الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من المسؤول عن ضياع الحق العام في العراق؟

علاء مهدي
(Ala Mahdi)

2014 / 12 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


(ابتداءً، ودفعا لأي التباس محتمل، أشير إلى أن الاسماء الواردة في الجزء الاول من هذا المقال هي أسماء وهمية ورمزية أخترتها حفاظاً على خصوصية الشخصيات الحقيقية).

تخرج "وليد" من كلية الطب بجامعة بغداد وحاز على درجات عالية أهلته في حينه للحصول على وظيفة في أرقى مؤسسة طبية ببغداد إستثناءً من القواعد التي كانت تشترط إتمام فترة الخدمة العسكرية أو فترة الخدمة في القرى والأرياف كما كان متبعاً في ذلك الوقت. و"وليد" شاب طموح تمكن من بناء شخصيته ومستقبله بالإعتماد على عائلته الصغيرة ذات الدخل المتوسط، حيث نجح في تحقيق هدفه بالتخرج بدرجة إمتياز لم يسبق لأحد أن يحققها قبله. كان شاباً وسيماً ، فارع الطول ، جميل المظهر ، أنيقاً ونظيفاً ، يعتني بما يلبس أو يرتدي ، يحرص على تصفيف شعره وأختيار عطوره ولبس قلادة ذهبية تحمل شعاراً دينياً يتبعه أو يؤمن به. ويبدو أنه كان هدفاً لفتاة تعمل بمهنة التمريض على الرغم من إختلاف إنتمائيهما الدينيين ، وأن الفتاة لم تقاوم عشقها لـ "وليد" خاصة وأنه من الأطباء الناجحين والمتفوقين مما يعني أن مستقبله مضمون وسيكون زاهرا وناجحاً من حيث المكانة العلمية والإجتماعية والمالية.
كان الدكتور "وليد" مقيماً في المؤسسة الطبية التي تعين فيها لذلك كان على الأغلب مسؤولاً عن معاينة الكثير من الحالات المرضية المستعجلة طوال النهار والليل. وفي مساء يوم ما ، كان يطبب جريحاً على أثر حادث ما وكانت الممرضة معه ، وبعد الإنتهاء من مهمته الطبية قصد غرفته للراحة فتبعته وبحركة سريعة مدت يدها وقطعت قلادته من رقبته وركضت خارجة من الغرفة مرددة أنها ستخبر كل الأطباء المقيمين بأنه أهداها القلادة. فأسرع خلفها محاولاً إسترداد قلادته منها بقوة فكانت ردة فعلها أن استلت مشرطاً يستخدم في العمليات الجراحية كان في جيبها وضربته في منطقة حساسة كادت أن تنهي رجولته ، ثم بدأت بالصراخ مدعية أنه حاول الإعتداء عليها!.
تمت معالجة الدكتور "وليد" وأحيل إلى محكمة الثورة في حينه بتهمة محاولة الإعتداء على ممرضة أثناء أداء واجبها الرسمي حسبما أدعت ، فقررت المحكمة سحب إجازة ممارسة الطب منه وحكمت عليه بالسجن لعدة سنوات قضى الفترة الأكبر منها في "سجن أبو غريب" ثم أطلق سراحة لحسن أخلاقه فهاجر ولم يعد للعراق.
زرته لمرتين عندما كان في "سجن أبو غريب" وكان في حينه قد نسب إلى مستوصف السجن بإعتباره طبيبا. في زيارتي الأولى له ، جاءه شاب مصاب بجرح في جبينه وطلب تطبيبه. بدأ الدكتور وليد بتنظيف الجرح ووضع بعض المعقمات عليه. كان الشاب متألما حد البكاء. مظهره كان يوحي بأن عمره لايتجاوز الخامسة عشرة. طلبت من الدكتور وليد أن يسأله عن عمره وسبب وجوده في سجن للكبار ، ففعل. قال الشاب ، أن عمره ثمانية عشر عاماً وانه محكوم بالسجن لعدة شهور بسبب الحق العام ! طلبنا منه تفسيرا أكثر فذكر ان والدته بعثته لشراء خبز من المخبز الموجود في بداية المحلة ظهر أحد الأيام وكان الجو حاراً فقرر الذهاب إلى بيت خالته في الشارع المقابل لهم لإستعارة دراجة أبن خالته التي كانت مركونه في كراج أو حديقة الدار. طرق الباب فلم يرد عليه أحد ، أنتظر دون جدوى ، فقرر أن يفتح الباب الخارجي ويأخذ الدراجة الهوائية. ذهب للمخبز وأبتاع الخبز وأوصله إلى والدته وعاد بالدراجة إلى بيت خالته فوجد الشرطة هناك. سألوه عن الدراجة التي أعادها فأخبرهم بالقصة كاملة . يبدو أن ابن خالته ووالده عادا للدار ولم يجدا الدراجة الهوائية فأتصلا بالشرطة. بعد أن تفهم الجميع ماحدث أعتذروا من ضابط الشرطة عن سوء الفهم الذي حدث وأوضحوا أن الموضوع لم يكن سرقة إنما إستعارة ، وهنا كانت المفاجأة حيث رفض ضابط الشرطة أن يدع الأمر يمر بسلام مدعياً حرصه على " الحق العام " إحتراما للقانون فأحيل الشاب لمحكمة ما وقرر الحاكم حبسه لعدة شهور بداعي الحق العام.!
أضطررت إلى سرد هذه القصة لتكون مدخلاً ينسجم مع موضوع مقالنا لهذا الإسبوع.
نعلم جيداً كيف تسعى الدول المتحضرة منها وتلك التي في طور التحضر والإنماء إلى رعاية الطاقات العلمية والثقافية والأدبية والإقتصادية وغيرها من الطاقات من أجل بناء مستقبل الأوطان. وهي إذ تفعل ذلك فإنها تعتبر هذه الطاقات ثروات ومنابع تفوق في قيمتها وأثمانها الموارد الطبيعة الأخرى. فالكوادر والطاقات العلمية وغيرها تعتبر حقولاً لإنتاج الأجيال الجديدة وهكذا تستمر الدورة في بناء كوادر وأجيال متجددة متطورة تعمل من أجل تقدم البلاد وتطورها ، في حين ان منابع الموارد الطبيعية لابد من نفاذها ونضوبها يوما ما. والحديث عن الدول المتحضرة مقارنة بالوضع العام الحالي الذي يعيشه العراق والعراقيين هو حديث ملؤه الألم والحسرة. ولا أرغب هنا في إستعراض تأريخنا وتأريخ أجدادنا وحضاراتنا وآثارنا التي تملأ قاعات متاحف العالم المتحضر مقابل متحف عراقي بائس مقارنه بما هو موجود من آثار عراقية في متاحف العالم. لم يعد مفيداً الافتخار بعلماء وأدباء العرب ومثقفيهم ومؤلفات العرب والمسلمين وحروبهم التي اكتسحت العالم من غربه إلى شرقه ومن شماله إلى جنوبه. فعراقنا يتقهقر منذ عقود طويلة والأسباب معروفة وأصبحت إعادة ذكرها والحديث عنها تصيبنا بالملل والضجر والقهر والألم.
كثيرة هي الأمم التي تعرضت لنكسات وحملات إبادة لشعوبها ومدنها وحضاراتها عبر التاريخ على الأمدين البعيد والقصير لكنها نهضت من جديد وأعادت بناء مدنها بصورة أزهى وأجمل من السابق ، وركزت على تطوير وإعادة بناء الشخصية الوطنية ، فأنتجت كوادر من العلماء والأدباء والمثقفين والسياسيين والحكماء وغيرهم من حملة مشاعل الثقافة والعلم والأدب، وبنت المدارس والجامعات والمعاهد العلمية والمهنية وأستقطبت المهاجرين وأصحاب الكفاءات والعلماء الأجانب والعمال بمن فيهم العرب والمسلمين ونحن منهم.
في العراق الجديد أستبشرنا خيرا بسقوط النظام الديكتاتوري لكن خيبة أملنا كانت أكبر من فرحتنا بسقوط النظام بعد التغيير. ليس لأن النظام السابق كان أفضل من النظام الحالي ، بل لأن النظام الحالي جاء أسوأ من النظام السابق في هذا المجال أو ذاك. أحد عشر عاماً مرت مليئة بالقتل والنهب والتدمير والتفجير والإرهاب والتفرقة والعنصرية والطائفية والمذلة والفساد المالي والإداري حتى باتت هجرة العراق حلماً يراود حتى الوليد الجديد. لن أتحدث عن التقهقر بالمستوى الثقافي والعلمي والمعنوي ولن أتحدث عن تدني الإيمان بالواجب والإنتماء الوطني لدى المواطن العراقي ، لكي لا أزيد من هموم العراقيين وهم يعيشون الفقر والبطالة والعوز والإهمال والخوف والرعب والمرض. يكفينا أن ظهور "داعش" كان في زمن النظام الحالي الذي لم يقو على إسترداد ثاني أكبر مدينة فيه من سيطرة الإرهابيين الذي لازالوا يذبحون ويقطعون رؤوس العراقيين الأشراف من نساء ورجال مكوناته الجميلة.
الأهم من كل ذلك هو تدني وضعف هيبة الدولة من خلال ضعف قوة القانون فيها. وكمثال صريح على ذلك ، ماتعرض له الإقتصادي العراقي المخضرم الأستاذ مظهر محمد صالح أحد أركان البنك المركزي العراقي حين وجهت له تهما باطلة أساءت إلى سمعته الشخصية وخبرته الإقتصادية ، وذلك أبان فترة حكم رئيس وزراء العراق السابق نوري المالكي، حيث تم إعتقاله بتأييد من السلطة القضائية في حينه. بعدها يتخذ النظام الحالي قراراً بإلغاء محاكمة الدكتور مظهر محمد صالح وتعيينه مستشاراً لرئيس الوزراء الحالي الدكتور حيدر العبادي للشؤون الإقتصادية!. فما الذي حدث؟ وما الذي تغير؟ فالحزب الحاكم لازال نفس الحزب والسيدان نوري المالكي وحيدر العبادي يمثلان نفس الحزب ونفس الإستراتيجية الحزبية. القانون العراقي لازال نفسه والمحاكم العراقية أو السلطة القضائية هي نفسها.
لم يسبق لي التعرف على الدكتور مظهر محمد صالح على الرغم من أنني إقتصاديٌ جامعيٌ وعضوٌ في جمعية الإقتصاديين العراقيين ونقابة المحاسبين والمدققين العراقيين ولست هنا مدافعاً ولا محاميا عنه لكنني أعتبر أن التصرف القضائي التي تم بحقه في عهد المالكي يتناقض مع التصرف الذي تم في عهد العبادي. أليست إعادته إلى منصب إستشاري إعترافاً ببراءته من التهم التي وجهها له القضاء أبان عهد المالكي؟ وماهي الإجراءات التي أتخذت للتحقيق بأسباب الإتهامات التي وجهت له والتي أساءت لسمعته وخبرته ومكانته وشخصيته وهيبة الدولة ومصرفها المركزي بعد أن تمت إعادته للوظيفة؟ وهل ستتم محاسبة ومعاقبة المسؤولين عن هذه الفضيحة القانونية التي بددت هيبة القانون العراقي؟ وعلى فرض أن الدكتور مظهر محمد صالح قد تنازل عن حقه فيما تعرض له ، فمن سيحكم للدولة عن ضياع "حقها العام"؟
لننتظر ما سيحدث في قضية الدكتور سنان الشبيبي ، محافظ البنك المركزي العراقي .

-;--;--;-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع