الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زقنموت (رواية) 17

تحسين كرمياني

2014 / 12 / 2
الادب والفن


لوّحت البنت،هارعة هبطت،وجدها سارحة الشعر،لا تخاف،كأنه أصبح في تلك اللحظة كل دنياها،تقدمت بدلال،بنضج،جسده يرتعش،وقفت أمامه،بسمتها غير متكلفة،ثغرها يكافح،كلام نافع وجميل يخجل أن يندلق، واقف بـ باب الثغر،((ليت للثغر شبابيك وروازين ومنافذ تسريب الأبخرة والدخان))فكرة أضحكته،بحث عن تصريح،عن أذن يستوعبه،عرف(ماهر)أن بسمتها ثابتة،لا تحتاج جهداً أو مكراً أنثوياً لصناعتها.
قالت:
((انتظرتك حتى منتصف الليل.!))
وقف يبحث عن كلام يفيد أوّل تناغيات العشق،تحجر لسانه،شاب مسكين ترعرع في بيت دين،في بيت طين،لم يتدرب على لقاء الحياة السريّة.
قالت أيضاً:
((تعال إلى هنا كل يوم كي أراك.!))
وجد ريح شجاعة تمسح أرق المفاجأة..قال:
((أخاف عليك،بيتنا بعيد في الطرف الآخر من البلدة.))
((ومم تخاف..؟))
((من أهلك،من رجال الحكومة.))
((أنا مدللة،لا أحد يكسر خاطري.))
((أنت جميلة.!))
((كلا..أسمي ـ مهدية ـ))
((أسمك جميل.))
((وما أسمك..؟))
((ماهر..))
((يا للصدفة،أسمينا يبدءان بحرف الميم.))
((مصادفة جميلة.))
((أرجوك تعال دائماً،سأنتظرك كل يوم على سطح البيت.))
((أعدك أنني سآتي كل يوم.))
ضحكت وركضت عائدة.
مشى(ماهر)عائداً.
روحه خفيفة،جسده يرتفع،ليس مع ضجيج السائرين تحت يافطات تحتفل بالنصر،شيء ودود سكنه،يدفعه بسعادة غامرة،يكاد لا يصدق،علاج أرقه الليلي،الدبابيس الشاكة لمخه،لم يأت من طبيب مختص أو صيدلية خافرة،وليس من رقيّة أمّه أو تميمة من تمائم جدّه،ولا خلطة أعشاب يبتكرها دجّال.
فتاة،بريئة،تملك قلباً عطوفاً،تتجسد فيها مبادئ ثورة الجسد،تتطاير من عينيها أيديولوجية السلام والرخاء والعطاء،تمكنت من إخماد حريق لياليه.
غامضاً عينيه،أسترجع كلامها،تشبع جسده بـ شهيق الحرية،كائن جديد موفور الصحة،حطم باب الغموض، قطع سلاسل الخوف،عاد مترعاً بشجاعة نادرة،يداعبه حلم كبير يدفعه لتحرير العالم من كسله.
وحين عدت
من ملعب السرور
وجدت ضحكاتها حول سريري
حلماً يدور
بين طيّات دفتر أشعاري خبأتها
فضج ليل البيت بتغريد شحرور
قالت أمّي:
ـ في عينيك يسكن
ملعب النور،
قل لي..
ما هذا الجذل الصادح فيك.؟
ما هذا الورد المنثور.؟
حائراً
أفقت..
خائراً
سقطت..
في بركة خوفي
من غير شعور.!
***
تعلم(ماهر)فن الحب.
تعلم كيف يفك مغاليق نظرات الفتيات،كل تلك الحلول هبطت عليه فجأة،(مهدية)أشعلت هذه النار،حررته من قيود الغباء،من كوابيس الليل،من وهم الشعر،من ضجيج أبالسة السأم،وعنجهية زمن يتغامض،صارت شمسه التي تشرقه بيوم الفرح،شعره الضائع في فوضى العالم.
بدأ(ماهر)يعتني بمظهره،أمام المرآة الوحيدة،بحجم الكف،كان والده يضعه على صفيحة زيت فارغة ويطيح بلحيته كلما نبت بطول سنتمتر واحد،اللحية في الجيش ممنوع،أنه زرع الشرع،ونور الآخرة،عكس لحيّة جدّه الثلجية،المتهدلة كـ حشيش لم تمر عليها منجل القص.
صار يصرف وقتاً طويلاً،يحدّق في نفسه،مسامة مسامة يحرث بعينيه أديم سحنته،يعيد غسل(كفشة)رأسه عدة مرات،يفرك وجهه بصابون(عطور)كونه يعيد طراوة الوجه ونقاوتها من البثور ودمامل الدهون،أستلم تلك المعلومة من دعاية تلفازية تغري الناس بترك صوابين العالم وشراء صابون(عطور)،صار يبدل قمصانه، يجتهد لتنسيق مظهره،رصدته أمّه..قالت:
((الولد بدأ يهتم بنفسه.!))
((يا أمي أصدقائي يعيبونني.))
((أنت أجملهم.))
((يجب أن أكون كذلك.))
تركها وخرج.
صاحت:
((تناول فطورك.))
((لا أشعر بالجوع.))
توجه صوب زقاقها.
لم يعد يرغب بمواصلة الدراسة،كل شيء صار(مهدية)،العالم،حياته،مستقبله،حتى الحرب التي بدأت لم تعد تشكل سوى قلامة ظفر من أظفارها،كل بلاد لن تشكل شيئاً يذكر أمام عاشقة،تغدو البلاد موطناً هامشياً، طالما الأنثى الموطن الأصيل للبشرية،هي الحاملة والمنجبة والمرضعة والمربية،تحترق وتسهر،تطبخ وتغسل وتكنس،قبل أن يتم تحويل ملكية الأبناء بالكامل إلى ولي الأمر(الكبش)حاملين أسمه في كل محفل،في الأوراق الثبوتية،في(هويّة الأحوال المدنية)،في(الشهادة الجنسية)،في(الجوازات)،في التنادي بين الناس،(أبو فلان)و(أبو فلتانة)،رغم علم الناس أنهم يخاطبون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم،في حياتنا الفانية كل واحد يعرف أبيه،يخرج ليجد وجهاً بـ شارب يفرح بقدومه،يتآلف معه،يعلموه كلمة(بابا)،في(يوم التناد من مكان قريب)،لا يعرف المرء أبن من هو،فقط يعرف(المخرج)الذي قذفه خارج الرحم.
يقول العلم الحديث،يتشكل الجنين من مجامعة أو من ملامسة أصابع المرأة في أسبوع اللقاح بذرة ذكورية ساقطة على فاكهة في دكان بقّال،أو على ملابس في محل،أو على مقعد في مركبة،أو لحظات الاستحمام وهي تغسل ملابس ذكورية،مدججة بالحيامن،للأخوة والأبناء،وربما في فندق أو مستشفى،نطفة فارة من جحيم الصلب،تلتصق بأصبع امرأة،تدفعها بجنون لتحك منطقة الوطن المؤقت،أنها تفر من السجن بحثاً عن ملاذ آمن،بحثاً عن الحرية المزعومة،فتنمو وتغدو كائناً واقعياً يمتلك أباً مشكوكاً وأم معلومة.
يمكن للمرء أن يعيش بلا بلاد،في الغربة يجد الكثير سعادات لا تنقرض،ولكن الصعوبة تكمن أن يعيش إنسان ما من غير نصفه الضائع،الضلع المخلوع،ممكن أن يهاجر المرء بلاده،وأينما يعيش لابد من أنثى تقيم له وطناً.
المصريون قالوا الحقيقة في جملة مفيدة،حين تسأل مصرياً:
((فين بلدك.؟))
واثقاً يرد:
(إللي فيها مراتي.))
الحب زمن الحروب نعمة تقهر كل مفاصل الخوف،تعلم العاشق أفانين التخلص من شراسة القنابل،من هاجس عفونة الواقع،من برودة الموت.
(مهدية)نعمة جاءت في وقتها المحدد،وطن مترجل،يمكنه أن يحمله معه أينما تلقيه الأوامر،دراسته بعد سنوات من الإخفاقات المتواصلة لم تعد تشكل مستقبلاً متواضعاً له،لم يجد وازعاً يغريه أن يستوعب الدروس،وجد خياله مدرسته القادمة،دائماً ينفلت بشرود سعيد،ليسكن عالم متشرنق،مكافحاً ينهمك لفك اشتباكات الأمور،قريباً سيناديه الوطن،إلى آتون المحرقة،جندي مكلّف صغير،سيكتشف بعد حين أن أشعاره باقة(كلام فارغ)،لا تقيه من رصاصات العدو.
في الحرب يمكنه أن يتسلى بذكرياتها،فالشعر عدو الحروب،الشعر الهابط من رأس ثائر،رغم أنه كان وسيلة تعزيمية لنفخ رؤوس الرعيان ليستأسدوا في حروبهم القبلية،أو توهيم فتاة ناضجة فيها تستعر شهوة ورغبات، لإسقاطها في بئر(الحدث الأكبر)،هناك في الحرب،ستتحول كلماته إلى سلاح رادع لا سلاح خادم.
حب(مهديّة)ساتر،سيلوذ به ليقاوم مطر الموت القادم.
وصل زقاقها،كانت الساعة تهدر في ذهنه،ساعة الدخول إلى الصفوف،لابد أنه غائب أيضاً،مرة أخرى سيتم استدعائه إلى الإدارة،ربما الاستدعاء الأخير،سيجلسه(المدير)،سيحاول فك عقدته النفسية،سيرخي حبل حكمته شيئاً فشيئاً،سيروِّض نفسه كما كان يروّض الكلمات لقولبتها ضمن قافية ملائمة،رغم تكرار مثوله المتواصل أمامه،لم يمل من محاولة فك مغاليق قلبه،كان يدرك أنه يعاني من هوس الشعر،لذلك كان يجعله بمثابة أحد أولاده،كان المدير شاعراً متيماً بالشعر،يتذوق القصيدة بحلاوة تذوق السكر،يعطي الطلاب دروساً في فن العروض،حصة دروس غير مقررة منهجياً،كلّما تتوفر دروس شاغرة،يترك الإدارة،متلهفاً يلملم الطلبة من الساحة،يبدأ بقراءة قصائده،ويطلب منهم قراءة بِراز أقلامهم.
في صباحات(الخميس)يقرأ(المدير)قصائده،مشعلاً في قلب(ماهر)نار الغيرة لقول الشعر،ظلّ ميّالاً له،يواصل تطبيبه من ملله الدراسي،راسماً له كل أنواع دروب المستقبل الزاهر.

[مرة قال:
((ماهر..أنت شاعر،لا يكتب الشعر إلاّ من اكتوى بنيران الحب.))
((أستاذ أنا لا أحب.!))
((ليس بالضرورة أن تكون مرتبطاً بواحدة،أنا لا أحاسبك،بل أريد منك أن تكون ماهراً في دروسك كما أنت ماهر في الشعر يا ـ ماهر ـ ))
((أستاذ لا أعرف ما السبب،أنا أكره الدراسة.))
((ستموت لو فكرت بهكذا طريقة في الحياة،مثلما تموت السمكة حين تخرج من الماء،الشاعر سمكة المدرسة ماء.!))
((ما العمل.؟))
((يمكنني أن أساعدك في أي شيء.))
((طلبي الوحيد منك أن تتركني أستاذ.))
لم يرصد فيه مللاً،كان يرمقه بنظرات حنونة،أحياناً يجده ناحتاً بصره فيه،من غير أن يشعر أنه يبتسم له ،ظلّت فكرة ترك المدرسة تنمو،حتى وجد فرصته الخالعة.]
ها أنني أتغيب مرة أخرى.!(قال لسانه)
خائفاً يمشي،عيون الناس لا ترحم،وجد الصباح ساحة ملغومة بالصمت،من بعيد لمح سطح البيت،لم يجد (مهدية)،أنقبض قلبه،سواد لوّث لون العالم،حاول أن يكون أكثر تماسكاً،مشى،قدمه يضرب قدمه،وقف عند الدكان،كانت خلفه المركبات تمرق بـ مضجة،أعلام البلاد تصفق فوقها،تحرر عبر مضخمات الصوت أناشيد صاخبة،لم يحتمل فوضى الدجل المستشري بين الكثير من الناس،فكر أن يعود،قبل أن تفاجئه قادمة نحوه.
مبتسمة تمشي(مهدية)،كان هو يرتجف..قالت:
((توقعت مجيئك.))
((فكري مشغول بك.))
بسمة(موناليزية)ترتسم على ثغرها،قلبه ينبض كـ ماكينة طحن الحبوب.
قالت:
((تعال وراءي.))
تبعها.
تمشي بهدوء،جسدها يتمايل كغصن تحت رحمة نسمة عذبة،يتلفت(ماهر)ما زال الخوف يرافقه،وصلا زقاقاً خالياً،اخترقت ممراً شائكاً من القصب وأغصان الصفصاف المتهدلة،وقفت تنتظره،بغريزة لا تخطأ عرف نيتها،صار معها،فجأة طوقته،يدان لا ترحمان التفتا حول عنقه،لم يبد عدوانية أو شيئاً من التمرد،أستسلم لعنادها،أمطرته تقبيلاً،شعر بشيء من الشجاعة،شاركها فرحها،قبل أن تنسحب لتستغرق في بكاء صائت،لم يمتلك حيلة لوقف بكائها،احتضنها وأمطر وجنتيها بقبلات نهمة،قبل أن تدفعه بيد ويد تمسح دموعها.
قالت:
((ما العمل يا ـ ماهر ـ أرجوك ساعدني.؟!))
((ما الذي حدث يا ـ مهدية ـ .؟))
((خطبوني.))
((لا..لا..أنت تمزحين يا ـ مهدية ـ))
((كلا..ليلة البارحة ظهر لنا عم من ـ المريخ ـ يريدني زوجة لأبنه.))
((سأهرب بك إلى آخر الدنيا.))
((أنا جاهزة يا ـ ماهر ـ خذني قبل أن أمت أو أحرق نفسي.؟))
((أرجوك يا ـ مهدية ـ حاولي أن ترفضيه.))
((ما العمل..؟))
((حاولي أن ترفضيه،ألست مدللة البيت.؟!))
((لم تنفعنِ دلالي.))
((أرفضي.؟))
((لن أستطيع.))
((وما العمل.؟))
((لم لا نهرب.؟))
((أين نذهب،البلاد كلها ستغدو ساحة حرب،سور البلاد مقفلة بالجنود.))
((ألست كوردياً.؟لنهرب إلى الشمال.))
((الشوارع صارت مكهربة بالأسلحة.))
((وما العمل.؟أنا أحبك يا ماهر.!))
صمت.
وقفا لبضع دقائق أُخَرْ قبل أن تنسحب،رآها مطأطئة الرأس،حائراً ينظر إليها،مكتوف اليدين،لسانه لم يعد يقتنص الكلمات المناسبة،عيناه ظلّتا عدستان بلا روح،جوفه يتفاعل،أحشائه تصرخ:
اللعنة على العالم كلّه،شرقه وغربه،شماله وجنوبه.(قال لسانه)
مشت بضع خطوات،استدارت،رأى دموع العالم كلّه متوقفاً ينتظر تصريحاً من لسانه كي يندلق أو يتحجر، فقد توازنه،تضببت عيناه،استدار وهرب.
في غرفته تحطم سد ذاته.
لم يجد مسوغاً لمواصلة البحث عنها،قالت صريح كلامها،صارت خارج أفلاكه العاطفية.
حب وامض،أغنية سريعة نضجت،سريعة رحلت.
نطقت في السكون
همسة رحلت وتركت فيَّ الجنون
حرب خبيثة قذفت من عالم المريخ عم مدفون
جاء يأخذ قمري الحنون
ما عاد النوم يصالح عيوني
تحجرت جفوني
يا زمن يا ملعون
قلبي محزون
ما قيمة كفاحي الحرون
بعدما فقدت في أوّل الدربِ
بنفسجي المكنون.!
***
أعددت لها أجمل الألحان
حجزت لها منابع النور
يوم المهرجان
أماتت في المآسي والأشجان
تهيأ القلب لدحر عربة أحزاني
مذ تعاشق وجدانها بوجدان
في أول الامتحان
سقط الحلم
وتوقف نشيد الزمان.!
***
ما بين نومي وسهري
خاصمني قدري
بعدما رحل عمري
سأحفر بمعول الشعر قبري
هكذا قرّ أمري.!
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل