الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميّات ميونيخ العجوز

كمال العيادي

2005 / 9 / 1
الادب والفن


1- أرباع المثقفين من منظور السيّد - يُوَآخِيـــــــــن-

لم أره في يوم من الأيّام منفعلا كما هوّ هذا المساء الممطر. طلب كأسا أخرى وهو يتلمّظ مرارة الكأس السّابقة وأكمل حديثه الذي قطعه التصفيق الحاد من طرف المبحلقين بذهول في جهاز التلفزيون الذين صاحوا فجأة صيحة رجل واحد, على اثر تسجيل الفريق الأيمن للهدف الثاني ضدّ الفريق الأيسر الذي يرتدي قمصان حمراء قانيّة ويطارد بذعـــر كرة بيضـــاء من الجلد المنفوخ بالــهواء.

- أنظر إليهم, إنهم زبائن مقهى الأنسويفايتا, المقهى المشهور في كلّ أنحاء مونيخ بأنّه مقهى المثقّفين. انظر إليهم لتفهم ما أريــــــد قوله. ثقافتهم, كرة القدم والمسلسلات التافهة والبرامج المسلّيّة والمسابقات التي تربح فيها عجوز شمطاء مليون أورو لمجرّد أنّها تعرف بأنّ الهند بلد ينتج التوابل ويقع بقارة آسيا. وآخر يربح الأسبوع السابق عشرة ملايــــين أورو لأنّه يــعرف أن ستالين اسمه الأوّل يوسف, وبأنّ – لايكة- هيّ أوّل كلبة هجينة بيضاء تصعد قبل الإنسان للقمر دون أن تطأه للأسف الشّديد! وبأنّ العنقـــاء طائر خرافيّ عملاق قادر على ابتلاع قطيع من الفيلة. هؤلاء هم أحفاد نيتشه وكانط وبشلار وفرويد وفولفغانغ غوته وليركه وانشـــتاين.

إنّهم أرباع المثقفين, الفيروس القاتل الذي يتربص بألمانيا وبكلّ أوروبا. فيروس مستورد من بلد الكاوبوي أمريكا الــــــعاهرة. إنّهم يسيطرون الآن على الرّكح الاجتماعي, يعيشون حياة هنيئة. ذلك أنّهم يتلذّذون عدم قدرتهم على التركيز على أيّ شيء من الأشياء. يحسبون أنّ عدم قدرتهم على فهم ما يجري ميزة يفتخرون بها. يعتقدون أنهم الأصل. ويجدون حلولا سريـــــــعة ومجديّة للمشـاكل الآنيّة. اليوم خمر, وغدا سنوجد حلا وقتيا للأمر. وإذا تعذّر ذلك فسنوكل الأمر لأبناء العم سام, بعد لــمجة دسمة من الهامــــبورغ .

يحلّون ألغاز جداول المواعيد ويتعاملون بكفاءة مع الأوراق النقديّة وبطاقات البنوك البلاستيكيّة. ينســجون كالعناكب شبكات معقّدة من الضّمانات, تحميهم من كلّ إمكانيّة لمراجعة النّفس أو حتى مجرد الشعور بالذّنب. ومن المستحـــــــيل أن تراهن الآن على الأقل بفشلهم وسقوط قلاعهم. لسبب بسيط ووجيه, وهو أنّهم يتحرّكون داخل محيط منيع مكوّن أساسا منهم هم أنفسهم. أربــــاع مثقفين أنتجوا أرباع وأسداس وأثمان مثقفين لإدارة البلاد وحال العباد. عزّزوا مواقعهم بأمثال ممسوخة منهم, بطريقة التطابق لغاية محق آليّة الاختلاف, يتشابهون مثلما تشبه البيضة بيضة أخرى. وأمسهم تأكيد قاطع لثبات يومهم ومراهنة على مشروعيّة سكون غدهم.

ينادونك لمصلحة العمل, وحين تبرز بحماسة, لفتاة في الثامنة عشر من العمر و مغمّسة حدّ الإبط في الأصباغ, شهائدك الجامعيّـة

والوثائق التي تؤكّد خبرتك الطويلة ومستواك الأكاديمي الرفيع, تجيبك بأن سوق الشغل كاسد, وبأن لديها وقـتيا وظـيفة بـائع آلات كهربــائية, بمرتــّب محــترم وضمانات اجتماعيّة مغرية جدّا, أو تعرض عليك وظيفة مراقب مخازن بشركة لصنع معجون الأسنان !

هؤلاء هم أرباع المثقفين, الثمرة الفجّة لغبار التطوّر الصناعي الأعمى, وواقع اقتصادي لم تعد مشكلته الرئيسة الانتاج و الانتاجية وإنّما البيع السريع, البيع المربح. لم تعد القضيّة ايجاد بنية منظمة ومؤطرة بأطروحات علميّة للتوازن ولكن المشكلة انـحصرت في أذهانهم المجفّـفة في ايجاد مستهلكـين أكفاء, مخلصـين وينتمون أيضا لقطيـع مدرسة الأرباع والأسداس. أرباع وأسداس المثقفـين.

سألت السيّد يواخين, مازحا: - حدّثتني عن أرباع وأسداس المثقفين, فماذا عن الأنصاف؟ أنصاف المثقفين يا عزيزي يواخـــــين؟؟

نظر ممتعضا إلى كأسه الفارغة وأجابني : - هم نحن, أنا وأنـت, الذين يجالسون الأربــاع بوعي ولكنّهم يـتـذمّرون عـلى كـل حــال.

وحـين لاحظـت بوادر الـمرح تـرتسم عـلى قـسمات وجهه البافاري النحيل سألته: - وماذا عـن المثقفين الكاملين إذن ؟أين يجلسون؟

أجابني وهو يهمّ بدفع الحساب استعدادا للمغادرة: - هل تعتقد بأن لديهم الوقت الكافي والمزاج المناسـب للجلوس لأجنبي مثلك, قادم من بلد ثلاثة أرباع سكانه من البربر وثلاثة أرباع أخرى من العرب, أم إلى بروفيسور فلســفة أحـمـق اسـمه السيد يوآخين ؟!

2- النّادلة كريستينا تغازل الشّاعر هانس ماغنوس :

دفع السيّد يُواخين وانسحب دون أن يودّع, كعادته, واستغرقت في كتابة قصيد عن ذئب جريح يحلم بذئب آخر صديق, يلعق جراحه ولا يفكّر آخر اللّيل بافتراسه. بعد ساعة انتبهت إلى كريستنا النادلة التي تعد منذ عشر سنوات رسالة التخرّج, وكأنّها تتحرّج من التخرج, أعرف أنّها تدرس مادّة الآداب والفنون الحديثة, انتبهت أنّها مستغرقة بعمق في تقطيع أحد المقاطع, ولم أكد أسألها عمّا تكتب, حتي همّت بي بحماستها المعروفة حين تغرق في حبّ شاعر جديد من الأموات حديثا.

- هل سمعت عن الشاعر هانس ماغنوس انزانسبرجر ؟ سألتني, وحين أجبتها بالنفي, رغبة في التخلّص من سماع محاضرة بعد السّاعة العاشرة ليلا أجابيني, إنّه أهمّ شاعر ألماني وبافاري معاصر يعيش بمدينة مونيخ, وهو أحد أكبر الشعراء العمالقة المغمورين. ألم تقرأ له قصيد – دفاعا عن الذّئاب ضدّ الخرفان- ؟ ولمّا أجبتها بأننّي انتهيت حالا من كتابة قصيد بلغتي العربيّة عن الذئاب قالت لي ببساطة, إذن مزّقها والكأس القادمة على حسابي الشخصيّ ولكن بربّك اسمع ماذا يقول :

هل تنتظرون من الطّائر الكاسر أن يتغذى من أذن فأر فقط ؟

هل تنتظرون من الضبع حقّا أن ينسلخ من جلدته؟ ومن الذّئب أن يقتلع أنيابه؟ …..

من الذي يخيط غيركم شرائط الدم المراق على بنطلونات الجنرالات….

كثيرون حقا, هم أولائك الذين سُرقوا, وقليلون هم اللّصوص….

قطع صراخ – هانس فيبر – على كريستينا حماستها, مذكّرا إيّاها بانزعاج شديد بأنّه طلب بيرة بيضاء منذ أكثر من ربع ساعة. فراحت تعدّل من انحراف قميصها البنيّ وتعتذر بهمهمة للسيّد هانس, صديق صاحب المقهى, والبغل الوحيد الذي يحتفظ بحق الصراخ في وجوه النّادلات, حتّى بعد كأسه التاسعة وهذه مرتبة لم يصلها زبون في يوم من الأيّام بمن فيهم صاحب المقهى نفسه.

حين أكملت كريستينا تلبيّة كلّ الطلبيّات المتأخّرة, واطمأنت كربّان سفينة بيزنطيّة يتفقد بحارته وجنوده بإدارة بركار رقبته, عادت لتسألني وهي تلهث, كمن ضبط وهو يمارس العادة السرّية. أين كنّا, سألت ؟ أجبتها أننا لم نغادر المقهى منذ عشر سنوات. وأكثر.

3- مع العزيزة حنان الشيخ !

استيقظت صباح الجمعة وبي عطش لقراءة نص مختلف, وشعرت بالضيق حقا وأنا أتجسس مؤخرات كتبي المصفّفة بعناية كجنود خاملة لا ترغب في الحرب. ذلك أنّ زوجتي الألمانيّة الشقراء التي أجبرتــني منذ سبــع ســنوات على مدّها بصنف كلّ كتاب ومؤلفة وموضوعة, نقد حديث, روايات, دواوين, مجموعات شعريّة, قصص, فلسفة, تاريــخ, أدب الرحــلات, مسرح, سينما, ....فــــنون, لغات, مجلات مهمّة, كتب مراجع, كتب أمّهات, كتب دينيّة, كتب موسيقيّة, كتب في التراث, الحضارة, قواميس. كـلّ لغة على حــده.

وبعد أن لطّخت ظهر كلّ كتاب برقم أسود على طريقة الألمان الخاصة جدّا, وأصبح في إمكانها بهذه الطريقة الماكرة إعادة كلّ كتاب إلى موضعه بعد أن أخرجه وأرجعه متعمّدا, في غير موضعه, طمعا في عنصر المفاجأة ولذّة البحث اليوميّة وهي فترة كنت في أشـد الحاجة إليها أحيانا لترتيب أفكاري المبعثرة بين الفواتير والمقالات الصحفيّة المطلوبة بدقة ومقاسات مزعجة. و رغم جهلها للــغــة الفرنسيّة والروسيّة والعربيّة فلم يحدث أن بات كتاب في غير موضـعه. وهو ما كــان يشعرني بالقــرف والغربة مع أصدقائي الذيــن ضحيت بالكثير من أجل جمعهم عند رفوف خشبيّة متشابهة بغرفة مكتبي الضيّقة. آملا أن أبعثرهم يوميا لممارسة لعبة الغــميــضة .

سبـع ســنوات وأنا أشرح لها مرضي كلّ يـوم وهي تعيد محــمود درويش إلي قسـم الشعر السياسي وبولــغــاكوف إلى قـسم الرواية الغـرائبية. و بوشكين إلي قسم الشعر الكلاسيكي الوسيط. سبع سنوات من اللهاث. لا هـي تعبت فاستراحـت ولا أنا رضـخـت فأرحـت.

ولأنني كنت وحيدا هذا الأسبوع لأنّ قيزيلا زوجتي الغير رسميّة أخذت ابنتي الرسميّة ياسمين, لشواء جلودهن تحت شموس ايطاليا فقد قررت النزول إلى المخزن السفلي حيث مقبرة كتبي التي لم تجد لها مكانـا مناسبا بالــرفوف, رغم أنني أقوم بإهداءات حاتــمــيّة للأصدقاء والمنظمات العربيّة, خوفا من تلفها. نزلت المخزن متلهّفا ورحت أبعثر بساديّة كرادين الكتب العربيّة, ابن عربي, سـميح القاسم, طاغور, ادغار آلان بو, دستيوفسكي, كانط, إصدارات دار الساقي, إصدارات دار الجمل, نجيب محفوظ, يوسف ادريس, طه حسين, الف ليلة وليلة, الطبري, ابن الأثير, الجاحظ….مئات الكتب التي ارغب في حملها معي جميعا, ولكــن لا رغـبة لي اليوم فـي تصفّحها. ظللت أبعثر الكتب في توتر حتى طالعني وجه حنان الشيخ اللبناني الأصيل مقلوبا. عيناها الواسعتان مثل فنجان قهوة يمنيّة

شعرها الأسود الفاحم ورشمة شفتيها مثل طائر غائر في السماء. قلّبت الكتاب فوجدت أنه روايتها الأخيرة – إنّها لندن يا عـزيــزي-.

وجدتها…وجدتها. صرخت جذلا مقلّدا – أرخميدس- وهو يباغت بالوحي في الحمّام عاريا. ورحت أبحث عن كتب أخــرى لــها. ولـم يطل بحثي فقط وجدت أربع روايات أخرى, حكاية زهرة- مسك الغزال- بريد بيروت- اكنس الشمس . قلت في نفسي هذا يكفي الآن.

لا أعرف كيف لم أنتبه لمرور الوقت. ثلاثة أيّام لم أكد أنام خلالها إلا قليلا. وشعرت بالخجل الشديد أنني لم أقرأ آخر أعمالها, عوالـم مثيرة وأسلوب جبّار وطريقة سحريّة في السرد. أضحكني سمير اللبناني الشاذ وأميرة المغربيّة المومس التي تخدع الجميع وهــــي تدّعي أنّها أميرة سعوديّة لتتحصل على عشرة آلاف دولار بدل المأتي دولار, تسعيرة جسدها المتدلّق. وكدت أحضن لميس العراقـيّة

وهي توقف سيارة التاكسي هربا من نفسها ومن نيقولاس خبير الخناجر العربيّة. لا أعتقد بأنني قرأت كتابا وتمنيت أنني كاتبه أكـــثر من أمنيتي أنني كنت كاتب عمل حنان الشيخ هذا. قررت صباح الاثنين أن أؤجل النوم أربع ساعات أخرى لكتابة رسالة لحنان بلــــندن ونص عن رواياتها الرّائعة. وحين خابرتني زوجتي الغير رسميّة, وسألتني مازحة, إن كنت قد قـمت بخيانـتها

خلال نهاية الأسبوع أجبتها صادقا بأنني كنت كامل الوقت بجسدي وقلبي مع العزيزة حنان الشيخ. ولكنني أضفت بأنها كـانت الســبب في عدم استمتاعي بها قبل ذلك, لأنّها كانت منذ سنة ملقاة في المخزن السفليّ . بسبب رفضها الدائم التخلّص من الطاولة الــبلّوريــّة التــي تحــتل مــكانا هامــا من البــهو حيث رفوف مكتبتي. فهمت. وضحكت. ولكنني قررت أن أضع حنان الشيخ منذ اليوم تماما فوق الطاولة البلّوريّة. وأضمرت التمرّد على نظام زوجــتي الغير رســميّة بصــفة رسميّة والبحث كلّ أسبوع عن أصدقاء بمقبرة المخزن حيث أودعت كتبي. كتبي الحبيبة التي ضاق بها الرّواق البافاري المعدّ لشخصين لا يعرفان ماالذي يربط بينهما.

4- أوتو ديكس, لأوّل مرّة بمدينة ميونيخ

بعد أربعة عشر سنة من اتحاد ألمانيا الغربيّة والشرقيّة, استقبلت مدينة مونيخ أخيرا أعمال رسّام الواقعيّة الجديدة العبقري أوتو ديكس, المشهور بمقولته " سأكون مغشوشا إذا لم ترني جالسا بين حافتي مقعدين" وهذا مثل ألماني قديم يوصف به كلّ خارج عن النظام العام وكلّ شخص لا يسعى لإرضاء طرف من الأطراف بما فيهم نفسه. وسيرة وسمات هذا الفنان العنيد هيّ تقريبا سيرة و سمات التاريخ الألماني, الفني والسياسي, بما فيهما من تمزّق ومآس وأسبقيّة وطرافة وصرامة. ولا يعرف العالم فنانا عبقريا وعالميا رفضه نصف العالم وألهه النصف الآخر مثل ما هوّ الشأن مع أوتو ديسك. فقد لاحقه النازيّون بدعوى أنّ فنّه فاسد ومنحطّ ومهدّم للقوى الدفاعيّة ورفضته الأوساط الفنيّة في عهد- أدناور- بحجّة أنّه رسام لا يفعل غير التذكير بحزازات النفوس وأخطاء الماضي في وقت يلتف الجميع للبناء. وحبسته الذائقة الرسمية والعامة في عهد النظام الجمهوري الديمقراطي داخل أطر النقد المرّ مع أنّ هنريش بول الكاتب الألماني العظيم والحائز على جائزة نوبل للآداب كان يصرّح مثل رفيقة – غونر غراس- الحائز أيضا على جائزة نوبل للآداب, كانا كلاهما مؤيّدين بالعديد من أكبر الرسّمين والفلاسفة, كانوا يصرّحون في كلّ مناسبة بأّنّ الرسام أوتو ديكس هوّ الأجدر بحمل لقب ضمير الأمّة الالمانيّة. وقد شملت المعروضات أهمّ أعمال أتو ديكس متضمّنة لحوالي ثلاثمئة وسبعا وثلاثين قطعة, نصفها من اللّوحات الزيتيّة والبقيّة رسوم بالقلم وتخطيطات تمهيدية وأخرى لوحات مائيّة. وقد بلغت قيمة تأمين هذا العرض أربعمائة مليون أورو ( حوالي خمسمائة مليون دولار ) وأشرف على التنظيم متحف الفنون بمدينة شتوتغارت الذي سبق أن نظم عرضا ضخما لأوتو ديكس سنة 91وكذلك بلندن وباريس وجنيف وغيرها بالإشتراك مع متحف الفن الحديث- بيناكوتاك- بمونيخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من


.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري




.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد