الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زقنموت (رواية) 23

تحسين كرمياني

2014 / 12 / 11
الادب والفن


لم يجد دافعاً يلقيه خارج البيت،ظلّ النداء المتواصل للصباح وإغراءاته يصطدم بصخرة يأسه،من سقف الغرفة،خيوط هلامية راقصة تهبط،تمتصه،مشلولاً،لا يملك رغبة للنهوض،ينظر بعينين شبه ناعستين،بفكر مخدر،أشباح كما القطن المندوف أوان طغيانه،تظهر وتضمر،شرهة تتلوى قبل أن تتشكل شاشة فضية واضحة،تحقنه باستفزازات إيروتيكية،تشله وتمتص بتروٍ كامل رغباته.
تبخرت من ذهنه نغمات الشعر،لم تعد هناك كلمات عارية،تنفلت من قاموس الوجود،لم يعد هناك فوضى مفردات تصطدم على بوابة الخيال،جسده مرهق،حياة رتيبة لم تعد تشكل هماً يستحق الانشغال به،لم يعد السأم عائقاً،صارا ندّين متآلفين،السأم رجل بلا مأوى،كائن من غير عنوان أو هوية،بلا أرض يسكنها،تائه يجوب فساد هذا العالم،يبحث عن أنفار لا ينتمون للواقع،كائنات فقدت أواصرها بالحياة،تحدوهم رغبات خارج الحسابات العقلانية،خارج المألوف،سريعاً يتصالح معهم،يسكنهم لقدر غير معلوم من الوقت.
كم ساعة بقى تحت تأثير النشوة.؟عجز فكره عن تخمين الوقت،غالباً ما يجيء الفرج من النافذة،جلس يصغي لرعود تتواصل،بدأت تفتر،نهض.
(مها)ما تزال تتمرد عليه،لم تصدق ما يقوله،ما تزال تحمل فكرتها،قولها على لسانها،(ماهر)لم يعد رجلاً.
لكن(ماهر)رجل في العزلة،كامل المواصفات،كائنه يستجيب لغرائزه الذهنية،في معظم الصباحات يجد بللاً في ملابسه الداخلية،فحص نفسه،لم يكن بولاً،لم يحصل أن بال في فراشه،البول واضح وبغيض الضوع،البلل مترسب،حائل اللون،يبقى طازجاً يحتفظ بكامل لزوجته.
نقر ناعم على الباب،خرج،وجد امرأة خالها متسولة،أبقاها واقفة،هرع داخلاً وعاد،ظلّت المرأة تحدّق فيه بذهول،في عينيها عتاب يصرخ،ألم عميق ينزف،لم يجد حلاً ينقذه من ورطته،هزّت رأسها،سحب(ماهر)يده الممدودة،وكفه يعصر النقود:
((أما تستحي يا ماهر.؟))
امرأة تعرفه،قلب ملفات ذهنه،كل شيء يعمه الفوضى،فكره مشتت،جسده أسير لجة عاتية،عيناه لم تعد تريان كما كانتا،لسانه عجز عن إبداء توسل أو سؤال،وجه امرأة لم تمر ملامحها بـ شاشة ذهن معطل،معضلة كونية يسكنها،((كائن فاشل الهوية))،كل شيء فيه يصرخ،لم يجد فرصة ملائمة تسنده لتشكيل هيئتها.
تحرك لسانه:
(آسفة..لم أعرفك.))
هزّت رأسها:
((أنسيت تلك الليلة الباردة.))
((كل الليالي التي عشتها كانت باردة.))
((لا بأس..يبدو أن عقلك كان في يدك.))
(ماهر)ينظر في وجهها،وجه بدأ يتلون،يشرق بألفة وحميمية،بدأ يعلن عن نفسه.
وجه ليس بغريب.!(قال لسانه)
صوتها غائم،يصحو ويخبو:
((وهل بيننا من لم يفقد ذاكرته.؟!))
((ألم يكن شطرك الضائع في هذه الدنيا.؟!))
((شطري الضائع،أنت تتكلمين بطريقة الفلاسفة.))
((محنة واحدة من محننا كافية لجعل المرء فيلسوفاً.))
((لكنني أجهلك،ليس بالتمام،ربما مررت بذاكرتي.!))
((هل حقاً كل من يفقد عضواً من أعضاء جسده،يفقد عقله معه.؟))
((ربما أنت على صواب،فقدان عضو في يومنا هذا يثقل الرأس ليس بالهموم فقط،بل يجبره على الموت أيضاً.))
((أما تتذكرني.؟أم كان عشاءي بلا ملح.؟!))
((تتحدثين عن عشاءٍ مشترك،أين تناولناه.؟في الطفولة ربما.!))
((كلا يا ماهر..بل كان عشاء قريباً.))
((دعينا من الغموض،وضحي لي نفسك.))
(( حسناً..من كان صديقك الأثير.؟))
((يصعب الإجابة،خشية أن أجد شخصاً ينتسب إليك يكون خارج الحسابات.))
((بل كنت توده وكان يعتبرك أخاً لم ألده أنا.!))
((آه..أرجو أنني استعدت بعض ذاكرتي.))
((حسناً..لا تجهد نفسك.؟أنا أمّه.))
((أمّه.!))
((أم موحان.))
توقف سأمه،فقد السيطرة على نفسه،وجدها تدنو،فسح أمامها الطريق،صارت وسط الحوش،آه..نده لسانه، تذكرها،في ليلة نأت من ذاكرته،ليلة ألحت على بقائه،كانت باردة جداً،ليلة عاد مع(موحان)في إجازة قصيرة، في تمام الساعة الثانية عشر ليلاً هبط(موحان)من المركبة،سائقها طلب حبوب وجع الرأس،قادهم(موحان) إلى البيت،خرجت أمّه وأنزلته رغماً عنّه:
((عفواً..إن كنت قد نسيتك.))
((حسناً..))
((أمّي خرجت لتتسوق.))
((جئت إليك.!))
ماذا تريد مني أم(موحان).؟(قال لسانه)
وقفت تتفحص البيت.
((هل من جديد.؟))
((ماذا تعني بجديد.؟))
((ربما كذبوا عليَّ ـ موحان ـ ما زال يعيش.))
((ألم أقل لك أنك فقدت ذاكرتك.))
((كثيرون من جنودنا هربوا إلى جانب العدو خشية على أرواحهم.))
((كلامك لا يسر.))
((كثيرون دفنوا رفاتهم،وأقاموا لهم المآتم،بعد أيّام ظهروا على التلفاز أسرى،تبين أنهم دفنوا رفاة آخرين جلبوا عن طريق الخطأ.))
((دع هذا الأمر جانباً،أنا تأكدت منه.))
((حسناً ماذا تريدين.؟))
((موحان..كان شاعراً.!))
(ماهر)مسك نفسه،ضحكة عنيفة تدفقت إلى فمه،رصدت بوادر سخرية فيه،ظلّت تنظر إليه بصرامة:
((أتسخر من كلامي.؟))
((كلا. ـ موحان ـ لم يذكر لي شيئاً عن هذا الاهتمام المفاجئ.))
((لم يذكر لنا أيضاً.))
((وكيف عرفتِ أنه كان يكتب الشعر.؟))
أخرجت لفافة أوراق من تحت عباءتها،امتدت يدي(ماهر)راجفة،كأنه بصدد أن يمسك شيئاً مقدساً من غير وضوء،حزمة أوراق ملفوفة بعناية:
((هل حقاً هذه أوراقه.؟))
((أبنتي ـ ميسون ـ قرأت بعضها،طرحت علي فكرت أن أعرضها عليك من أجل نشرها في كتاب.))
((هذا يسرني يا أم ـ موحان ـ ))
((كان يودك كأخ.))
((ما بوسعي سأبذله كي نطبع شعره في كتاب.))
((حسناً..سأزورك فيما بعد.))
لم يجد شجاعة،أو ملاطفة لإبقائها،لفّت عباءتها حول نفسها وخرجت.
جلس يقلب حزمة الأوراق الملفوفة:
هل حقاً صاحبي الودود،الخجول،يمتلك هذه الكلمات.؟من أين لملمها.؟(قال لسانه)
لم يفصح(موحان)له ذات جلسة،أن القصيدة نيران تسكنه،خاض متاهاتها،تعذب وأصطاد جواهرها،أ كان يخرج صباحاً إلى الجبال بحثاً عن دواء أرقه،لما لم يلتقيه في تجوالاته،أم كان يتجول ليلاً،أغلب الشعراء مساحة جنونهم الليل،في الليل عندما يكون العالم غارقاً في السديم،تحلق الذاكرة،تأتي القصيدة برقاً خاطفاً،عكس النهار،تأتي القصيدة كسيحة،تتأرجح وسط صخب الناس.
وجد كلماته تمنح متعة،تعطي انطباعا،أن قائلها ليس إنساناً عابراً في محطة الكلام الجميل،لابد أنه سخر جهداً كبيراً لبلورتها وتنظيمها،قبل صياغتها نسيجاً،يوعز أن ناسجها يمتلك قدراً لا بأس به من الموهبة والدربة الشعرية،رغم كتمانه موهبته،يقين يوحي أنه يمتلك خصال أصحاب الأحلام الكبيرة.
حاول ترتيب الأوراق بما ينسجم مع الأفكار المتجانسة،لم يترك(موحان)تاريخاً يذيّل الأوراق،ربما(ميسون) أخته تلاعبت بالأوراق فضاع التسلسل،أم أنه كان يشعر بالخجل من كتاباته لذلك كان يكتب من غير الترويج عنها،خطه معتدل،منظم في رص الجمل،وجده تحديثي النزعة،أحياناً يسقط بين مخالب المباشرة والتقليدية،في مواطن أخرى يؤسس لقصيدة فكرية مراوغة،يشتغل على الأفكار،رغم معرفته به،كان متواضعاً،خجولاً،فشل في كسب ود فتاة جارة،ربما صدودها عنه،ولدّت فيه المشاعر،أنهضت فيه حرائق الشعر،قبل أن يجد الورق ساحة عامة،منبراً حراً للتعبير عن خلجات الذات،وتدوين رغباتها المحرمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة


.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات




.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي