الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يشكل الموروث الثقافي السوري عائقاً للتطور؟... نظرة في الشأن العام السوري

لمى الأتاسي

2014 / 11 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


.

يتساءل بعض البعيدين قليلاً عن جو العمل السياسي في سوريا، و كذلك المتابعين للشأن السوري من بعيد، لماذا لم يتبلور تيار سياسي جاد بعمله و تنظيمه بعيد عن الغوغائية و الشعبوية القاتلة التي تميز الخطاب العام السياسي التحديثي في صف المعارضة، و الذي يستفيد من سوء تنظيمه الطرف الإسلامي الذي يوزع على الجمهور خطاب شعبوي مريح و مدروس على مقاس الطبقات الاجتماعية؟...

يتساءل هذا البعض قائلاً :
طالما أن أغلب أطياف المعارضة السورية تنتقد الائتلاف الذي أصبح غير قادر على الخروج من أزماته، وبات في الطريق المسدود سياسياً، فلماذا لا يتم تشكيل معارضة جديدة؟..و لماذا تفشل كل المحاولات التي قام بها المعارضون السوريون - الذين تم غالباً إقصاؤهم - و لم يستطيعوا أن يشكلوا كياناً موازياً أو بديلاً للائتلاف الغائب عن المشهد تماما حتى صار حضوره كعدمه، و لم يعد من الممكن أن يقنع أحداً بجديته؟..
الأسباب كثيرة هنا، و أولها التاريخ السياسي السوري الذي يرينا كيف تم منع الأحزاب و التفكير الجماعي و هذا المنهج للسلطة كان له دور باختيار مناهج التربية و التعليم السورية التي تشكل عائقاً أمام الإبداع وتحد من الأفق و التي أدت لانتاج سايكولوجية معينة لدى الطالب السوري أسست لبناء علاقة مادية مغلوطة بينه و بين العلم و المعرفة و الفكر (هذا الخطأ كان ذاته في ايران أيام عهد الشاه ).
في مرحلة ما في سوريا كان من الممكن تجاوز الطبقات الاجتماعية عبر الحصول على الشهادة فقط، ومنذ بداية السبعينات أصبح الإنسان الناجح هو من جمع العلامات التي تؤهل لدخول الطب بالبكالوريا و لكن للتذكير فإن البكالوريا السورية تعتمد أساساً على طريقة الحفظ الصم ( البصم بالسوري )، و ليس على التفكير و النقد.
و المناهج السورية لا تنمّي أي حس نقدي أو حرية تفكير أو ممارسة ديمقراطية. لذا فالمدرسة السورية هي المكان المثالي لإنتاج ديكتاتوريين صغار.. أسوق على هذا أمثلة كثيرة:
اللباس الموحد شبه العسكري، الانضباط الصارم ،الذي يمنع النقاش، ظهور الطالب المخبر بالمدارس.
من جهة أخرى المدارس السورية التي لا تسمح بالاختلاط بين الجنسين، والتي تجعل من الرجل بعبعاً في عقل المرأة و تنمي ذكورية الرجل الذي تصبح الانثى بالنسبة له كائناً مجهولاً خرافياً.
عدم الاختلاط هذا يؤسس باكراً للديكتاتورية في النفوس، وكما هو معروف فإن الاختلاط يغني النمو النفسي و الفكري لدى الطالب، و يخفف من العنف الذكوري و يحد من ديكتاتوريته.
الطالب الناجح منذ بدايات السبعينات هو الذي يدخل كلية الطب البشري، لأن هذه الشهادة تتيح له إمكانية الهجرة عن طريق البعثات الدراسية، و بالتالي العمل في الغرب، بالإضافة للمكانة الاجتماعية التي يحظى بها كإنسان ناجح و متفوق في وسطه السوري الذي يؤلهه غالباً.
تم إهمال كل قطاع فكري و إنساني آخر، وبالتالي لم تتطور جامعات العلوم الانسانية في سوريا و لم تجر أبحاث عن المجتمع والإنسان، و للمفارقة فقد بقيت الكلية الوحيدة التي كانت تقترب من هذه القضايا السياسية والاجتماعية هي كلية الشريعة.
كل الدول التي أهملت المجالات الأدبية و الإنسانية في هيكليتها التربوية وصلت لأزمة ما، و لكن في سوريا هذه الأزمة تفاقمت و أدت الى انعدام أي تفكير و تخطيط لمسألة تطوير المجتمع حتى في صفوف النظام ، ففي النهاية النخبة التي تعمل في صفوف المعارضة هي أيضاً من إنتاج المدرسة السورية ذاتها، ومن هنا يمكن النظر إلى حقيقة أن قيادة المعارضة و قيادة النظام يفكران في أغلب الأحيان بطرق متشابهة !!!
قد لا يكون النظام السوري قبل الثورة أسوأ نظام اقتصادي في العالم لكن إهماله التام للتفكير "بكيف " سيكون المجتمع بعد عشر سنوات و ما هي الاستراتيجية التربوية التي يجب اتباعها ؟ تلك هي النقطة التي أوصلت النظام الى نقطة اللاعودة فهو لم يفكر.
النظام السوري حالياً و بكل موضوعية لن يستطيع السيطرة لاحقاً على المجتمع بالبراميل و المعتقلات، هذا ليس حلاً لأزمته و أزمة المجتمع السوري و هي ليست حلاً لأي بلد في العالم في القرن الحادي والعشرين، لأنه لا يمكن الاستغناء عن لغة العصر كالانترنت و التلفزيون و تجاهل الاحتياجات الفكرية الجديدة للانسان و لا يمكن لأي نظام جديد ألا يأخذها بعين الاعتبار.
بينما نرى أن الاسلاميين قاموا بهدوء و على مهلهم في السراديب المغلقة ببناء رؤية، و نظرية لا علاقة لها بالرؤية العالمية للمجتمع و هي خطيرة عليه كالنازية و درسوا استراتيجية للوصول لها، ووجهوا نخبتهم المبرمجة للعمل عليها و طرحوها بقالب ناجح من وجهة نظر دعائية )ماركيتنغ) و وجدت الإقبال عند شعب لم يكلمه أحد عن همومه و مشاكله منذ عقود.
لم نر عند الشخصيات المثقفة التحديثية استراتيجية أو خطاباً لائقاً يقنع الجمهور و يشكل البديل عن الخطاب الاسلامي. لان "التحديثيين" في بلادنا هم مجرد أشخاص و لا يقبلون فكرة العمل الجماعي و هم نخبة تمتلك الفكر و الثقافة و لكنها لا تمتلك أية معلومة عن أسلوب العمل الجماعي و الذين يملكون منهم أدنى فكرة عن أسلوب البحث العلمي في مجال العمل الاجتماعي و السايكولوجي الانساني لم يقبلوا أن يضعوها في خدمة الجميع ، كل منهم نسى خبراته و علمه و توجه يبحث عن موقعه السياسي و عن المكاسب الشخصية. مما يدل على عدم فهمهم لمفهوم و فلسفة العمل بالشأن العام أو حتى الاقتصادي الاستراتيجي.
إن عدم خبرتهم بالعمل السياسي الجماعي التنظيمي الذي يجيده الاخوان المسلمين هو ما جعلهم ينظرون للنجاح كحالة فردية.
على المدى القصير، كان من الممكن أن يكون لدينا في سوريا مشهداً آخر لأحزاب منظمة جديدة بدماء جديدة و شباب متنور لم يعمل في السراديب و يعي ماذا يعني التحديث "لسوريا" للمفهوم العام ، لمفهوم العمل بالشأن العام و التطوع و لكن حتى الآن لم يتحقق مثل هذا الأمر، فالتيارات التي تشكلت كانت تدار، و ما زالت من قبل دول أو رجال أعمال، هؤلاء لا يعرفون العمق السوري و تعقيداته و لا يعون كمية النرجسية و الفردية المتطورة عند الرجال السوريين الذين ينظر إليهم اجتماعيا كناجحين و معروفين و بدل أن يطرح المفكر السوري مشروعه و يقنع الممول به يتم العكس:
يأتي الممول ويختار من بين أفراد المعارضة أحد المفكرين أو الوجوه المعروفة و يعطيه رأيه بالهدف بدون تعقيد. و يطلب منه ، أن ينظم مؤتمراً ليجمع من خلاله تيار أو حزب أو تنظيم ما جماعي و يركز على كلمة جماعي و هذا بهدف مواجهة الاخوان أو النظام أو الاثنين معاً، لإحداث نوع من التوازن، و لكن المعارض المفكر السوري المعروف يعتبر هذا تفويضاً خاصاً له برئاسة الجمهورية أو منصب ما.
قد يكون الممول غير سيئ النوايا و لو فكر المعارض المفوض قليلا لوجد أن ما يطلب منه ليس بالضرورة قذر و لا يتعارض مع حد أدنى من الديمقراطية و لكن فاقد الشيء لا يعطيه.
كيف لديناصور من القرن الستاليني أو لشخصية اجتماعية اعتبارية ضحية مجتمع مدمر، أن يقوم بعمل تنظيمي متعب و مضني و أن يضع نفسه فيه بمستوى الآخرين تماما طالبا منهم التفكير الجماعي و الابداع و الديمقراطية بالاختيار؟...
كيف يمكن أن يقبل الا يفرض أفكاره؟.. بل إن هذا يعتبر تنازلاً عن فرض ذاته.
كيف لمن عاش على إسناد المناصب حسب النسب أو الزبائنية أو العلاقات و ليس بالكفاءات و الخصال الأنسب أن يقبل بالعمل الجماعي؟...
هكذا يتكرر مشهد المحاولات الجادة و لكن غير الجامعة.
الموروث الثقافي - الذي خلفته لنا تلك البيئة السياسية القمعية - في الحقيقة هو العائق الحالي لجمع السوريين حول قضايا حساسة، و مع تكاثر الجهود و جديتها ، يبقى العمل غير مكتمل إلى حين تأتي لحظة النضج العام التي ستأتي حتماً و تؤدي لإنتاج حالة فكرية جديدة.
ربما فترة الأربع أعوام ليست كافية، و ربما حالة النضج التي ننتظرها ستأتي من جميع الأطراف السورية المتذابحة على السلطة، عندما يفهم البعض أن الفردية قاتلة وأن اللوبيات لا تتشكل قبل تشكيل الأساسيات المؤسساتية للعمل التنظيمي و للعمل السياسي الحر.

لمى الأتاسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون يعلن البدء ببناء ميناء مؤقت في غزة لإستقبال المساع


.. أم تعثر على جثة نجلها في مقبرة جماعية بمجمع ناصر | إذاعة بي




.. جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ


.. ما تأثير حراك طلاب الجامعات الأمريكية المناهض لحرب غزة؟ | بي




.. ريادة الأعمال مغامرة محسوبة | #جلستنا