الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تسييس محاكمة مبارك وعصابته

خليل كلفت

2014 / 12 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان



1: يؤدى التركيز على الحلقة الأخيرة مما سُمِّىَ بمحاكمة القرن، أىْ على المحكمة وقضاتها، إلى شيء غريب: صدمة هائلة لدى قوى الثورة الشعبية، ولماذا؟ لأنها ظلت تتوقع الحكم بالإدانة، ولكنْ لماذا توقعت أن يكون الحكم بالإدانة بعد أربع سنوات من تجربتها مع النظام، وتيقُّنها من أن القضية مطبوخة؟ طبعا لأن المحكمة الأولى حكمت على مبارك بالسجن المؤبد. أىْ أن المحكمة الأولى خلقت عند قوى الثورة أملا فى نزاهة محكمة الإعادة، فلم يَعُدْ من المستبعد أن يكون الحكم الجديد نزيها أو أكثر نزاهة بأن يُقرّ الحكم السابق أو يشدِّده.
2: والقاضى يحكم بالورق، كما يُقال، ومع أن الورق واحد فقد حكم القاضيان بحكمين متناقضين أحدهما بالمؤبد والآخر بالبراءة. ويعنى هذا أن القاضى يحكم بالورق وبشيء آخر، أو أشياء أخرى. أىْ أن القضاة يتقيدون بالورق ولكنْ من خلال تقديراتهم الشخصية التى يمكن أن تختلف وحتى تتناقض، مع الالتزام الكامل بالقانون. وهنا منفذ لأمل يصدم الناس أنه لم يتحقق ومن حقهم بالتالى أن يُصدَموا باختلاف النتائج الفعلية عن النتائج المتوقعة، لأنه كان من غير المستحيل أن يكون قاضى إعادة المحاكمة أكثر تشددا من القاضى الأول، خاصة فى تصورات أُناس يقتاتون على الأمل وعلى الوهم.
3: ولم تكن النتائج المتوقعة وحيدة الاتجاه، فهناك شيء آخر قد يرجِّح كفة البراءة وقد يرجِّح كفة الإدانة. وكان هذا العامل بالغ الأهمية إذْ كان الاتجاه العام هو انعدام الثقة فى الحكم الجديد وبالتالى الخوف من التسييس، وكان التسييس المتوقع هو تدخُّل الرئاسة لفرض البراءة. وكان التسييس المتوقع يُضعف بصيص الأمل الباقى فى أن يكون القاضى الجديد مماثلا للقاضى الأول على الأقل فى تقديراته أىْ فى طريقة فهمه للورق.
4: وكان هذا يفتح بابا للنقاش: مع أن التسييس وارد جدا ففى أىّ اتجاه سيكون؛ بمعنى هل الرئاسة مع الإدانة أم مع البراءة على أساس تقديرها لمسألة أيهما سيكون لصالح الرئاسة: الإدانة أم البراءة؟
5: والآن، بعد حكم البراءة، يبرز اعتقادان متناقضان لدى الناس: اعتقاد بأن التسييس الرئاسى كان مع تبرئة القيادة السابقة على أساس أن الرئاسة الجديدة امتداد لنظام مبارك، واعتقاد آخر بأن البراءة ضد مصلحة الحكم الجديد وأنه لصالح الإخوان المسلمين، فكيف يكون التسييس الرئاسى لصالح البراءة فى هذه الحالة؟ ويقود اعتقاد أن التسييس يكون فى شكل أمر رئاسى "من تحت الترابيزة" بإصدار حكم البراءة إلى الغضب الموجَّه ضد الرئاسة. وينطوى هذا على اعتقاد لا مبرر له بأن المحكمة كانت تتجه إلى الإدانة وأن التسييس فرض عليها البراءة على غير إرادتها. وفى كل الأحوال يجرى فَهْم مسألة التسييس وعدم التسييس هنا بكل هذه السطحية.
5: والحقيقة أن تسييس القضاء فى هذه القضية جزء لا يتجزأ من تسييس مؤسسات الدولة ومنها القضاء فى مصر، وعلى هذا فإن البحث عن التسييس لا ينبغى أن يقتصر على هذه القضية فقط، ولا على القضاء كله فقط. وبعد هذا فقط يأتى حديث التسييس فى هذه القضية، وسنجد أنها مسيَّسة بالضرورة بالمعنى الصحيح للتسييس، أىْ حتى إذا ثبتت براءة الرئاسة الحالية من شبهة التدخل، وبراءة المحكمة الحالية من شبهة قبول تدخل الرئاسة.
6: ويبدأ التسييس ليس من القاضى الأخير بل من البداية. ففى مصر توجد سلطة واحدة وحيدة هى السلطة التنفيذية، ولا فصل للسلطات، وتضع السلطة التنفيذية القوانين التى تلتزم بها هى نفسها كما تلتزم السلطة القضائية بتطبيقها، ولا يقوم المكتب التشريعى المسمى بالسلطة التشريعية من الناحية الجوهرية إلا بإصدارها. ولأن السلطة التنفيذية سلطة طبقية فى دولة طبقية فإن قوانينها ودساتيرها هى قوانين ودساتير الطبقة الحاكمة. وهذا هو التسييس الأول والرئيسى للقضاء عبر الدستور والقانون.
7: ويتمثل تسييس آخر فى حقيقة أن السلطة القضائية تخضع مباشرة للسلطة التنفيذية من أكثر من ناحية فرئيس الجمهورية هو رئيس المجلس الأعلى للقضاء، والدولة هى التى تشرف على هيكلة القضاء من خلال تبعية القضاء لوزارة العدل إحدى وزارات حكومة السلطة التنفيذية، أىْ أن فرض قوانين هذه السلطة على السلطة القضائية، وتبعيتها المباشرة للسلطة التنفيذية من خلال تبعية القضاء لوزارة العدل، يشكِّلان معا أحد الأسس الرئيسية لتبعية القضاء للدولة الطبقية وسلطتها التنفيذية.
8: وفى مجال تطبيق هذه القوانين النابعة من السلطة التنفيذية تتمثل سيطرة التنفيذية على القضائية فى واقع أن الأجهزة الأمنية للتنفيذية هى التى تُقدِّم أو تُخفى أو تزوِّر أو تطمس أو تفرم أدلة الدعوى القضائية، وتقوم النيابة التابعة للسلطة التنفيذية بتكييف القضية للوصول بها إلى تبرئة ساحة رجال الدولة أو إلى إدانة كباش فداء، حسب الأحوال. وهنا فقط يأتى دور القاضى وقد يبرز هنا فرق صغير أو كبير بين قاضٍ وقاضٍ. وإذا صدر حكم لا ترضى به التنفيذية فإنها تُعرقل تنفيذه أو تتجاهله.
9: ويحلم كثيرون بدستور يفصل سلطات الدولة بحيث تتوازن نسبيا ويكون من ثماره قضاء مستقل، وبرلمان مستقل. وهم يحلمون ويصدقون أوهامهم المتعلقة بدولة تقوم على الديمقراطية واستقلال القضاء. وإذا كانت الديمقراطية قد أثبتت طابعها الوهمى فى البلدان الرأسمالية المتقدمة فإنها تكون من باب أولى مستعصية فى بلدان الرأسمالية التابعة.
10: وإنما ينبغى العمل الدءوب فى سبيل ديمقراطية شعبية من أسفل، وينبغى العمل فى سبيل انتزاع هذه الديمقراطية ليس فى فترة الثورة الشعبية فقط بل قبلها وأثناءها وبعدها. وطالما ظلت قوى الثورة أضعف بما لا يُقاس من قوى الثورة المضادة فإنها لن تحصل على أكثر من مكاسب جزئية، وإنْ كانت الثورة الشعبية المصرية بالذات قد حققت لأسباب ظرفية واستثنائية مكاسب هائلة منها تفادى الحرب الأهلية وبداية معركة التحرر من شبح الدولة الدينية. وعلى قوى الثورة الشعبية بالتالى أن تطور قوتها الفكرية والشعبية والتنظيمية كشروط إلزامية لا مهرب منها لنضالات تُحقِّق أهدافا عقلانية، بعيدا عن أوهام استيلاء قوى الثورة على السلطة، أو الثورة على الدولة.
11: وتقوم الأجهزة الأمنية بإتلاف أدلة القضية وتقوم النيابة العامة بتكييفها بحيث لا تنتهى إلى إدانة المتهمين، وهذا هو ما ستقوم به النيابة على كل حال من جديد بعد طعنها على حكم القاضى. وهناك قبل كل شيء موقف القضاء والدولة إزاء هذا التكييف من جانب النيابة للقضية وكذلك موقف القاضى، الذى أملى حكمه، ولكل هذا جاء الحكم صادما للغاية فقوبل بالاحتجاجات الغاضبة من جانب معظم الشعب وشباب الثورة، ويحاول التنظيم الإخوانى الداعشى الآن أن يصطاد فى الماء العكر.
12: وقد اختارت الدولة ونيابتها العامة تكييف القضية على هذا النحو المعيب للغاية؛ فلماذا اقتصرت القضية على أسبوع واحد، من 25 يناير إلى 31 يناير؟ ألم يكن مبارك رئيسا لمصر طوال أكثر من عشرة أيام أخرى تواصل فيها القتل واشتدّ؟ لقد شاءت النيابة ذلك أو امتثلت لأمر من الأجهزة الأمنية التى أتلفت الأدلة، وأرادت إتلاف قرار الاتهام أيضا، لحماية مبارك وكبار رجال عصابته، وحماية قيادات هذه الأجهزة، وحماية نفسها للحيلولة دون أن تمتد المحاكمة إليهم من خلال التحقيقات والمرافعات وأقوال شهود الإثبات. وأغمضت الدولة عينها عن ذلك، أو بالأحرى قامت بالترتيبات اللازمة لذلك.
13: وقضت المحكمة بعدم جواز نظر الدعوى الجنائية بحق مبارك فى شأن الاتهام المتعلق بالاشتراك فى وقائع قتل المتظاهرين السلميين إبان ثورة يناير، وعللت ذلك بصدور أمر ضمنى بأنه لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية بحقه، وذلك بصدور أمر الإحالة (قرار الاتهام) الأول بإحالة وزير داخليته ومساعديه للمحاكمة قبلها بستين يوما. وعلى أساس هذه الحجة الغريبة التى تتجاهل أن ظهور مشارك جديد فى جريمة لا يحُول دون إضافته إلى قرار الاتهام صار من الممكن تفادى محاكمة مبارك على القتل. وعلى الأرجح استخدمت النيابة العامة هذه الحيلة عن عمد لتفادى إدانة مبارك على القتل فى محاكمة كانت محتملة له. فلماذا لم تقم الدولة بمحاسبة النيابة العامة على هذه الحيلة أو هذا "التقصير" منذ البداية حتى بمرسوم بقانون؟ إننا فى الحقيقة إزاء جريمة كاملة الأركان لمؤامرة لتبرئة مبارك ونظامه وعصابته.
14: والأهم أن الدولة التى ظلت تتغنى بالعدالة الانتقالية، اختارت أن تكون المحاكمة أمام القضاء العادى وأن تقتصر على وقائع الثورة وبالأحرى على وقائع أسبوع واحد فى بدايتها بعيدا عن المحاكمة السياسية لنظام مبارك طوال ستة وثلاثين سنة قضاها فى السلطة نائبا للسادات قبل اغتياله ثم رئيسا للجمهورية. وهذا تسييس أساسى للقضية تفاديا لمحاكمة الدولة بصورة شاملة تكشف أمام الشعب والعالم أسس وممارسات فسادها وإفسادها ولصوصيتها ونهبها لمقدرات البلاد واستغلالها الاقتصادى وغير الاقتصادى واستبدادها، وإدانة استبداد مؤسسات الدولة وأجهزتها ومسئوليها.
15: وقد بدأت احتجاجات واسعة فى الجامعات المصرية على حكم البراءة، وهناك محاولات إخوانية داعشية لتوظيف هذه الاحتجاجات الشبابية لصالح قضيتهم الخاصة المتمثلة فى دولة الخلافة الإسلامية. وأعتقد أن هذه الاحتجاجات ستكون قصيرة العمر للغاية، لأن السكوت الطويل على استبعاد المحاكمة السياسية، وعلى المحاكمة الجارية رغم ترجيح البراءة، وعلى البراءات والإفراجات المتواصلة لرموز عهد مبارك، لا يبشر بصحوة ثورية عميقة مفاجئة، كما أن المشاركة الإخوانية تُضعف هذه الاحتجاجات بشدة أمام السلطة وأمام الشعب.
16: ونجد فى التعليق السياسى لقاضى محاكمة الإعادة بعد تبرئة مبارك إدانة سياسية لعهد مبارك رغم البراءة، على العكس من قاضى المحاكمة الأولى الذى رتب على إدانته لعهد مبارك حكما بالسجن المؤبد عليه. وحيث إن الإدانتين بعيدتان تماما عن المحاكمة السياسية لنظام مبارك فقد كان جديرا بالقاضيين أن يرفضا القيام بمقاضاة مبارك دفاعا عن استقلال القضاء، لعلمهما، ككل مواطن، بحقيقة أن قرار الاتهام ملفق ومطبوخ على أيدى الأجهزة الأمنية والنيابة العامة بوسائل مكشوفة، وكذلك فى ضوء استبعاد الدولة لمحاكمة نظام مبارك وفقا للشرعية الثورية وليس أمام القضاء العادى.
17: ويتمثل الموقف الصحيح فى اعتقادى فى المطالبة بإعادة محاكمة مبارك ونظامه وعصابته وفقا لمقتضيات العدالة الانتقالية والشرعية الثورية، ورفض أسس كلٍّ من المحاكمة الأولى ومحاكمة الإعادة، ورفض تسييس القضاء التابع وفقا للدستور والقانون والإدارة للسلطة التنفيذية، والنضال فى سبيل تحقيق مستويات من استقلال القضاء فى سياق نضالات الديمقراطية الشعبية من أسفل.
أول ديسمبر 2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي