الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
27 يوماً في بغداد - ج8
محمد ابداح
2014 / 12 / 11الادب والفن
وفي الحقيقة لم يكن ذلك الشخص الذي يبكي شوقاً وحنيناً وقلقاً إلاّ أنا ! ، بكيت حتى شعرت بطعم دموعي المالحة تنساب على وجنتيّ ثم تدخل في فمي ، وبعدها مسحت دموعي ونظرت متأملاً في الأضواء المنعكسة على النهر ، ولكي أكون صادقاً تماماً ، لم يسترعي انتباهي فقط تلك الأضواء الساحرة والمنعكسة على سطح نهر دجلة ، وإنما أيضاً روائح الشواء الفاتنة ، والتي تأسر أنف ومعدة وقلب كل من يتمشى على ضفاف نهر دجلة ، رائحة شواء السمك الطازج ، جنباً لجنب مع رائحة الكباب العراقي اللذيذ ، معاً يشكلان مزيجاً يشعرك بالجوع ولو كنت شبعاً! ، وكم كنت وقتها جائعاً ، فأنا لم أتناول شيئاً منذ الصباح غير الشاي والعصير ، وقد كنت متردداً في الإقدام على شراء وجبة سمك مشوّي ، رغم الإغراء الشديد لرائحة الشواء الزكية ، غيرأني آثرت الصبر وتوفير المال قدر المستطاع ، وقلت في نفسي ، بثمن تلك الوجبة أستطيع أن أشتري بعض الخضار والفواكه والخبز ، وأضعها في غرفتي ، فتكفيني فترة أطول.
ولست أدري كيف أني قد تذكرت قصة كنت قد قرأتها سابقاً عن سوق في بغداد ، كوني أحب القراءة كثيراً ، فالقراءة تفيد الإنسان كثيراً حتى دون أن يعلم ذلك ، فقد قرأت أنه كان ثمة سوق قديم يدعى سوق الأحوال الشخصية في أحد أحياء مدينة بغداد في عصر الخلافة العباسية، ولم يكن هذا السوق مثل باقي الأسواق المعروفة ، والتي يباع فيها أصناف البضائع والمنتوجات من مواد غذائية واستهلاكية أو أدوات منزلية وخلافه، بل هو سوق من نوع خاص وغريب ايضا ، ولا يوجد له مثيل في جميع أنحاء العالم.
كان يجتمع الخلق في ذلك السوق على مختلف أعمارهم وثقافاتهم ومستوياتهم وطبقاتهم الإجتماعية ، فقراء وأغنياء، مثقفين وأميّين، تجار ومتسولين، وكانوا يتحاورون فيما بينهم من أجل بيع وشراء أحوالهم بين بعضهم ، وكانت الأحوال المعروضة للبيع والشراء في السوق تشمل كافة الأحوال التي قد تصيب البشر، وبحيث يكون الشخص بائع ومشتري في ذات الوقت، فعلى سبيل المثال يأتي شخص غني ويملك المال ولكنه لايملك الصحة، ويأتي فقير معدم يملك الصحة والقوة الجدسية ولكنه لا يملك المال فيأتي إلى سوق الأحوال الشخصية كي يبيع حاله لشخص آخر ، ولكن الغريب في نهاية اليوم أنه لا يتم تسجيل أي حالة بيع أو شراء في هذا السوق، فبعد التشاور والتحاور يجد الأشخاص أنفسهم بأنهم ورغم سوء أحوالهم ، إلا أنهم يفضلون أحوالهم على أحوال غيرهم، بل ويحزنون عند سماع قصص أحوال غيرهم، فيحمدون الله كثيرا ويعودون من حيث أتوا.
نظرت للمباني المضيئة والشوارع على الضفة الأخرى من النهر، فرأيت ذلك المبنى الطويل ، وهو عمارة البريد ، فخطر لي الذهاب إليها ، فلربما قد بات الآن متاحاً للعامة إمكانية الإتصالات الدولية ، وخصوصاً بأن الجندي قد أخبرني سابقاً بأن مبنى البريد يبقى فاتحاً على مدار الساعة ، ولذا توجهت نحو نفق التحرير ، وبدأت بنزول درجاته ، كان النفق مضاءاً وفارغاً من المارة ، ولكني في منتصف النفق شاهدت أمامي فجأة رجلاً ثملاً يترنح في مشيته ، وبيده بلطة حديدية كتلك التي يستخدمها الشيعة في طقوس اللطم والتطبير الدموية في ذكرى مذبحة كربلاء ، حاولت الإبتعاد عنه وتجاوزه قدر المستطاع ، ولكن رغم إتساع النفق ، إلا أنه توجه نحوي بتثاقل شديد ، محاولاً منعي من المرور ، ثم قال لي ملوحاً ببلطته : عطني !!
فقلت له وأنا أحاول الإبتعاد عنه : شنو أعطيك ؟؟
رفع بلطته للأعلى قائلاً : أقلك عطني يلاّ !! ، ثم مد يده الأخرى فاتحاً إياها كمتسول يطلب صدقة!
كان الوقت قد فات للهروب ، ونحن في منتصف النفق ، ولم أتمكن من تجاوزه ، فقد بات قريباً جداً مني، وخشيت الإستدارة هرباً كيلا يضربني ببلطلته على ظهري أو رأسي من الخلف ، فبقيت متيقظاً ومتحفزاً له ، وكلما حاولت التراجع للخلف اقترب مني أكثر مهرولاً بخطوات متعثرة ومتمايلة !
لم أكن أعلم حقاً ماذا عليّ أن أصنع ، كان ينظر إليّ بعيون جاحظة من فرط الثمالة ، وكأنه يركز نظره عليّ ويستجمع قواه لضربي ، فشعرت بأن عليّ أن أخرج محفظتي وأناوله إيّاها بسرعة ، ولكني كنت في صراع شديد مع نفسي ، فتلك ستكون مصيبة كبرى ، وهي أن أفقد ماتبقى معي من مال ، فماذا سأفعل حينها في هذه الغربة مجهولة المصير ! ، وكيف سأدفع أجرة الفندق ..
مرت لحظة ولكنها بدت كأنها فترة طويلة من الخوف والترقب ، ولم يطل الأمر بي حتى رأيت الرجل يهوي ببلطته على رأسي ، فرفعت يدي في ردة فعل سريعة ولا إرادية ، ومسكت معصمه ، قبل أن يضربني بها، ودفعته بيدي الأخرى كي أبعده عني ، فسقط على الأرض وهو يصرخ في حالة هستيرية مرعبة ورهيبة! ..
ثم أطلقت العنان لأرجلي وبدأت بالركض ، ولم أتوقف إلا وأنا خارج النفق من الناحية الأخرى ، ولم أدري كيف تمكنت من القفز فوق درجات النفق بخطوتين أو ثلاث فقط حتى الآن ، كان قلبي يخفق بتسارع شديد ، حتى أني شعرت بألم فيه وبأنه سيتوقف ، نظرت إلى عمارة البريد وتوجهت نحوها مسرعاً ، ورأيت رجال الجيش يقفون أمامها فأخبرتهم بما جرى ، وبأنه ثمة لص ثمل داخل النفق وهو يشكل خطراً على المارة ، فهز الجندي رأسه قائلاً : حسناً سنراه لاحقاً ! ، وكأنه لم يكترث لما أقول ، أو ربما أن مثل تلك الأمور هي طبيعية واعتيادية في شوارع بغداد !
سألت الجندي إن كان قد أصبحت الإتصالات الدولية متاحة للعموم ، فأجاب بالنفي ، وبأن الإتصالات الدولية لازالت مقطوعة مع كافة الدول ، وعلمت منه أن هذا الأمر باقياً حتى إشعار غير محدد.
استدرت عائداً ، ولكني وقفت أمام نفق التحرير ، ولم اشأ المغامرة ثانية بالنزول وحدي ، فانتظرت برهة قدوم بعض المارة ثم نزلت معهم إلى النفق ، عبرنا النفق ولم يكن ذلك الشقي الثمل موجوداً فيه ، ثم خرجت للناحية الأخرى ، متعباً ومرهقاً وقلقاً ، فأسرعت باتجاه الفندق ، أخذت المفتاح من أبو مهدي وصعدت لغرفتي ، أبدلت ملابسي ، ثم فتحت الخزانة ، والتي كنت قد رفضت في البداية أن أوضب أمتعتي فيها ، آملاً بأن رحتلي لن تطول ، ولكن الآن الأمر قد اختلف ، وبدى لي بأن إقامتي ستطول أكثر مما ظننت.
وضبت أمتعتي في الخزانة الخشبية، وتأكدت من إغلاق باب غرفتي جيداً، أبقيت ضوء الغرفة منيراً، ثم أشعلت راديو الترانستور الصغير ، واستلقيت على السرير.
وقد بدى لي أنه لايزال في عينايّ بقية من الدمع ، فبكيت بصمت، متأملاً في أرجاء غرفتي وجدرانها الموحشة ، نظرت إلى وردة الجورية على الطاولة فتناولتها ، وقد بدأت بالذبول ، ففتحت قنينة ماء بلاستيكية للشرب، كنت قد إشتريتها سابقاً، وقد تبقى فيها بعض الماء ، فوضعت الزهرة فيها وأعدتها إلى الطاولة ، ثم بدأت أقلب مفتاح موجات الراديو ، فاستمعت لبعض الأغاني الشعبية العراقية ونشرة الأخبار، وبرنامجاً عن الشعر والأدب العربي المعاصر ..
أذكر بأن معدتي كانت تؤلمني بشدة، وشعرت بحرقة فيها، حاولت النوم ، ولكني لم أستطع منع نفسي من التفكير في ذلك الموقف الرهيب ، والذي تعرضت له داخل نفق التحرير ، مع ذلك اللص الثمل الحقير ، لقد كان على وشك قتلي ! ، فقط من أجل حفنة من النقود ، وربما كان يريد المال كي يتشري مزيدا من الخمر وليس ليأكل أو يطعم أسرته، إذن فالفقر والجوع لم يكن دافعاً له، ولكن ربما الإدمان هو ما دفعه لمحاولة السرقة ، كي يشتري الخمر ، فما الذي دفعه للإدمان أصلاً !.
لقد اعتادت المؤسسات والهيئات الدولية عمل أبحاث ودراسات ميدانية تشمل مدن وعواصم عالمية وسكانها، وذلك من خلال مراقبة وتحليل الظروف المعيشة ، وتقييم جودة الحياة والخدمات المقدمة في تلك المدن، واعتمدت في تقييمها على معايير دولية ثابتة ، يعلمها كل صاحب علاقة بهذا الشان ، ابتداءاً من الصحفيين ، وحتى أطباء علم النفس ، ومن بين تلك المعايير الدولية المصنفة والمعتمدة لدى كافة أجهزة حقوق الإنسان على سبيل المثال وليس الحصر:
الظروف السياسية والاجتماعية والاستقرار السياسي، والأوضاع الأمنية، ومعدلات الجريمة، وسلطة القانون وحقيقة تفعيله وتطبيقه على الجميع بشكل عادل ، فضلاً عن معدلات الفقر والبطالة، ونوعية الرعاية الاجتماعية، والظروف الاقتصادية والتنمية الشاملة، ومنها قوانين الخدمات المصرفية، والمعاملات المالية، والتسهيلات البنكية والإئتمانية وغيرها ، وكذلك القضايا الثقافية والرقابة والقيود المفروضة على الحريات الشخصية، والصحة والنظافة وجودة الخدمات الطبية المقدمة ، والأمراض المعدية والسارية ، وسبل مكافحتها، ومياه الصرف الصحي، وطرق التخلص من النفايات، وكذلك الأمور المتعلقة بقضايا التلوث البيئي، ثم التربية والتعليم والأوضاع العامة في المدارس والجامعات، والخدمات العامة والنقل والكهرباء والماء، والمواصلات العامة، وقضايا الازدحام المروري، وأمور الترفيه والرياضة والفرص التي تقدمها الدولة لمواطنيها لإطلاق ابداعاتهم وهواياتهم ، وكذلك السلع الاستهلاكية ، كتوافر الأطعمة والمواد الاستهلاكية، والسيارات ، فضلاً عن قضايا الإسكان والسكن، وكذلك سجلات الكوارث الطبيعية، والحروب والنزاعات الأهلية المسلحة.
ولايختلف عاقلان ، أنه في حال استثنينا دول الخليج العربي ، فإن كل ما سبق ذكره هي مجرد أوهام وأحلام لكل مواطني الوطن العربي المترامي الأطراف، لكن رغم ذلك ، فإن كل تلك الأسباب القاسية لاتبرر إدمان البشر وتغلغل الشر في صدورهم ضد بعضهم البعض ، إذن فلم ينتشر الخمر والإدمان على تعاطيه ، بهذه الكثافة في بغداد ؟
قد يبدو الحديث عن الخمور وشاربيها ومدمنيها ترفاً ، في بلد يحاصره الخوف والفساد والقتل حد الجنون ، خصوصاً بعد احتلال العراق لدولة الكويت، وما عقبه من توتر وانفلات أمني بكل رقعة من تراب العراق، ورغم أن الواقع الأليم الذي يمر به الشعب العراقي قد يدافع عن حصول موقف شاذ وعجيب كهذا الموقف الذي تعرضت له قبل قليل ، لكن لاأدري إن كان بالإمكان تفسير حدوث مثل هذا الأمر بأي مرجع من قواميس علم النفس الإنساني ! ، ولذا فعلى من يقع اللوم في ظل هذا التناقض الصارخ والذي يعيشه المجتمع العراقي العربي المسلم!
إن هذا السؤال قد يضرب خاصرة بغداد كلما تكلم زائر بسؤال، عن سر بيع الخمور وانتشار البارات بهذا الشكل الكثيف والمريع ، في مدينة كانت أشهر عاصمة للخلافة الإسلامية على مر التاريخ ، قد لا يكمن الجواب في القانون العراقي ، فهو لا يمنح المسلم اجازة لبيع الخمور، ولكنه يسمح لبقية أبناء الطوائف، كالمسيحين والايزيدين، ولكن قد يعود مردّ التناقض في سلوك الناس، هو بقبولهم شرب الخمر بالنسبة للجميع ، مسلمين وغيرهم ، ورفضهم التام شعبياً ورسمياً، احتقار شارب الخمر، ومن حسن حظ البغداديين أن اجهزة الرادار لاتكتشف المشروبات الكحولية ، وإلا لفضح المستور، وبانت قناني وزجاجات الخمر في كل زاوية في بغداد تقريباً.
ولذا فإن الذي يمنع من تعاطي المشروبات الكحولية وبيعها ليست القوانين النافذة، وإنما الظلم والفقر وضعف الوازع الديني ، والذي خبا نوره من صدور الناس ، في ظل موروث ثقافي وشعبي تاريخي وخبرة طويلة في معاقرة الخمر وملاطفة النساء ، موروثات سلبية تمتد جذورها إلى صدر الدولة العباسية وقصص هارون الرشيد وجواريه الحسان ، وليالي بغداد الحمراء.
وربما يكون الأمر أبعد من ذلك بكثير، ففي عمق التاريخ ، فإن بلاد ما بين النهرين عرفوا الخمر قبل تسعة آلاف عام من الميلاد، واطلق السومريون اسم (ماء الحياة) على الخمر، وقد ورد في اسطورة جلجامش السومرية، ان انكيدو كان يهيم في البراري ويعيش مع الحيوانات، وما إن أكل الخبز وشرب سبع جرار من البيرة حتى صار يرقص ويغني فهربت منه الحيوانات وما عادت تأمنه وهي تشم فيه رائحة الخمر !، وليست مبالغة حين يردد المواطن العراقي ابياتاً من الشعر للشاعر العراقي مظفر النواب:
لم يعد يذكرني منذ افترقنا سوى قلبي والطريق..
صار يكفيني كل شيء طعمه طعم الفراق..
بعدما تم بين قلبينا الطلاق..
ويعد الخمرمن اكثر المواضيع نقاشاً وجدلا وتحريما وتحليلا من قبل البشر بل والديانات السماوية والوضعية ، فهو حرام في الدنيا وحلال في الجنة ! ، ويجوز تعاطيه للعلاج في بعض الحلات الضرورية القصوى ، ومنذ أن رأت البشريه الحياة على وجه الارض والى يومنا هذا والناس يتغنون بالخمر ويصفونه شعراً ، فقد حلت امرأه اعرابيه ضيفه على بيت من بيوت العرب في قديم الزمان فسقوها خمرا فلما دارت برأسها قالت هل تشرب نسائكم منه قالوا بلى قالت فانتم قوم لايعرف احدكم من هو ابوه !، ويرى ابن المقفع وهو لم يكن ضد شرب الخمر ، وإنما كان على مبدأ الاعتدال في تناوله فيقول :
سأشرب ما شربت على طعامي ثلاثا ثم اتركه صحيحا
فلست بقارف منه آثاما ولست براكب منه قبيحا
لقد اشتهر الكثير من الشعراء واقترنت اسمائهم بالخمر ونظموا القصائد والابيات في التغزل بها ووصفها ومن اشهرهم كان عمر الخيام وابو نواس وحافظ ، وبالرغم من التحريم والتهديد والوعيد لشاربها في الاسلام الا انها ظلت ملازمه لكل العصور ولها ندمائها وجلاسها وشعرائها والكثير منهم تغزلوا بها من كثرة عشقهم لها وتولعهم بها ومن امثال الغزل في الخمر :
فقد تجلت ورق جوهرها حتى تبدت في منظر عجب
اشهى الى الشرب يوم جلوتها من الفتاة كريمة النسب
فهي بغير المزاج من شرر وهي لدى المزج سائل الذهب
كأنها في زجاجها من قبس تذكو ضياء في عين مرتقب
إذن فالأمر يتعدى الوازع الديني ، أو الظروف القاسية التي يمر بها العراقيون ، وقد كان عليّ البحث لاحقاً في حقيقة وأسرار الإرث الثقافي والإجتماعي للشعب العراقي ، فقرأت الكثير في هذا المجال، لقد انتصر الإسكندر المقدوني على جيش كسرى، واحتلّ بلاد فارس والعراق ، لكنّه تفاجأَ ووجدَ أنّ سكّان العراق او بلاد الرافدين قد أرهقوا جيشه لكثرة تمرداتهم الشعبية وثوراتهم ضدّ جيش احتلاله وما كبّدوه له من خسائرٍ جمّه في الأرواح والمؤن ، فكتب الأسكندر هذا الى استاذه ارسطو يشكو اليه حجم معاناته في العراق ، واقترحَ على استاذه كحلٍ لمشكلته أن يقوم بأجلاء كلّ العراقيين الى خارج العراق ! ، وأن يأتي بشعبٍ من مقدونيه ليسكنوا العراق بدلاً عنهم فأجابه ارسطو بأن هذا رأيٌ جيد بشرط أن يقوم الإسكندر بتغيير تربة أرض العراق بأكملها والطعام الذي تُخرجه هذه الأرض كما عليه حجب هواء ومياه العراق ونسيم مياه دجلة .!! وإلاّ فأنَّ مَن ستأتي بهم من مقدونية سيصبحونَ مثل العراقيين في طباعهم .!!
لا ينبغي الإعتقاد ابداً انّ ما نصح به ارسطو لتلميذه الاسكندر المقدوني قد كان رأياً عابراً او ساخراً، فأنّ ما يحدث في العراق الآن هو تطبيقٌ فعليّ لما اشار به ارسطو نظرياً وعلمياً ، فالإنسان ابن بيئته ، وقد ثبت انّ التربة العراقية خصبة جداً ، فكلّ الإنتاج النباتي يعد من اجود الأصناف في العالم وهو يحتوي على كافة العناصر اللازمة للنمو والنشاط الهرموني والصحة الجيدة والبنية الجسدية القوية ، كما أن الهواء رطب وحار، الأمر الذي يؤدي لنشاط ذهني مستمر ، كما ذكر ابن خلدون في مقدمته عن تأثر طبائع وسلوكيات البشر ببيئتهم .
وما اشار به ارسطو على المقدوني بضرورة تغيير الماء أيضاً، فلأنّ مياه الرافدين هي من أعذب المياه في العالم واكثرها احتواءً على المعادن والعناصر المغذّية ، وهذا هو اصلاً قانون البيئه، فكيفما تكون البيئة يكون إبنها، فنرى انّ ساكني الجبال يختلفون عن سكّان الصحراء وسكان السواحل البحرية ، فكل من هذه البيئات تفرض على ابنائها نمطاً معيّنا في العادات والتقاليد والمفاهيم، ومن الأمور المثبتة بهذا الشأن في كتاب الفقيه (محمد بن سحنون التنوخي 256هـ ) أحد أبرز زعماء المالكية في عصره ، فقد قال : ( دخل عليّ أبي وأنا أؤلف كتاب تحريم المسكر، فقال : يابني، إنك ترد على أهل العراق ، ولهم لطافة أذهان ، وألسنة حداد ، فإياك أن يسبق قلمك لما تعتذر منه ! )، إن المتمعن في الحديث السابق ، وخصوصاً فيما يتعلق بتحليل طباع أهل العراق وسلوكياتهم فهم وفق وصف ( التنوخي) أصحاب لطافة ذهنية ولسان حاد!، أي هم دائما بمزاج حاد تماماً مثل جو وبيئة العراق الرطبة والحارة ، لكن ورغم ذلك كله ، فلا يفسر ذلك انتشار الخمر بهذا الشكل الرهيب في العراق ، والإدمان على معاقرته رجالاً ونساءاً على حد سواء !، لذا فثمة تفسير آخر.
إن من أهم مظاهر التشويه والتسويف الذي لا يمكن تبريره ، هو إفتاء بعض فقهاء العراق بجواز شرب الخمر الى الحد الذي لا يُسكر!، وعدم معاقبة شارب الخمر من ناحية ثانية، فوفقاً لابن حزم الأندلسي في كتاب المحلى :( أباح أبو حنيفة شرب نقيع الزبيب إذا طُبخ ، وشرب نقيع التمر إذا طبخ ، وشرب عصير العنب إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، وإن أسكر كل ذلك ، فهو عنده حلال ، ولا حد فيه ما لم يشرب منه القدر الذي يسكر ، وإن سكر من شيء من ذلك فعليه الحد، وإن شرب نبيذ تين مسكر ، أو نقيع عسل مسكر ، أو عصير تفاح مسكر ، أو شراب قمح او شعير او ذرة مسكر ، فسكر من كل ذلك أو لم يسكر ، فلا حد في ذلك أصلا ! ، وأما الأشربة التي تتخذ من الأطعمة كالحنطة والشعير والدَخَنْ والذرة والعسل والتين والسكر ونحوها فلا يجب الحد بشربها ، لأن شربها حلال عندهما ، وإن كان حراما لكن هي حرمة محل الإجتهاد فلم يكن شربها جناية محضة فلا تتعلق بها عقوبة محضة ، ولا بالسكر منها! ، واختلف الفقهاء في سائر الأنبذة المسكرة ، فقال العراقيون : إنما الحرام منها المسكر ، وهو فعل الشارب ، وأما النبيذ في نفسه ، فليس بحرام ولانجس ! ، وهذا قول سفيان الثوري ، وأبوحنيفة ، وسائر فقهاء الكوفيين ، وأكثر علماء البصريين ان المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لاالعين !) ..
إنه لايخفى على أحد مدى خطورة مثل تلك التأويلات ، وأثارها في ارتكاب المعاصي وشرب الخمر مما هو في غاية الوضوح، فوفق بعض الفقهاء يجوز أن تشرب الخمر أيها المسلم ، ولكن ليس لحد السكر، فهل هذا الكلام أيها الناس منطقياً ومعقولاً أصلاً ؟ ، فمن يشرب الخمر هل تضمن له أنه لن يطمع في شرب المزيد حتى يفقد عقله!، لقد أجاد ابن حزم في الرد على هكذا اجتهادات وافتراءات ، حيث قال في مناقشة أصحاب هذا القول : ( فنقول لهم أين وجدتم هذا التقسيم؟ أفي قرآن؟ أم في سنة صحيحة ، أو سقيمة ، أو موضوعة أو في إجماع ، أو دليل إجماع، أم في قول صاحب، أم في قول أحد قبلكم ، أم في قياس؟ أم في رأي يصح؟ فلا سبيل لهم إلى وجود ذلك في شيء مما ذُكر)، ومع الأسف انتشر هذا القول في فقهاء العراق زمنا طويلا ، للحد الذي وصل إليه العراقييون من شرب ومعاقرة الخمر وكأنه أمراً طبيعياً .
ومهما يكن، فستبقى الخمره مرافقه للانسان وباشكال متنوعه واساليب متنوعه وانواع متعدده ففي بعض البلدان تراها مبذوله امام الناظر ينال منها مايشتهي وفي اخرى محدودة على استحياء وبعض آخر يعاقب عليها القانون ويجرم بائعها وشاربها وبعض الدول تفجر حاناتها واماكن بيعها وهكذا يجري الحال فالجميع يتناولها ويتداولها كل على طريقته وباسلوبه.
وبعيداً عن سيرة الخمر ، شعرت بأنني قد تعبت من كثرة التفكير ، ومعدتي تؤلمني وكأنّ فيها شيء يغلي بوقود الخوف والقلق في تلك الليلة ، فلم أدر بأي ساعة قد نمت.
استيقضت في صباح اليوم الثالث ، على صوت طرقات عاملة التنظيف على الباب ، نهضت وفتحت لها الباب ، وكما في المرة السابقة لم تجد أي شي في سلة المهملات، قامت المرأة بتفقد الغرفة جيداً ونظرت لغطاء السرير ، ثم نزعت غطاء المخدة وأبدلته بآخر جديد ، ثم غادرت الغرفة ، فأغلقت الباب خلفها فوراً ، وعدت للسرير، لم أكن في مزاج جيد ، وشعرت بأنني مرهق جداً وكانت معدتي تؤلمني أكثر من الأمس ، فقررت عدم الخروج من غرفتي الآن ، وما إن وضعت رأسي على المخدة الجديدة ، حتى عاد طرق الباب من جديد ، فقلت يا إلهى .. يبدو أن المرأة نسيت شيئاً ما في غرفتي ، نهضت وسرت متثاقلاً نحو الباب وفتحته ، فإذا بها ( نوال) ابنة صاحب الفندق ، تحمل بيدها صينية خشبية وعليها كوب حليب أبيض ، وخبزة دائرية تلمع ، كأن عليها طبقة من العسل! .
قالت متبسمة على استحياء : صباح الخير !
فأجبت فوراً : هلا .. صباح الورد !
دفعت بالصينية قائلة : أبوي يسلم عليك ، ويقولك هذا الريوق إلك ، صحتين وعافية !..
تناولت الصينية من يديها وشكرتها كثيراً ، فابتسمت بصمت ثم ذهبت ، نظرت إلى الفطور وقلت في نفسي : يا إلهي كأنه طعام وقد نزل من السماء ، شكراً لك يارب .. ، جلست على السرير ثم بدأت بتناول قطعة الخبز، وكانت بالعسل فعلاً ، لذيذة جداً ، وشربت كأس الحليب ، وبعدها شعرت بارتياح شديد في معدتي ، فقد زالت الحرقة والألم الذي كنت أشعر به طيلة الليلة الفائتة.
توجهت بعدها للحمام كي آخذ دشاً أجدد به طاقتي ، كان الحمام مزدحماً فانتظرت قليلاً قبل أن يحين دوري ، وبعدها عدت لغرفتي ، وأبدلت ملابسي ، ثم نزلت للمضافة نشطياً ..
شكرت ابو مهدي قائلاً : أبومهدي أنا أريد أشكرك على الريوق ، بصراحة كان كلّش زين..
فقبال : أغاتي أبو جاسم ، لاتشكرني .. هذا واجبنا ! ، صحتين وعافية على قلبك..
شكرته مجدداً ثم توجهت للمضافة ، جلست قليلاً وأخذت أستمتع بشرب الشاي ، وقد عزمت على أن أخرج اليوم ، وأبحث بنفسي عن عمل ، ولكن حينها دخل ذلك الضابط ( أمير يونس) مع زملائه إلى المضافة ، فسلم عليّ ثم جلسوا لشرب الشاي ، وبعدها نهض أمير وجلس بقربي قائلاً : صباح الخير محمد ! ، شلونك اليوم ؟
فأجبت : الحمد لله .. بخير من الله ..
قال : آخ .. شكو ماكو ! ، شنو عندك أخبار جديدة ؟
قلت : والله يا سيد أمير الأخبار كلها عندكم أنتم ، ثم أكملت : أنت لازم تطمّني على الأخبار الجديدة ، فسألته حينها قائلا : ما تعرف متى ستفتح الحدود ؟
قال : لا والله يا بو جاسم ، ما في أخبار جديدة ، بس الأمور ماتطمن ، لأن أمريكا أعلنت أن موضوع تحرير الكويت هو شأن داخلي عربي ، على العرب حله بأنفسهم ، لكن أمريكا خداعة ! ، تقول شي وتفعل شي ثاني !
قلت : مش فاهم إيش قصدك يعني ؟
فأجاب فوراً : لا خلاص .. لاتتعب روحك بالتفكير ، ان شاء الله ما يصير إلا كل خير ..، ثم أكمل كلامه قائلاً : هذا العراق العظيم! ، إحنا جاهزين لأمريكا وأم أمريكا بعد!! ..
لم يبدو كلامه مطمئناً ، ولكن على أية حال ، لم يطل جلوس أمير بقربي ، فقد هم بالنهوض قائلا : إيه أبو جاسم إحنا طالعين الحين ، ثم أكمل : أنت أمورك زينة ؟ مو محتاج شي ؟
فقلت له : الله يبارك فيك يا سيد أمير ، كل شيء تمام الحمد لله ..
أردت إخباره عن الموقف الذي حصل معي في الليلة الفائتة داخل نفق التحرير ، ولكني كنت متردداً في ذلك ، لأنه قد يعتبر هذا الأمر عادياً ، وربما سيقول لي بأن عليّ الحذر فقط ، وعدم الخروج من الفندق في الليل ، وهذا كل شيء ، لذا لم أخبره ..
قال فجأة : أبو جاسم !! أنا اشوف بعيونك حشي ( يقصد كلام) ، ترى أنا قلتلك إعتبرنا مثل إخوتك ، إنت محتاج أي شي ! أمان الله عليك تكلم ! ، ترى ورب الكعبة أزعل منك هسّه !!!
قلت فوراً : لا والله .. مافي شي مهم ، بس أنا بصراحة كنت حابب أتصل بأهلي في الكويت ، وبدي أطمئن على أخبارهم ، أو على الأقل أتصل بدار جدي في الأردن ، لكن الإتصالات مقطوعة ..
فقاطعني قائلا : إيه !!.. رحت عمارة البريد ؟
فأجبته : إيه رحت ، بس الجنود على البوابة قالوا ممنوع الدخول ، والإتصالات كلش مقطوعة ..
قال غاضباً : شنو ! .. الولد على البوابة قالك ممنوع الدخول ؟ ، وقالك بعد الإتصالات مقطوعة ؟
قلت له : نعم .. آه والله .. هذا ما قالوه لي ..
قال : إيه .. هذا ولد القح..( كلمة بذيئة اعتذر عن قولها) ، ثم أكمل : هذا أبو العيو( (كلمة بذيئة) منعك تدخل عمارة البريد ! ، أنا أشوف شغلي وياّه!! ، ثم قال : آه شنو أبو جاسم !! تريد تروح تخابر أهلك في الأردن ؟ ، هسّه أروح وياك يلاّ أخوي ، وأشار لي بالنهوض !!..
نهضت من فوري ثم سرت معهم خارج المضافة ، قمت بسرعة بتسليم مفتاح غرفتي لأبو مهدي ، ثم غادرنا الفندق ، قام أمير بإيقاف سيارة أجرة ، وركبنا فيها على الفور، ثم أمر السائق بالتوجه نحو عمارة البريد، وفي دقائق قليلة كنا نعبرفوق جسر الجمهورية ( جسر الملك غازي سابقاً)، وبعدها استدار السائق من تحويلة فرعية، وسار نحو عمارة البريد، وحينها نظر إلي أمير وهمس لي بأنه من المحتمل أن تكون الإتصالات مع الكويت مقطوعة فعلاً لأسباب أمنية ، ولكنها حتما ليست كذلك مع الأردن ، وأخبرني بأن أطمئن وبأنني ساتمكن من إجراء مكالمة على الأقل مع أهلي في الأردن ، فشعرت حينها بارتياح شديد، وبعد وصولنا ، حاولت أن أدفع أجرة التاكسي ، ولكن نظر إليّ أمير غاضباً وقال : عيب أبو جاسم ! أنت ضيف عندنا .. مايصير تدفع !، ثم قام بدفع الأجرة.
ترجلنا من السيارة متوجهين نحو مبنى البريد، وعندها أشار لي أمير بالإنتظار أسفل درجات المبنى، ثم صعد مع زملائه وتحدث مع الجنود الواقفين أمام البوابة الرئيسية للمبنى، وبعدها مباشرة لوّح لي بالصعود، دخلنا المبنى متوجهين نحو مكتب الإستعلامات، وبعدها ذهبنا لأحد موظفي مقاسم الهاتف ، فتحدث أمير معه قليلاً ، ثم طلب مني رقم هاتف أهلي في الأردن !
أخرجت ورقة من محفظتي ، كنت قد دوّنت فيها بعض أرقام الهواتف الضرورية، كرقم هاتف منزل أهلي في العاصمة الكويتية وغيرها من الأرقام ، ناولت الورقة لأمير وأشرت له إلى رقم هاتف دار جدي في عمّان ، فقرأه فوراً أمام عامل المقسم، فقام الموظف بطلب ذلك الرقم ، وانتظرنا قليلاً ولكن لم يجب أحد ! ، فعاود موظف المقسم الإتصال مرة ثانية وثالثة ، ولكن بلا فائدة !
قال الموظف: آسف لكن لا أحد يرد على الهاتف! ، وحينها نظر إلي أمير قائلاً: ولايهمك أبو جاسم يمكن الحين مافي أحد في بيت جدك ، ثم أكمل : إن شاء الله نرجع مرة ثانية ونحاول الإتصال ..
قلت له : طيب ليش ما نحاول الإتصال بالكويت ؟
فأجاب : والله يا بو جاسم من دون ماتقول ، أنا سألت الموظف بس فعلاً خطوط الإتصال مع الكويت مقطوعة من الكويت نفسها مو من العراق ! ، ثم أكمل: أنا بشرح لك الموضوع بعدين ، وقد علمت لاحقاً من أمير بأن الجيش العراقي نفسه هو من قطع الإتصالات من داخل الكويت ، وذلك لأسباب أمنية متعلقة بظروف تحرير ( احتلال) الكويت، خرجنا بعدها من مبنى البريد، وقد كنت حزيناً لأنني لم أتمكن من الإتصال بأهلي ، ولكني على أية حال قد حاولت ، وسوف أحاول مجدداً.
سرنا في طريقنا بعدها مشياً على الأقدام ، حتى وصلنا لساحة التحرير ، وفي أثناء ذلك اقترح أمير علينا أن نتناول الفطور معاً، فأخبرته بأنني قد تناولت الفطور سلفاً في الفندق ..
ضحك أمير قائلاً : إيه زين ، تفطر ويّانا مرة ثانية !
لم يبدو لي حينها ، أن أمر رفض الفطور معهم سيكون خياراً جيداً ، بل ربما سيكون قراراً غبياً ، فقد كانوا ودودين وطيّبين معي جداً، وخصوصاً بأنهم حاولوا بجهد وصدق استخدام نفوذهم وعلاقاتهم لمساعدتي في الإتصال بأهلي ، وقد كانت فرصة جيدة لنتعرف على بعضنا البعض، ولي أنا شخصياً للإطلاع على طريقة تفكيرالشباب العراقي ، وطريقة عيشهم اليومية، ونوع الحوارات التي يجرونها فيما بينهم ، وطبيعة أحلامهم وسقف أحلامهم، وحقيقة مخاوفهم ، وفضاء الحريات التي يتمتعون بها للتعبير عن آراءهم وأفكارهم ، وفي الحقيقة لقد كانت علاقتي مع أمير وزملائه ومع أبو مهدي وابنه وابنته نوال، وحتى ذلك السوداني اللعين !، خيري ( كازانوفا) ، وغيرهم ، كانت من أجمل العلاقات وأفضل التجارب التي مرت في حياتي.
جلست مع أمير وزملاءه في أحد المطاعم الشعبية، كانت الكراسي والطاولات أمام المطعم مباشرة على الرصيف في الهواء الطلق ، تناولنا فطوراً دسماً على طريقة البغداديين، كباب دمشقي وسلطات ومقبلات متنوعة ، وختمنا الفطور بأكواب الشاي العراقي الثقيل ! ..
تحدثنا جميعنا مع بعضنا البعض في جو عاديّ جداً ورائع ، وكأنه لايوجد حالة حرب ، أو بأن العالم كله يتهيأ لضرب العراق وانقاذ الكويت! تحدثنا في مواضيع شبابية، وفي كل شيء تقريباً، عن النساء والسيارات والملابس ، وعن الهجرة لأمريكا واستراليا وكندا والسويد ، إلا في أمرين إثنين لم نتطرق إليهما أبداً ، وهما السياسة والدين !، فلم نتحدث فيها مطلقاً، فلم يكن ثمة أي إشارة أو حتى تلميح بسيط ، عن التمييز بين مسلم سني أوشيعي ، أو مسيحي أو حتى يهودي ! .
لقد وجدت بأننا نتفق في معظم العادات والتقاليد وحتى الأفكار، سواء في الأردن أو في العراق، فنحن في النهاية عرباً نعيش في وطن عربي واحد ، وأبناء جيل واحد، أخبرني أمير أنه من مواليد محافظة تدعى السليمانية في شمال العراق ، وبأنه يحب ابنة عمه ، وقد خطبها ، وسيتزوج بها العام القادم ، فرحت لذلك الخبر كثيراً ، وباركت له بالزواج سلفاً ، فقال بأنه سيعزمني على حفل زواجه وبأنه سيتشرف بحضوري لذلك الحفل، فقلت بأنني حتماً سأزوره وأحضر حفل زواجه إن كانت الظروف ملائمة وسمحت لي بذلك.
بعد إنتهاءنا من تناول الفطور والحديث ، أخبرني أمير ، بأنه سيتوجه هو وزملاءه إلى أحد المراكز الأمنية ، لأن ذلك من طبيعة عمله ، ولم يذكر لي اين ذلك المركز أو أية تفاصيل أخرى ، وقد كنت متفهاً تماماً لهذا الأمر ، فشكرته على وقوفه معي ومساعدته لي في موضوع الإتصال ..
فقال أمير : أبو جاسم !! خلاص إن واحد مننا الآن ، وان شاء الله رح نعود بالليل ونرجع لعمارة البريد ونحاول الإتصال بأهلك مرة ثانية في الأردن ..
قام أحد زملاء أمير بدفع ثمن الفطور، ثم غادروا المطعم ، بقيت وحدي ، فجلست قليلاً ، ثم نهضت متحمساً ، وأنا أعلم ماذا علي أن أصنع ، وبلا أية مقدما ، أخذت أطوف بين المحلات التجارية ، في كل من شارع أبو نواس وفي السعدون وفي الرشيد، ألقي السلام والتحية على من أجده في المحل، ثم أبادر في السؤال مباشرة : هل يوجد عندكم عمل ؟ .. هل عندكم وظيفة شاغرة ؟..
محالٌ لبيع الخضار، وأخرى لبيع العصائر، مطاعم ومقاهي شعبية وكفاتيريات، ومحال لبيع الأجهزة المنزلية، وغيرها لمواد البناء، مكاتب السفريات، محطات الوقود ، مكتبات لبيع القرطاسية والكتب ، أي شيء وأي محال صادفتها في طريقي، كنت أعرض عليهم خدماتي للعمل لديهم ، جميع المحلات باستثناء بارات ومحلات بيع الخمر ، والتي كنت أتجاوز عنها، مع أني في الحقيقة وقفت أمام أحد البارات الفخمة في شارع الخيام ، وأنا أشاهد الزبائن تملأ المحل ، تدخل بأيدي فارغة ، ثم تخرج محملة بأكياس تحوي قناني وزجاجات العرق والويسكي والنبيذ، نقود كثيرة يصرفها العراقييون على شرب الخمر !، كما يصرفونها على مضاجعة بنات الهوى وفتيالت الليل!.
ولكني كنت أصرف النظر عن محاولة البحث عن عمل في مثل تلك المحلات ، كنت أمر من أمامها ثم أتجاوزها مسرعاً ، وأنتقل للمحل الذي يليه ، وفي الحقيقة كنت متحمساً جداً ، ويبدوا أن الريوق البغدادي ( أي الفطور الدسم ) قد منحني قوة وطاقة هائلة على المشي ، فلدي في دمي الآن الكثير من السعرات الحرارية والدهون التي تناولتها في الصباح كي أحرقها كلها، ولكن كنت ارجو أن تفضي كل تلك الجهود والمساعي الحثيثة في إيجاد عمل لي في النهاية.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. انفراد .. أول حوار الممثلة العالمية كيت وينسلت تكشف أسرار ال
.. أحمد سامى بدوى مدير عام لجنة مصر للأفلام: أسعار تصوير الأفلا
.. فيلم الحريفة 2 يحصد 3.4 مليون جنيه فى أول أيام عرضه بالسينما
.. أحمد سامى بدوى مدير عام لجنة مصر للأفلام :سهلنا دخول كونتينر
.. مهرجان مراكش السينمائي يكرم الراحلة نعيمة المشرقي بحضور نجوم