الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باريسا ألكسندروفنا و الغرفة 216

كمال العيادي

2005 / 9 / 1
الادب والفن


كان إحساسا غريبا , ذلك الذي اعتراني , وأنا أعبر الممر الفاصل بين الطائرة و مطار موسكو الدولي . أذكر أن الساعة كانت تقارب الخامسة صباحا , وكان مذيع الطائرة قد أعلن لأكثر من مرة بأن درجة الحرارة شارفت الثلاثين تحت الصفر , وبالرغم من عدم تعودي على سماع مثل هذا الرقم , فقد كنت مهتما فقط بجدران الممر الحديدية …!
لم يكن ممرا عاديا , ولكنه كان حلقوما طويلا مثل الثعبان , وضعوه خصيصا لكي لا نتجمد من البرد , ونحن نعبر المسافة الفاصلة بين الطائرة , وذلك البلد الغامض. كنت مشدودا ومتوجسا من شيء ما , وكانت بي رغبة في العدو, باتجاه المطار أو العودة حيث الطائرة … كان المهم عندي عبور الممر بأسرع ما يمكن.
حدثت بعد ذلك حوادث شتى , وفرغت من نفسي بذلك البلد, حتى اكتفيت أو كدت, وألفت المكان حتى كاد يألفني, وقدمت له أجمل سنوات شبابي قربانا … وكنت راضيا وأكثر.
عرفت الكثير بذاك البلد , وجبته جنوبا وشمالا , وتعلمت مجاهل لغته , ومغاليق أسراره, وكنت صديقا وفيا للبجع الأبيض الحزين عند شواطئ الفولغا, وقرأت أجمل القصائد مع سجائر الكوسموس عند قدمي تمثال بوشكين, وكنت لا أفوت فرصة للالتحام بالعجائز أو بالصبايا.
وفي موسكو فقط تتكامل العجائز بالصبايا, ولا سبيل للوفاق مع مزاجية الثلج, ولا مع غنج طيور الدوننباي إلا إذا تحللت حكم العجائز و همسات الصبايا -في ذاكرتك ووجدانك - وامتزجتا بما توفرت عليه قبل ذلك كله …!

جئت موسكو طالبا للعلم -أو لبعضه- ومطالبا بشهادة ثقيلة على النفس , تبدو لي غامضة ومثيرة … ورغم عشقي الفطري للكلمة , وشغفي الشديد بالشعر , فقد مرت سنتان قبل أن أتعرف إلى باريسا ألكسندروفنا …
كانت باريسا ألكسندروفنا آمرة في الأربعين من عمرها , وكانت ابتسامتها تخفي فعل الزمن على وجهها بشكل مدهش التقيت بها صدفة . كانت مسؤولة عن مبيت الطلبة - حيث أسكن - بشارع ‘‘ غالوشكنا, وكنت طالبا مشاكسا أستحوذ على الغرفة رقم 216 وهي غرفة بالطّابق الثّاني, خاصّة بضيوف المعهد من طلبة القارة
الأوروبية … جاءت غرفتي تشتعل غضبا وأمرتني بمغادرتها في الحال. بعد جمع أغراضيّ.
دعوتها لشرب فنجان من القهوة اللبنانية -كانت أهدتها لي إحدى العابرات - … وما كان لمثل باريسا ألكسندروفنا أن تقاوم رائحة البن المحنك , وهي التي تستسلم كل صباح لطعم القهوة الروسية -الكريه-.
عند الرشفة الثالثة , بات واضحا أنها نسيت تماما ما جاءت من أجله , وكانت آخر آثار الغضب تتراجع في زرقة عينيها , وهي تتفرس بدهشة في جدران الغرفة أين اصطفت عشرات الصور المختلفة الأحجام والألوان والأشكال والمواضيع .
كانت لوحات غريبة فعلا تجمع بين رسم لوجه الفرعون توت غنج آمون , وآخر لبيكاسو , وسلفادور دالي , وبوب مارلي , وألآن بارك , و الحبيب بورقيبة , و كلاوس كينسكي , و أوجين يونسكو , وليرمنتوف , ووالدي رحمه الله , وغيرها…
وعند الجانب الآخر , كانت ترقد مجموعة ضخمة من الكتب باللغة الروسية والعربية والفرنسية , وكومة أخرى من الصحف و المجلات العربية , ورسائل مبعثره , وأوراق متناثرة هنا وهناك .
سألتني عن كل صورة , وحين كنت أجيبها باقتضاب , كانت تعيد نفس السؤال بإصرار غريب .

ربما كان للبن دور . وربما لأنني كنت منهارا لتأخر ماشا -صديقتي- وربما كانت باريسا ألكسندروفنا تعرت تماما من أقنعة الوظيفة …
المهم أنني وجدت نفسي أتحدث معها بطلاقة غريبة عني … حدثتها عن لعنة الفراعنة وعن كلب كافكا وعن شذوذ بيكاسو .
حدثتها عن والدي -رحمه الله- وقلت لها بأنه مات استجابة لنداء سمعه من عمق البحر .
حدثتها بشكل لم أعهده في إطلاقا … وكنت أختلق أغلب الحكايات , والغريب أنني كنت أشعر بأنني أقول الحقيقة تماما … وحتى هذه اللحظة , يخيل إلي بأن والدي مات استجابة لنداء سمعه من عمق البحر, وبأن كلب كافكا اسمه -يوشا- , وهو أسود اللون , ويقف على قائمتيه الأماميتين -كما يفعل الشطار- …‍ّ‍

خرجت باريسا ألكسندروفنا من غرفتي , وقد نفذ إليها ذلك العالم الأزرق … وتعودت ألا أقلق لتأخر ماشا -صديقتي- .

كانت باريسا ألكسندروفنا رقيقة النفس , وكانت الكلمة مفتاحا إلى عالمها وقلبها , وقد فتحت لي كل المغاليق وأكثر .
بعد مدة بدأت أنتبه إلى حكاياتها , وكنت قبل ذلك أتظاهر بمتابعتها …
كانت تحدثني عن ألكسندر بوشكين وهي تمسك نفسها عن البكاء بصعوبة . وحين كانت تقرأ لي من الذاكرة بعض المقاطع من روايته الشعرية ‘‘ يفغين أونيغن ’’ - كان وجهها يحتقن من الانفعال , وكان تنفسها يتسارع , وكان كل ذلك شاذا وغريبا عن عاشق الشعر الذي كنته حتى ذلك الوقت .
كنت قد درست عن بوشكين حتى مللت منه , وعرفت عنه ما يكفي لأسود بياض عشر صفحات عند الامتحان المنتظر آخر السنة الدراسية.
وكنت أعرف كما يعرف كل طلبة صفي بأن ألسكندر سرغاييفيتش بوشكين ولد في موسكو, وبأنه تربى على عشق الحرية , وذلك ما جعله يهتم بالتنظيمات السرية وينخرط في الجمعيات المعارضة للنظام القيصري الرجعي , وأنه بدأ بكتابة الشعر وقرضه في سن مبكرة جدا , وتعرض للنفي والاصطدام بالقيصر , وأنه كتب :
‘‘ روسلان و لودميلا ’’ - و ‘‘ نافورة باغشي سراي ’’ -
و ‘‘ الأسير القوقازي ’’ وكتب عن القوقاز كتابا آخر يصف فيه الإبداعات التي أحبى بها الله هذه المنطقة من العالم , وأنه كتب ‘‘ يفغين أونيغن ’’ وصور من خلالها طبيعة المجتمع الإقطاعي ولذلك يعتبر مؤسس الواقعية النقدية في الأدب الروسي
و إضافة إلى ذلك فقد كنت أحفظ عن ظهر قلب -كما يقال- ستة مقاطع من شعره رغم أننا كنا مطالبين بحفظ مقطعين فقط , لعرضهما يوم الامتحان الشفوي في مادة الأدب القديم والوسيط , وأدب رواد الثورة الفكرية في روسيا .
كنت أعرف كل ذلك وأكثر عن ألكسندر بوشكين الذي مات على إثر مبارزة دبرت له مع ضابط فرنسي . كنت أعرف كل ذلك وأكثر عن بوشكين . فلماذا يحتقن وجه باريسا ألكسندروفنا بذلك الشكل -وهي تقرأ مقاطع من شعره ؟؟
وانتبهت مرة إلى دمعة تنحدر من مآقي باريسا ألكسندروفنا وهي تقرأ مقطع من قصيد ‘‘ روسيا ’’ - الذي كنت أحفظه جيدا , وكان المقطع يقول : ‘.. إني أحب سماع أصوات البعوض … وصوت أفراح الصبيان.فوق المرتفعات
حيث يثيرون الصخب … كي تأتي الصبايا …
كنت كمن يستفيق من غفوة طويلة … طويلة .
وأحسست بأنني عدت ثانية داخل نفس ذلك الحلقوم الطويل الذي كان يربط بين الطائرة و مطار موسكو الدولي . وكانت دمعة باريسا ألكسندروفنا -خيطا- يشدني باتجاه الجانب الآخر -عكس اتجاه الطائرة.
وكانت المرة الأولى التي أشعر فيها بأنني بموسكو -بعد أكثر من سنتين فيها .
كنت كالطير الوليد أحسني طليقا بهذا البلد الذي لم آلفه قبل ذلك أبدا.
مر وقت طويل على ذلك, غادرت موسكو فيه , وعدت إلى أرض الوطن … ولكنني لم أحتمل دعابات الأصدقاء القدامى … وصياح ديكه الصباح ! . لم أحتمل حنان والدتي , وتصفح جرائد المساء , فغادرت الوطن ثانية ولم آخذ معي إلى بلاد براشت وهيغل و نيثشه وغوته , سوى ديوان ‘‘ أغاني الحياة ’’ لآبي القاسم الشابي . و ديوان‘ ألوا ح
للمنصف الوهايبي - ومسرحية ‘‘ بيارق الله ’’ للبشير القهواجي و ‘‘ حدث أبو هريرة قال …’’ للمسعدي - ونسخة معربة من الكتاب المقدس , ومصحف للقرآن الكريم -عليه إمضاء والدي , رحمه الله.
مرّ وقت طويل بعد ذلك , وأرهقني اللهاث وراء تحصيل ثمن كراء الغرفة المعزولة التي ارتضيتها سكنا . ولكنني كنت كلما انفردت بنفسي , أتذكر قولة باريسا ألكسندروفنا , وهي تودعني بمطار موسكو الدولي قائلة : ‘‘…إذا عصفت بك الأحزان , فلذ ببوشكين …
وحين تقرأ له , تذكر جيدا , أنه كان يخاطب الورد بأسمائه , وأنه كان يعتذر للماء عن تأخر البجع الوحشي .

اللّـــه…باريسا ألكسندروفنا , تلك المرأة العظيمة , التي مازلت رغم كل الأحداث التي عصفت بموسكو - تراسلني, لتخبرني بأنّ موسكو أصبحت أجمل مما كانت عليه قبل رحيلي عنها, وأن كلّ ما يقلقها بعض الشّيئ , هو تأخر مجيء البجع الوحشيّ هذا العام








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد