ، بلسما شافيا للحزب. لذلك أشاد الحزب بموقفي في نشرته الداخلية المعروفة "مناضل الحزب" مبرزا قولي في التحقيق: " إن واجبي كعضو في الحزب، هو صيانة أسرار الحزب."
كان توفيق أحمد متحمسا للهروب حتى أكثر مني ، فبين فترة وأخرى كان يعرض علي مشروعا للهرب من مديرية الأمن العامة!؟ ورغم خيالية مشروعاته فقد كنت أستمع إليه وأناقشه بجدية وأأمل بإيجاد مشروع واقعي فيه نسبة معقولة من النجاح. وعندما سجل الحارس أسماء من يرومون مراجعة العيادة ، سجلت إسمي ، بإقتراح من توفيق في القائمة ، لمعالجة بعض أصابع يدي التي كانت شبه مشلولة من التعليق تحت االدرج . وايضا ، عسى أن تتوفر لي فرصة للهرب ، ولكن المسؤولين رفضوا خروجي للعيادة وأبلغوني بأن ذلك ممنوعا علي ، بدعوى إني خطر، في حين سمحوا للآخرين.
عندما كنا في هذا الموقف وضعوا معنا شابين صغيربن من مدينة الثورة وهما نعيم الناشيء ولطفي حاتم ( أبو هندرين) من منظمات حزبنا في مدينة الثورة. وكان موقفهما جيدا في التحقيق. لم يكن لطفي يتجاوز السادسة عشر من عمره. وعندما هددوه في التحقيق بالإعتداء الجنسي عليه ، رد عليهم ردا واعيا وفريدا من نوعه، فلم يكرروا تهديدهم ذاك مرة أخرى! وكان لطفي موضع ثقتنا . وعندما نقلوه الى معتقل خلف السدة ، وضعوه في قاووش آخر، كنت أزوده ، سراً ، بأدبيات الحزب وبعض المساعدة المالية .
كان لدينا في الموقف راديو صغير سري، نسمع منه الأخبارمساء، عندما تغلق أبواب الزنزانات علينا، ونعممها على الاخرين صباحا. ومن الذين كنا نزودهم بهذه الأخبار شاب بعثي إسمه وهاب من الناصرية. كان موقفه جيدا في التحقيق، خلافا للآخرين من حزبه الذين كانوا يبررون مواقفهم الضعيفة ، كأمر طبيعي ، بشدة التعذيب. وتحول إعجاب وهاب بمواقفنا الصلبة في التحقيق الى صداقة وثقة متبادلة الى حد ما . كان يسألنا من أين نحصل على الأخبار، كنا نعطيه إجابات مبهمة . في إحدى المرات قلنا له: " بأن مصدر أخبارنا رئيس العرفاء صيوان وإن غدا دورك للحصول على الأخبار منه وتزويدنا بها . وما عليك سوى إخباره بأن توفيق أحمد أرسلك اليه . وكان صيوان حارسا علينا وهو فض الطباع . وقد ذهب وهاب الى صيوان في اليوم التالي . فما أن سمع صيوان طلب وهاب ، حتى أعطاه دفعة قوية ليبعده عنه . وعندما عاد الينا بررنا موقف صيوان بعدم ثقته بالبعثيين! أعدم وهاب ضمن مجموعة من قبل قيادة حزب البعث ، على الأرجح ، في عام 1974، ولم أتمكن من معرفة الأسباب ، ولكن الذي أعرفه بأنه كان إنسانا نظيفا.
بعد فترة وجيزة نقلنا جميعا الى معتقل خلف السدة. وكان مدير المعتقل العقيد إبراهيم السلامي . كان هذا المعتقل معسكرا للجيش بالأساس، وهو غير محاط بالأسوار، بل بالأسلاك الشائكة. وعندما كنا نتجول في الساحة، في الأوقات المسموح بها لنا، كنا نشاهد حركة المرور في الشارع الرئيسي ، عندذاك تمر لحظات على المرء ينسى فيها كونه معتقلا، تماما كما هوالحال عند إستغراق المرء في لعبة الشطرنج في المعتقل. وكان المعتقل يحوي العديد من القواويش ( القاعات) الكبيرة الذي يتسع الواحد منه لحوالي 60 شخصا. وفيه حانوت صغير ومكتبة أيضا.
حراسة المعتقل تتم من قبل شرطة القوة السيارة ( شرطة عسكرية) وهي غير ثابتة، فسرية الحراسة تتبدل كل ثلاثة أشهر. وخلال التبديل ، الذي يستمر وقتا لا بأس به، يختلط الحابل بالنابل، لعدم معرفة أفراد السرية الجديدة بالسرية القديمة. فحينذاك يتمكن أي معتقل مرتديا ملابس الشرطة أن يحمل (يطغ) بضع بطانيات ملفوفة على كتفه ويخرج من المعتقل بدون سؤال وجواب. تقررهروب أربعة وهم كل من عمر علي الشيخ وتوفيق أحمد وسليم إسماعيل وأنا بملابس الشرطة. في أول مواجهة لزوجتي مع إبنتنا الصغيرة شروق جلبت لي فراش (دوشك) فيه بدلتين كاملتين من ملابس الشرطة ، ودخل (دوشك) مماثل في نفس المواجهة . وقام بإخفاء ملابس الشرطة في الدوشكين، بعد إستلامها من أحد الرفاق ، أخي حميد ، الذي كان يعمل ندافا آنئذ. توفرت لدينا أربع بدلات شرطة، ولكن بعد فوات الآوان. فتنفيذ الخطة بات مستحيلا، فقد هرب عبد الحسين مندور، وهو من جماعة سليم الفخري، بنفس خطتنا، من أحد القواويش؛ فإتخذت إدارة المعتقل جملة من الإجراءات، أدت الى إنعدام أية إمكانية لإستخدام الخطة المذكورة مرة أخرى.
كانت هناك خطة أخرى إستبعدناها لأنها لاتتسع لأكثر من شخصين. وعندما وصلنا خبر يفيد بأن السلطات تنوي نقلنا الى سجن نقرة السلمان الصحراوي، قررت اللجنة الحزبية، وكانت تتكون من عمر علي الشيخ وتوفيق أحمد وسليم إسماعيل وأحمد الحلاق وحسين علوان وأنا، وضع الخطة موضع التنفيذ. وتقرر تهريب اثنين وهما عمر علي الشيخ وأنا. كانت الخطة تقتضي التنفيذ في أحد أيام المواجهة وذلك بالخروج من أحد الشبابيك. وإجراء بعض التغيير على مظهرنا والإختلاط بالمواجهين الذين يتجمعون عادة، بعد إنتهاء المواجهة، لفترة قصيرة، خارج القاعات وراء الشبابيك ، ريثما يجري تعداد المعتقلين في جميع القاعات. ولكي يأخذ الحرس وطاقم إدارة السجن مواقعهم في نقاط التفتيش العديدة، التي يمر بها المواجهون عند خروجهم، مادين أيديهم ليظهروا أثر الأختام عليها. وكانت أخطر هذه النقاط ، هي النقطة الأولى ، حيث يقف طاقم الإدارة بما فيهم المدير والضباط والمراتب والعديد من الحراس، وبينهم بالتأكيد بعض عناصر الإستخبارات العسكرية، في صفين متقابلين ويركزون على الوجوه، فيما تركز النقاط الأخرى على رؤية الختمين اللذين يختم بهما المواجهون عند دخولهم المعتقل، والختمان أحدهما بيضاوي على اليد اليمنى والآخر مربع على اليد اليسرى.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة المياه تهدد حياة اللاجئين السوريين في لبنان


.. حملة لمساعدة اللاجئين السودانيين في بنغازي




.. جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا: هل -تخاذلت- الجن


.. كل يوم - أحمد الطاهري : موقف جوتيريش منذ بداية الأزمة يصنف ك




.. فشل حماية الأطفال على الإنترنت.. ميتا تخضع لتحقيقات أوروبية