الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكارثة تاتي من الايديولوجيا اولا

محمد نعيم فرحات

2014 / 12 / 9
مواضيع وابحاث سياسية



إن العقل السياسي السّوي ومنطقه وخصائصه واليات عمله كما تعهدها الدول الحقيقية ، لا تستطيع أن تفسير السياسة التي تنتهجها القيادات الاسرائيلية المتعاقبة في السنوات العشرين الاخيرة على وجه التحديد، لا بشأن القدس، ولا بشان استمرار الاستيطان، ولا إزاء التسوية السلمية كفرصة ثمينة ستعض عليها إسرائيل "العاتية" النواجذ بعد فوات الأوان ، كما لا يستطيع العقل ذاته أن يبرر حروبها المدمرة والخاسرة، وصولا إلى إفصاحها الأخير عن جوهرها الحقيقي من خلال القانون الحكومي الداعي لتأكيد يهودية الدولة، الذي تثبت من خلاله بأنها تشارك "داعش" نفس المنطق، ولا في إدراكها للمتغيرات الخطرة التي يشهدها الاقليم، التي تقطع كل يوم مسافة 24ساعة نحو حرب اقليمية عظمى( ستكون إسرائيل في قلبها بالقوة) باتت ضرورة وحاجة ماسة لإيجاد حلول لملفات الوجع والظلم والقهر والعدوان والاستباحة والهيمنة التي عانت منها المنطقة كثيرا، والمثير بان الطرف القادر على خوضها، والمستعد لأثمانها ، والذي يراها ويعد لها هو الذي يؤجلها ، في عين اللحظة التي يتعامل الجميع مع هذه الاحتمالية وكأنها واقعة غدا.ً

إذا، ثمة شيء اخر غير العقل السياسي وحكمته المفترضة، هو الذي يجب سؤاله لتفسير سلوك قادة إسرائيل من جهة ، وكذلك لفهم النزوع اليمني الذي يتجذر على نحو واسع عند التيار الرئيسي الغالب في رأيها العام من جهة أخرى، هو بالضبط رواسب الايديولوجيا والثقافة وأوهامهما الخطرة والمدمرة، وكارل ماركس الذي انتج واحدة من أعتى الايديولوجيات الوضعية، هو نفسه الذي قال محذرا "بان الايدولوجيا مصابة بزكام عدم التحول الى واقع" فكيف سيكون عليه الحال عندما يتعلق الامر برواسبها الصلبة وأمراضها وهلوساتها وتهويماتها، هنا بالضبط يمكن العثور على حشد من الأدلة التي تشير لغيبوبة الوعي الاستراتيجي عند قادة إسرائيل وعمى شامل في البصر والبصيرة يتحكم بهم.

ويستطيع عابر سبيل في السياسة ان يستنج بان مصلحة إسرائيل الإستراتيجية والوجودية، لا تحتاج للتمادي في تهويد القدس، ولا إلى خنق أهلها الأصليين، ولا إلى ارتكاب المجازر الجغرافية والقانونية والإجرائية التي تمس حياتهم وعواطفهم وروابطهم وعلاقتهم بالمحيط وبالأفق وبالهواء وبالأمل وبالسماء معا، كما أنها ليست بحاجة لاقتحام المسجد الاقصى، الذي هو، كما القدس وأكنافها، وديعة للسماء تركتها في الارض وفي خيال الناس ، اكثر مما هي حيز ارضي له معنى سماوي مكثف. بل على العكس لقد كان من مصلحة اسرائيل ودهاء تحققها اتباع سياسة تحاول ما استطاعت لذلك سليلا، ألا تذكر الناس في كل لحظة بأنها تحتل القدس ، وأن تعمل جاهدة على تجنب عودتها كبؤرة جذب وتوتر وتعبئة تتجه لها الأنظار من خلال ممارسات لا طائل من ورائها.

كما أن وضع إسرائيل غير مناسب لبناء مستوطنة، لا وظيفة سياسية او امنية لها، وليس من البراعة ولا من الذكاء في شيء، ابتداع "أدلة" وهمية تقنع بها نفسها، من أن محمود عباس والفلسطينيين لا يريدون السلام، وليسوا شركاء في صنعه، فيما الرد على المتغيرات الحاصلة في المنطقة عبر الاعلان عن اسرائيل "كدولة يهودية" هو تعبير عن وصول غباء القوة عند إسرائيل إلى ذروة مجنونة.

وعلى ضوء ذلك فإن كافة إجراءات إسرائيل وخياراتها في السياسة إزاء الفلسطينيين وحقوقهم، وفي تعاطيها مع اللحظة التي تمر بها المنطقة، لا تعبر عن وعي سياسي أو استراتيجي مناسب من زاوية مصالحها ، بمقدار ما تعبر عن استفحال مرضي إيديولوجي يجري تحويله لدليل عمل يحكمها ، يذكر العالم والعرب والمسلميين والمسيحيين الشرقيين ومعنيين آخرين بحقيقتها كدولة محتلة.
وبناء سياسات استنادا لمنظور إيديولوجي كما تفعل إسرائيل ،سيفضي بها كي تسجن نفسها داخل جدران خديعة، سيكون بوسعها فقط أن تتعقب من خلالها بنجاح كل فرض الهلاك لما انجزته سياسيا ، وفي مكان ما تثبت إسرائيل التي تحتل القدس منذ 47 عاما كتأكيد على صورتها في الخيال اليهودي منذ الفي عام، بأنها لا تعرف المعنى الكامن للقدس في الوعي والمخيال الجمعي لشعوب المنطقة، ولا في وجدان السماء معا، لقد ادت القدس كما فهمها وأرادها ووظفها الوعي الصهيوني غرضها وقسطها نحو العلا السياسي في الحشد والتعبئة من اجل اقامة دولة إسرائيل، واليوم ها هي تتحول لكتلة من لهب بين يدي إسرائيل أكثر مما هي غنيمة ثمينة كما كانت في زمن التأسيس للاحتلال كفكرة، ثم مرحلة العمل عليه كمشروع يقوم على الأرض.
ومن يخرب ممكنات السياسة ويهددها من خلال استيطان إيديولوجي ، ويحمي تماسك الايديولوجيا بثمن المغامرة في الاستراتيجيا والمصالح الملموسة،ويذهب من حرب خاسرة الى أخرى، ليعود بمزيد من الجروح العميقة في وعيه وفي قدرته، هو بالتأكيد "عبيط" يلعب بمصيره، بثمن باهظ يدفعه ضحاياه، وبثمن راهن يدفعه هو نفسه اليوم ، وسيدفعه غدا، دون أن تكون له المناعة الوجودية التي تمكنه من رصيد كاف للاستمرار في ممارسة "العباطة" وما يترتب عنها من أثمان، وإسرائيلي حصيف اسمه يهوشعفاط هركابي قال يوما"إن إسرائيل بحاجة إلى الإيديولوجية قليلا والى العقلانية كثيرا، وأنها بحكم طبيعتها لا تتحمل أي خطا وجودي" والعبيط المدجج بالايديولوجيا، هو خطر على نفسه وعلى غيره ولعبته مكلفة ومدمرة في آن.

***
في التراث الاسرائيلي ثمة سرديات كثيرة عن الكارثة، منها أن "الكارثة تأتي من الشمال" بالمعنيين: الحقيقي والمجازي للشمال، فيما خبرة الاحتلال الاسرائيلي المُستجدةِ تتطلب أن يضيف الاسرائيليون في سفر أقولهم، بان الكارثة قد" تأتي من الايدولوجيا أيضا"
وفي دولة لديها مشاكل عميقة في القدرة رغم حقائق قوتها الهائلة، فإن تحالف "العباطة" مع "ظلامية " إيديولوجية صلبة، مع "تكفير" سياسي وثقافي معا تشتغل في الزمن الخطأ وبالطريقة الخطأ، وتحويل هذا التحالف ومخرجاته لقيمة إجماع تحكم العمل السياسي الإسرائيلي والوعي الجمعي معا، وإلى عادة ذهنية وممارسة راسخة، هو أمر خطير يحصل بينما الزمن يتغير في اتجاه أخر تماما.

في دولة كهذه سيبدو من الجنون القول، بأن خلاص إسرائيل من مأزقها له طريق واحد فقط،، هو أن يَعتَرف الإسرائيليون بأن الدولة التي أنتجوها هي دولة احتلال، تهدد غيرهم كما تهددهم في العمق ، وان يؤمنوا بالتخلص من الاحتلال كثقافة وكممارسات وكمخرجات وكتعبيرات وكموروثات وكتراكمات، والذهاب نحو خيار الاندماج في السياقات التي يعيشون فيها، وفقا لمنطق الدولة الحديثة التي هربوا منها لإقامة " الدولة / الغيتو" مع ما يتطلبه ذلك من استحقاقات. والقول الذي يبدو جنونا من زاوية نظر المجنون هو الذي يتعين قوله له ، لحثه على التخلص من جنونه!!!
------------------
* كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل وحماس تتمسكان بموقفيهما مع مواصلة محادثات التهدئة في


.. إيران في أفريقيا.. تدخلات وسط شبه صمت دولي | #الظهيرة




.. قادة حماس.. خلافات بشأن المحادثات


.. سوليفان: واشنطن تشترط تطبيع السعودية مع إسرائيل مقابل توقيع




.. سوليفان: لا اتفاقية مع السعودية إذا لم تتفق الرياض وإسرائيل