الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


للمرَّةِ الألْف .. مطلوبٌ حيَّاً!

كمال الجزولي

2014 / 12 / 7
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


(1)
أعود، ولا أملُّ العودة إلى سؤال محي الدين محمد، موضوعاً وذاتاً، مثلما ظللت أفعل طوال السنوات الماضية، مناشداً أهل الخير"الثقافي" بأن يساعدوا في البحث عن هذا المفكر السُّوداني الكبير، ومعتذراً بأنني لو كنت من أهل الثراء الطائل لرصدت جائزة معتبرة لمن يعثر عليه .. حيَّاً! غير أن مناشدتي لم تصادف، حتَّى الآن، للأسف، مَن ينقع غلة الصَّادي، فضلاً عن أنني حاولت الاستعانة بمحركات البحث الإليكتروني التي تأتيك، في العادة، بلبن الطير، لكن دون جدوى. فمن هو محى الدين محمَّد هذا؟! وأين، تراه، يختفي؟!

(2)
قد لا يبدو مألوفاً أن يوصف صاحب كتاب يتيم بأنه "مفكر كبير"! لكنني لا أشك في أن كلَّ من يطلع على كتاب محي الدين الوحيد الموسوم بـ "ثورة على الفكر العربي المعاصر"، والصَّادر عن "المكتبة العصريَّة" بصيدا ـ بيروت، عام 1964م، سوف يتفق معي في هذا الوصف.
بالأمس، وككلِّ مرَّة تجوس فيها يداي بين أرفف مكتبتي بحثاً عن بعض المصادر، وقعت، بالمصادفة، على نسخة من هذا الكتاب الذي ما تزال قيمته الاستثنائيَّة طازجة كأنما كتبه صاحبه اليوم. قال، مجازاً، وكأنه يمهِّد لدرس في الفلسفة لا في الاقتصاد: إن سائحاً غربياً لقى إعرابياً يسكن في كهف بالصحراء، فابتاع منه بيضة دجاجة بقرش واحد، وبعد عشرة أعوام تقابل الاثنان مرة أخرى، غير أن السَّائح أراد أن يشتري هذه المرَّة دجاجة كاملة، وكم كانت دهشته عظيمة عندما أخبره الإعرابي أن ثمنها أيضاً .. قرش واحد! لكن الدَّهشة ما لبثت أن انقشعت بعد أن فسَّر له الإعرابي ذلك بقوله: "إن الفرق بين البيضة والدَّجاجة مسألة زمن فقط، ونحن لا نهتم بالزَّمن، ولا نعيره التفاتاً"!

(3)
في متن حكاية "البيضة والدَّجاجة" يعالج محي الدِّين إشكاليَّة تغيير الذِّهن العربي، من حيث كون "الزَّمن"، على أهميَّته، بطـيء جداً في إحداث "التحويل" المطلوب، وأن الإرادة الفاعلة غالباً ما تبدأ هذه المهمَّة في قنوط. لذا ظللنا نرزح في "الجُّمود" مئات السِّنين، لأن "الزَّمن"، كعامل تغيير، ليس جذريَّاً، ولا بُدَّ له من ذهنيَّة تقابل بين فداحة السُّكون وبين ضرورة التطوُّر، فتطالب وتحرِّك.
وفي السِّياق يثير محى الدين قضيَّة العلاقة المختلة، تاريخيَّاً، بين الفرد والسُّلطة في بلداننا، فيعزي إلى أوضاع القمع، والظلم، والكبت، ودونيَّة العقل، وتحقير الكرامة، علاوة على أوضاع الفقر السائد، أسباب تضعضع الذِّهنيَّة العامَّة، وركودها، وسكونيَّتها. ومن ثمَّ فإنه يصنف "الزَّمن" ضمن عوامل ثلاثة مرشَّحة للتَّصدِّي لمسئوليَّة تغيير هذه الذهنيَّة، أما العاملان الآخران فهما: الأوضاع "الماديَّة" و"وعي" القادة.
وعلى حين ينبغي أن تتكفل الدَّولة بالأوضاع "الماديَّة"، يقول محى الدِّين، فإن الفكر الذي عايش التمرُّد الأوربي، وخبرَ أخطاءه ومزاياه، مناط به استنهاض "الذِّهنيَّة العامَّة"، وإخضاعها للقوانين "العلميَّة"، حتى ينزع عنها ما يسمِّيه "ديدان الخمول" التي تجعلها ترفض أن تتحرَّك، رغم كل البطولات، والتضحيات، وأرتال الشُّهداء، وأن تطالب بالحريَّة، والعدالة، وبقيَّة الأسس التي تقوم عليها النهضة.

(4)
وعلى أهميَّة هذا الحجر الذي ألقى به محي الدين في بركة الفكر العربي السَّاكنة، فإنه لم يقابل، حسب علمي، بما يستحق من المحاورة، غير أن البعض عرضوا لجوانب من أطروحته، وإن لم يذكروه بالاسم. فطيِّب تيزيني مثلاً، قام، بعد زهاء العقدين، بتسديد نقد شديد لـ "العقلانيَّة" التي عبَّر عنها محي الدِّين بغرض تخليصها من "علمويَّتها"، أي من اشتغالها، على حدِّ تعبير تيزيني، لا كـ "منهج" لمقاربة الواقع، بل كـ "أيديولوجيا" تصوِّر "العلم"، لا "التجربة"، باعتبارها أصلاً للمعرفة اليقينيَّة، حتى أصبح "المفهوم" هو الذي يتحكم بالواقع، بدلاً من أن يَخضَعَ له، ويتطوَّر في ضوئه. وهذا ما يصفه تيزيني بمصدر الاستلاب النظري الذي يهدر النظر "العلمي" القائم على "التَّجربة" في الواقع الماثل، للحدِّ الذي صار فيه الاستقواء بـ "العلم" قاعدة تحطيم للمسعى "العلمي" الحقيقي، وأضحى الموقف السَّائد هو أن العلم موجود وجاهز ومتطوِّر، وليس علينا إلا أن نأتي به! في حين أن نشأة "العلم" نفسه في الغرب، كنظام للمعرفة المقبولة اجتماعيَّاً، قد ارتبطت بالتَّشكُّك في صحَّة المعارف "الجَّاهزة"، وإحلال مفهوم المعرفة "الموضوعيَّة" التي تأخذ في اعتبارها مجموع الشُّروط المكوِّنة لـ "الفعل المعرفي" محلَّ مفهوم "المعرفة اليقينيَّة". فما كان لـ "العلم" الحديث أن ينشأ، أصلاً، لو كان الغربيون قد واصلوا إسناد معلوماتهم إلى النُّظم المعرفيَّة التي ورثوها عن أسلافهم، أو لو انهم لم يأخذوا بالفكرة البسيطة القائلة بأن الكافل لصحَّة معلوماتنا ومعارفنا عن الواقع لا يمكن أن يوجد في هذه المعلومات والمعارف نفسها، وإنما في "التَّجربة". وإلى هذا الموقف النَّظري الجَّوهري يحيل تيزيني الفضل في فتح الآفاق اللانهائيَّة أمام العقل الغربي للمراجعة، وتحسين الاستنتاجات، وضبط التراكيب النَّظريَّة، بحيث أصبحت من أخصِّ خصائص "العلم الحديث" قدرته الدَّائمة على تغيير نظمه الذَّاتيَّة بالاستناد إلى "التجربة المستمرَّة".

(5)
نعود لمحي الدِّين الذي يمضى متسائلاً: إذا كنا لا نأبه بالعدالة، ولا بالعيش الطيِّب، ولا نريد الحريَّة، وندع أقواماً آخرين يعيشون ويتسلقون فوق أكتافنا ورؤوسنا، وينعمون بالحياة الخالية من الأمراض، والذلِّ، والقذارة، فلماذا إذن نتزاوج، وننجب الأطفال، ونبني البيوت، والأسر، والحدائق؟! لماذا لا نعيش في الكهوف والأديرة بدون زواج حتى الموت؛ فهكذا على الأقل، يقول محي الدِّين، نصبح أقرب بمسـافة عظيمة من الله، مِمَّا لو واجهنا الحياة بنصف وجه، وواجهنا الله بالنصف الآخر!
يخرج محي الدِّين من أكَمَة أسئلته الشائكة بتغليب كامل لعامل "الذِّهن القيادي" على العاملين الآخرين، مستنتجاً تحمُّله وحـده، بخاصـيَّته "التخطيطيَّة"، عبء تحويل "الذِّهنيَّة العامَّة"، بخاصِّيَّتها "التطبيقيَّة" العاكسة، وانتشالها من الخوف والشكِّ، وتزويدها بالصَّلابة والإدراك، والقدرة على المطالبة بتحقيق العدالة والحريَّة.
.............................
.............................
قال محي الدِّين كلمته أواسط ستينات القرن المنصرم، وقال غليون كلمته أواسط ثمانيناته، وما بينهما ليس محض فارق زمنيٍّ، بل فارق فكري في المقام الأول. ومع ذلك، فثمَّة آصِرَة باطنيَّة تشدُّ واحدتهما إلى الأخرى، وتجعلهما تكمِّلان بعضهما البعض، من حيث تردُّد الأصداء المنهجيَّة لكليهما في الأخرى!
مهما يكن من أمر، وعلى تعدُّد مناهج النخب العربيَّة بشأن أطروحات النهضة، فإن شعوبنا تضرب، ما تزال، في تيه الخيارات، ترفعها آل، وتخفضها آل، في اندفاعاتها المتلاطمة على بوَّابات الألفيَّة الثالثة، بينما لا تزال تتطلع بإلحاح، أكثر من أيِّ وقت مضى، إلى المشروع الأوثق تعبيراً عنها، والأكثر إلهاماً لها! فلئن كان تيزيني ما يزال يكتب بما يمكِّن من مساءلة مواضعاته، فما الذي تراه سيطلب محي الدين، في ما لو قيِّضَت له إعادة كتابة "ثورته" الآن، من فوق كلِّ هذه السنوات الخمسين، في عالم يزداد قتامة، ودمامة، وظلماً، وفقراً، وبؤساً، بينما لا تزال الأسلاك الشَّائكة مضروبة على عقله، حتى ليكاد المرء يمنح عمره لأجل "بقعة شمس بحجم رأس الدَّبُّوس"، على رأى ماياكوفسكي!
.............................
.............................
ولكن يبقى السُّؤال المحيِّر قائماً بإلحاح:
من هو محي الدِّين محمَّد؟! وأين، تراه، الآن؟!

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق الى كمال الجزولي
ايدن حسين ( 2014 / 12 / 7 - 10:25 )

مقالة محترمة و جديرة بالاهتمام

و تحياتي

اخر الافلام

.. مصر: وزيران جديدان للدفاع والخارجية في تغييرات الحكومة


.. والدة ضابط إسرائيلي قُتل في غزة تستلم جثمان ابنها




.. الناخبون الإيرانيون يبدأون التصويت في الجولة الثانية من الان


.. مسؤول بالجيش الإسرائيلي: قيادة الجيش مستعدة لقبول أي صفقة مع




.. ما هو فيلق أفريقيا الذى يرث مجموعة فاغنر الروسية؟