الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زقنموت (رواية) 22

تحسين كرمياني

2014 / 12 / 10
الادب والفن


بدأت الموجودات تتلامح في عيني(ماهر)بعدما أسترد بعض وعيه،وقسماً كافياً من درجة الرؤية،وجد كائنين حوله،يقفان كتمثالي برونز،أحدهما شماله والآخر يمينه،كائن يحاول كبح جدولي دموع،وكائن يحاول كتم حشرجة نحيب.
كافح أن يشكل في ذهنه ملامح تتذبذب،من هما.؟ماذا يريدان.؟
أكان على فراش الموت.؟ جاء ملك الموت لينتزع روحه،هدأ ينتظر طي آخر صفحة من كتاب حياته.
أذرع مثل أفاعي جائعة تمتد لتطوقه،شيء لا يشبه الموت،يبدأ الموت من القدمين،يبدأ ببرود تام يزحف عصيباً نحو الأعلى قبل كتم النفس.
ثغور طرية تحرث وجهه،الموت جاء أخيراً،بدءوا يودعونه،عيون تدمع،ثغور تمطر لعاب الهلع،وسط توهان عقله وحيرته،بدأت الرؤية تتسع وتتضح،رأسه تمكن من تمييز الأشياء،أمّه واقفة،عيناها دامعتان،(مها)واقفة تضحك تارة،طوراً تبكي.
لم يعرف من منهما قالت:
((غيمة عابرة وصحت.))
قالت الأخرى:
((حمداً على سلامتك.))
شعر بوخز الألم،وجد يده اليمنى راحلة عن جسده.
همست واحدة:
((متى تخلص هذه الحرب اللعينة.؟))
همست الأخرى:
((لعنة الله على الطرفين.!))
((لا ترفعي صوتك.؟))
((لا يجب أن يعود ليموت في المرة القادمة.))
((وأين يروح.؟))
((حاله حال الكثير من أقرانه.))
((كلا..أخشى أن يموت بأيديهم.))
صمت.





تعافى(ماهر)ببطء،بين حب(مها)وحنان أمّه.
(مها)تطعمه وتسقيه،تمطره بوابل قبلات.
قالت أمه:
((لم أعد أشكل أهمية بالنسبة لك.))
(مها)قامت وعانقتها..قالت:
((عمتي سأنذر نفسي لخدمتكما.))
قال(ماهر):
((مهما تكن درجة الزوجة عند الرجل فهي لا تشكل أمام الأم سوى عضد مساعد.))
((ولدي..أشعر بشيء من الغيرة،أقولها بصراحة،طلقت الدنيا من أجلك،ها أنت تجد من تحويك وتأخذك من أمام عيني.))
((يا أمّي كلامك ثقيل على جرحي.))
قالت(مها):
((لولا أنه ـ ماهر ـ لتركته لك ياعمتي.!))
((أتمنى لكما حياة كريمة.))
خرجت أمه.
قال:
((فقدت أهم عضو في جسدي.))
((أنا عضوك المفقود يا ـ ماهر ـ ))
((ربما عضوين على ما أعتقد.))
((لم أعد أمتلك غيرك يا ـ ماهر ـ ،مهما تفقد من أعضاء،أشعر أنني لا أعيش من غيرك.))
((لكن المرأة لا تعيش من غير رجل.))
((مهما يكن،علي أن أكون راهبة في محرابك يا حبيبي.))
((وأنا سأكون قساً،نجعل من بيتنا صومعة لحياة مثالية خالية من الآثام.))
((لم أعد أمتلك شيئاً غيرك بعدما تركت دراستي.))
((كان ذلك بسببي.))
((وما نفع الدراسة في بلاد لا تعيش من غير حروب.))
((سأواصل كتابة الشعر.))
((ستقرأ لي وأنا أكتبه.))
((سأمرن ـ يسراي ـ على تعويض يميني.))
((وما العمل.؟))
((بخصوص زواجنا.))
((أي زواج يا ماهر.!))
((ألسنا مخطوبين..))
((لا أقصد هذا..بخصوص عسكريتك.))
((سيخرجونني أسباب صحيّة.))
((ومن قال هذا.؟))
((لم أعد أنفع للحرب.))
((لابد أن تحسب حساباً لخلاف هذا الرأي.))
((حين تنتهي إجازتي المرضية،ستتضح الأمور أكثر.))
صمت.
لجنة(شرحبيل)الطبيّة،متخصصة بـ بيان سلامة الفرد،وصلاحيته لحمل السلاح أو ترقين شخصيته (سلاحسز)،مئات الشباب،يتظاهرون بفقدان الرشد،مبتوري الأعضاء،أنفار تلبس ملابس نسائية،تدربت على ألفباء الجنون،كلّهم دون استثناء يجرجرون أمهات مبتليات،متهالكات،وآباء خائرون،من كل محافظات البلد، يحملون باقات أوراق عرائض،تتمزق لكثرة التدافع والعرض على المختصين،أوراق مصبوغة بعشرات التواقيع وممهورة بعدة أختام،دائرية وأسطوانية ومثلثة،بعضها أحمر والبعض منها أخضر أو أسود،تقارير طبيّة عديمة التأثير،كونها حررت من مستشفيات مدنيّة،حررها أطباء استجابة لبكاء نساء وتوسل رجال،فالرؤوس الكبيرة،الحليقة،الجالسة في غرف عتيقة،ووراء نضد حديدية صدئة،رؤوس صلبة،محقونة بـ وباء الولاء الكامل للحرب وقائدها المفدى،يمتلكون قدراً كبيراً من انضباط النفس،ولساناً ذرباً،يجاملون خلاف العرف العسكري،حتى شاع أنهم رجال(الأمن القومي)،صنف مثقف من جهاز المخابرات السريّة للسلطة،متنكرين بصدريات بييض،كما يفعل الأطباء في المستشفيات الحكومية،خلاف ما يظهرون في عياداتهم الخاصة،من غير صدريات بييض،رجال يراوغون،بألسنتهم،بنظراتهم،يمتصون أحقاد الناس،يزرعون في نفوسهم المتمزقة بذور الأمل،لكن عليهم الصبر،الحرب تحتاج إلى صبر وتضحية،يعطون دفقات فرح للزاحفين بحثاً عن فرصة نجاة الابن من عسكرية زمن الحرب.
تختنق بهم المساحة المحصورة داخل سياج شبه مهدم،حائط مبني بيد غير ماهرة،وحديقة مهملة،فيها أشجار غير مهذبة.
في الخارج يجلس رهط متقاعدين على صفائح زيت،في أطراف ثغورهم الغاطسة تحت شوارب غير مهذبة،سجائر من أنواع شتى،أمامهم نضد من النوع الذي يطوى ويحمل على الكتف،عليها أوراق ودبابيس ملتحمة بقطعة مغناطيس،(وأسطمبة)يتم ضغط إبهام مقدم الطلب على أسفنجها الغاطسة بالحبر لوضع البصمة على ذيل العريضة،لمن لا يجيد الكتابة ويجهل مسك قلم الجاف أثناء التوقيع،كلهم يبغون التخلص بطريقة ما من الحرب،أسباب صحيّة،هلوسة،عدم امتلاك الذكورة،فاقدو الرشد،ضآلة الشخصيّة،عاهات جسدية ونفسية توالدت أثناء الحرب،فتدافعت الناس للفوز بواحدة منها مهما كان ثمنها تنقذ بها أبنها البار.
بعد عدة مراجعات،قررت اللجنة الطبية(شرحبيل)عدم صلاحية(ماهر)للخدمة،جاء في التقرير.

[بعد جملة فحوصات مختبرية تبين أن الجندي المكلف(ماهر عبد الكريم عبد الخالق)،المنسوب إلى كتيبة دبابات أم 24 المتجحفلة مع الفرقة الثالثة المشاة الآلي،قاطع(الفاو)،أنّه فاقداً للرجولة لسبب غير واضح،مع بتر كف يده اليمنى أثناء الهجوم،لذا قررت لجنة(شرحبيل)الطبيّة،في التأريخ أعلاه بعدم صلاحيته لحمل السلاح للدفاع عن حياض الوطن]
***


قالت أمّه:
((لم يعد لدي سبباً كي أعيش.))
((لكنني تحت العلاج.))
((وما العمل.؟))
((مها..قررت أن تكون إلى جانبي.))
((لكنها سـ....))
((أقسمت أنها تساندني في علاجي.))
((وكيف تواجه أمها.؟))
((ستمرغل المنديل بدمٍ كذب.!))
((لن يستمر ذلك طويلاً.))
((لا خيار بديل لي..))
يشعر(ماهر)أنّ حياته تستقيم عندما يكون وحيداً في فراشه،كل شيء يشعره بتماثله للعافية،عضوه يكاد يشعر بتحفزه،رغبته نار تحرق جملة غابات،لكن المعضلة تنعكس،كلّما يستعد لخوض مشروع الحياة.
(مها)نار،(ماهر)ثلج.
تزوجا زواجاً بسيطاً،أنها الحرب،البلدة،كل الأزقة تقريباً،جدران الكثير من البيوت،تضع قطع أقمشة مستطيلة،سوداء،آية واحد تتصدر كلها((ولا تحسبن اللذين قتلوا في سبيل الله أموات،بل أحياء عند ربهم يرزقون)).
رجال السلطة قالوا((الموت في سبيل الوطن هو الموت في سبيل الله))عبر تجمعات يومية للناس يتم حقن رؤوسهم بمفاهيم الوطنية والمواطنة الصالحة،على المرء أن يدافع عن أرضه وعرضه وماله،فالعدو كما يصرحون يستهدفون الأعراض لهتكها كما هتك الملعون(فرعون)أعراض بني إسرائيل،لمّا تجحفلوا تحت قيادة النبي(موسى)عليه السلام.
مرت فكرة(مها)على رأس أمها،اقتنعت أخيراً أن(مها)خرجت بنجاح تام من صبيانيتها وصارت عاقلة،ستكون ربّة بيت ناجحة،بعدما تعذر عليها إتمام دراستها.
واصل(ماهر)مراجعاته إلى بيت(ملاّ)في قرية نائية،راح يحقنه بمشاريب ويمدّه كل ليلة الجمعة على سرير في غرفة شبه معتمة قبل الغروب بقليل قبل أن يؤذن المؤذن،يجبره على إغماض العينين،عدم التحرك،عدم التنفس بعشوائية،عليه أن يصب تركيزه على ما يردد وما يقرأ من آيات الرقيّة،فهو كما زعم جناب المحترم مسكون بـ عمل خبيث من جهة مجهولة لسبب ما،قد يكون من باب الانتقام منه،وهذا أكثر الأسباب شيوعاً.
تفيض روحه بسعادة،يعود مخدراً بفرح قادم،كل شيء سيرقص معه يوم يسترجع حياته النائمة،(مها) سيحتضنها،سيأخذها إلى كل الحفر والمرتفعات التي جلس عليها يقرأ رسائلها،سيعيد في ذهنها إحتراقات أعصابه وهو يطارد الكلمات كي يكتب لها قصيدة.
(مها)تستقبله بمودة،أمّه فرحة،تكاد تلمح ذلك الكائن الخامل،متوتراً سيقذف في القريب العاجل جملة صبيان في حضنها،تعويضاً عن فقدان الزوج وعدم تمكنه بتلقيحها بـ جيش أحفاد لكانوا الآن يسدون كل فراغات أحزانها.
تبقى الصخور جلاميد مهما تم معالجتها فهي تظلّ جامدة،سواء في البنايات أو النصب في تقاطع الشوارع، أو سحقها إلى دقيق في الصناعات.
(مها)،بدأت تنشج،تتذمر،ليس بوسع أحشاءها الصمود وهي تصطلي بنار الحرمان،ساعات الليل صارت تضخها بكوابيس وشياطين،تتلوى،تكاد تصرخ،تريد شيئاً مثل الحلوى،مثل لعبة مرنة،فيه دفء ودفق ماء وظيفته بناء الحياة،ماء السعادة الوقتية،تريد حرارة تنسجم وتتناغم وتندمج مع حرارتها،تريد أن تتذوق طعم الحب الذي حلمت به مذ وجدت نفسها حالمة يوم خرجت من بيضة الجهل،لتصطدم بكائن قريب وليس بغريب،وسيم وشاعر،يمتلك مواصفات(السوبرمان)،كانت تشعر به،كان دائماً متحفزاً،متوتراً،يكاد يصرخ من وراء الـ ستر الخفيفة،كانت تموع بين أحضانه وهو يضمها بعنف ورغبة،كان شيئه الممتع كأزميل أو قضيب حديد ينبت على بطنها،كان أطول منها،لحظات الالتحام،كانت تشعر بأنه يبتعد ويدنو منها،يمارس وظيفته السريّة وهو غاطساً في دنيا خياله،كانت فرحة بما يفعل،مانحة نفسها ومسترخية،كي ينجز رغبته بالسرعة الممكنة،رغم علمها سرعة إنجاز رغبته ليست لصالحها،كانت تود لو يبقى الليل ليلاً أبدياً،ووقفتها معه وقفة صنميّة،والشعور النابت فيها مطراً كونياً،لكن ليالي الحرب غير أمينة،رجال السلطة يجوبون الأزقة بحثاً عن متسللين أو طيّارين زعموا أنهم أسقطوا طائراتهم.
كان دائماً يتراخى متأوهاً بعدما تشعر أن حديدته النابتة على بطنها قد تراخت أو تعبت،تحدق في عينيه،في عينيه سعادة لا توصف.
هل حوّلت الحرب شباب البلاد إلى نساء.؟سؤال يضج،لا تريد جواباً،فالجواب واضح،بدأت البلدة تعج بالفتيات العوانس،والشباب شغلتهم الحرب وفقدان الزملاء،لم تعد هناك رغبات لتكملة الدين.
تدنو(مها)من(ماهر)ناحتاً عينيه في الفراغ،تحاول أن تحقنه بجرعة أمل،همسات عشق،تتجاوز دائماً الخط الأحمر،تتفوه بكلمات تجرح المشاعر،تنهض براكين الرغبة،تزلزل صلب أي ذكر لو سمعها،لكن(ماهر)غير متواجد،جسد بلا معنى،دمية تعمل ببطارية،تتنفس،تنظر،تنطق،لكن روحها حجريّة.
تتعب(مها)تغطس في نوم وحرقة،تنشد إتمام سعادتها في الحلم،لكن الحلم زمن الحرب كوابيس.
(ماهر)مهزوماً،مأزوماً،حتى الشعر تنصل منه.
لم تجد(مها)وازعاً يبقيها نمرة جائعة ونمرها معطل،فقدت لسانها في لحظة احتراق:
((لم أعد أطيق هذه الحياة الكاذبة.!))








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة