الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات عبدالرزاق عبدالواحد

هديب هايكو

2014 / 12 / 1
الادب والفن



مقاهي وشعراء

كنت طالباً في الصف الأول من دار المعلمين العاليـة، يوم ألقى الجواهري قصيدته الهائلة {أتعلم أم أنت لا تعلم} في جامع (الحيدرخانة). كان ذلك عام 1947.
حتى هذه اللحظة ما أزال أذكر كيف انقطع شارع الرشيد من ساحة الميدان حتى ساحة الرصافي.. وفوق الرؤوس المحتشدة في الشارع، كانت مكبرات الصوت الممتدة الى الساحتين تنتظر.. وملء الشارع كان الناس ينتظرون.
كنت ممن حالفهم الحظ، فاستطاعوا الوصول الى الجامع في وقت مبكر.. إلا أنني حشرت بسبب الأزدحام الشديد خلف أحد الأعمدة في ساحته، ولم أستطع رؤية الجواهري وهو يتهدّج منشداً، لفرط ما التصقت الأجساد ببعضها. وكُتمت الأنفاس.. وبدأ طوفان صوت الجواهري: أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ؟ * بأنّ جراح الضحايا فمُ!..
منذ ذلك اليوم، ولمنطقة (الحيدرخانة) في نفسي جلال مبهم لم تخفف من هيمنته ألفة السنين الطويلة التي قضيتها بين مقاهيها بعد ذلك. الغريب أنّ هذه المنطقة انفردت من بين جميع أحياء بغداد ومحالّها بأن احتوت المقاهي الأربع أو الخمس ، التي كان يرتادها الشعراء والأدباء في تلك الأيام وأهم هذه المقاهي مقهى (حسن عجمي).
هرم من السماورات اللماعة ، تمتد قاعدته على جانبي الموقد، ثم يصعد متسلقاً حتى يكاد السماور الذي في قمته أن يلامس سقف المقهى. وأمام قاعدة هرم السماورات يمتد صفّ طويل من الأراجيل بألوانها المختلفة. وعلى مساحة مائة متر مربع تقريباً، التي هي مساحة المقهى كلها، تمتد التخوت بخطوط متوازية متقابلة، وبينها يتحرك {شفتالو} صانع المقهى القزم، حركته الدائبة التي لا تنقطع.
لا أظنّ أن أحداً من أدباء بغداد لم يسمع بمقهى حسن عجمي، أو لم يدفعه الفضول للجلوس فيها. إنها تذكرني دائماً بمقهى زقاق المدق في القاهرة !. كما أظنهم جميعا ًيعرفون مقهى (الرشيد)، ومقهى(البرلمان)، ومقهى (خليل )، على قلّة ارتياد أدباء الخمسينات لهذا الأخير.
هذه المقاهي الأربع أو الخمس، إذا أضفنا إليها مقهى (الزهاوي)، تقع جميعها في منطقة الحيدرخانة.. تقابلها (البرازيليتان)، مقهى البرازيلية الشتوي في شارع الرشيد بين {سيّد سلطان علي} ومحلة {المرَبْعة} ومقهى البرازيلية الصيفي، كما كان يسمى، ويقع في الباب الشرقي. المقاهي الأربع الأولى كانت تلتقي فيها الغالبية العظمى من الشعراء: رشيد ياسين، بدر السياب، محمود البريكان، أكرم الوتري، وحسين مردان.. ثم الجيل اللاحق من الشعراء: سعدي يوسف، كاظم جواد، محمد النقدي، موسى النقدي، رشدي العامل، راضي مهدي السعيد، زهير أحمد، كاظم نعمة التميمي (شاعر بصري ولد في ميسان وتوفي في بغداد)، وعبدالرزاق عبدالواحد. أما البرازيليتان، فكان يلتقي فيهما بلند الحيدري، وعبدالوهاب البياتي، والقاص عبدالملك نوري، والروائي المعروف فؤاد التكرلي، والأديب نهاد التكرلي. الوحيد الذي كان يتأرجح بين الجهتين هو بلند الحيدري الذي كان غالباً ما يُرى فيهما معاً في اليوم نفسه!.
مقاهي الحيدرخانة كانت شعبية مكتظة، كثيرة الحركة، شديدة الضوضاء.. يتخلل لغطها صياح باعة الحَب، والسميط، والسكائر، والصحف اليومية .. بينما تتمتع البرازيلية بالهدوء، وبمسافات مريحة بين الجالسين، وبإطلالة مترفعة على الرائحين والغادين في شارع الرشيد من خلف واجهة زجاجية شديدة اللمعان.
لم يكن الفرق بين المجوعتين فرقاً مظهرياً.. لقد كان فرقاً "طبقياً" إذا جاز التعبير. لقد كان لكل فئة من هذه المقاهي سلوكها الخاص.. مثلاً أنت لا تستطيع أن تدخن الغليون في مقهى حسن عجمي دون أن يلتفت اليك باستغراب معظم الجالسين!. وبنفس الدرجة، لا تستطيع أن تدخن الأرجيلة في البرازيلية حتى لو جلبتها معك من البيت!.. أما ثمن الجلوس في مقاهي الحيدرخانة فعشرون فلساً، يقدم لك مقابلها شاي عراقي صميم، باستكان مذهّب!. بينما ثمن الدخول في البرازيلية خمسون فلساً.. تتناول مقابلها فنجاناً من القهوة التركية، او شاياً بالكوب على الطريقة الأوربية!.
الوحيد الذي كان يشكل علامة فارقة في المقاهي الأربع الأول هو الشاعر أكرم الوتري الذي كان من عائلة شبه مرفهة، ولكنه، وربما لسبب شعري محض، كان ملازماً لمقاهي الطبقة الفقيرة التي كانت تغص بالمفاجآت والأحداث المثيرة، بقدر ما كانت تغص بالشعر الحقيقي، وبالمحاولات الجادة لتطوير القصيدة العربية، وإغنائها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس