الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحُكْمُ الذَّاتِّي: كَمينٌ تفاوُضِي بأديس!

كمال الجزولي

2014 / 12 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


(1)
مطلع الأسبوع المنصرم أعلنت الآليَّة الأفريقيَّة الرَّفيعة برئاسة تابومبيكي، الرئيس الجَّنوب أفريقي الأسبق، عن أنها علقت، حتى يناير القادم، مفاوضات السَّلام المتعثِّرة التي ظلت ترعاها، بالعاصمة الإثيوبيَّة، على مدى تسع جولات حتَّى الآن، بين حكومة السُّودان وبين الحركة الشَّعبيَّة/قطاع الشَّمال. وحتَّى ذلك الحين فثمَّة ملاحظات تستوجب الإضاءة على المسار المنقضي من هذه المفاوضات.
فمثلاً، لو كان وفد الحكومة أولى قدراً، ولو يسيراً، من العناية بالمنطق الدَّاخلي لحُججه في رفض أطروحات الحركة على مائدة التفاوض، كي تبدو حُججه تلك معقولة، على الأقل، ولو شكلاً، بدلاً من تأسيسها على نزعة تعبويَّة عصبيَّة واضحة ما انفكَّت تدفعه، في كلِّ مرَّة، لرفض ما يصدر عن وفد الحركة، جملة وتفصيلاً، لكان أمكنه الانتباه، بلا شك، للتناقض البنيوي الناشب في صميم منطقه هذا، ولكان، من ثمَّ، قد تفادي الوقوع في "الكمين التَّفاوضي!" الذي نصبه له وفد الحركة، في السابع والعشرين من نوفمبر المنصرم، مع بداية الجولة التاسعة التي انتهت بها هذه المرحلة من المفاوضات في الثامن من ديسمبر الجَّاري!

(2)
لتوضيح هذه المسألة نذكر أن المفاوض الحكومي ظلَّ يصرُّ، دائماً، وبعناد، على عدم الاستماع إلى كلمة واحدة يتفوَّه بها مفاوض الحركة خارج الحدود "الجُّغرافيَّة" لمنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق .. ولو بمللمتر واحد! وظلَّ المفاوض الحكومي يبني منطقه في ذلك على حُجَّة شكليَّة ممعنة في الخطأ، مفادها تأويله الخاص لكون موضوع التَّفاوض هو هاتين "المنطقتين" فقط، ما يعني، من زاوية نظره، وجوب أن تسارع الحركة لإلقاء سلاحها، والالتحاق، فوراً، بـ "الحوار الوطني"، وفق الشروط التي يقوم عليها، حالياً، بـ "قاعة الصَّداقة" بالخرطوم!
هكذا يخلط وفد الحكومة، خلطاً شنيعاً، على كلِّ أصعدة القانون، والعُرف، والممارسة، بين مفاوضات "السَّلام" ومفاوضات "الاستسلام"ّ! ففي الحالة الأولى يتوجَّه طرفان، بمحض تفاهمات سلميَّة، لوضع حدٍّ لحرب أو نزاع مسلح، مِمَّا قد يكون دار بينهما ردحاً من الزَّمن دون أن يحقق أيٌّ منهما نصراً حاسماً على الأرض. أما في الحالة الأخرى فيلزم أن يكون ثمَّة طرف منتصر، على نحو حاسم، فتدور بين عسكرييه وبين عسكريي الطرف المهزوم محادثات، في الميدان، تتركَّز على "إملاءات" المنتصر شروطه لترتيبات "استسلام" المهزوم.
لكن، لئن اتُّبعت تلك التَّرتيبات في حالات الحروب الدَّوليَّة والإقليميَّة، فإنها لا يُلجأ إليها، عادة، في حالات الحروب "الدَّاخليَّة/الأهليَّة"، حين تنتهي بدحر الجَّيش الحكومي للقوَّة "المتمرِّدة"، إذ غالباً ما تُقْدِم الحكومة، في مثل هذه الحالة، على أخذ المهزوم، إنْ استطاعت إليه سبيلاً، بجريرة "خروجه" على القانون!
وإذن فلا معنى، بالنسبة لمفاوضات أديس التي يُراد منها وضع حدٍّ لنزاع سياسي سوداني "داخلي" مسلح، لأن تحاول الحكومة فرض شروطها على الحركة الشَّعبيَّة، بينما الحرب ما تزال سجالاً بينهما على الأرض، بلا نصر حاسم ولا هزيمة نهائيَّة، والطرفان يتقاتلان ويتفاوضان في آنٍ واحد، وليس فيهما، وفق كلمة شهيرة لتشرشل، من يستطيع أن يبلغ على مائدة التَّفاوض أبعد مِمَّا تستطيع مدافعه أن تبلغ في ساحة الوغى!

(3)
بالتالي لا يحقُّ لوفد الحكومة أن يجحد، على وجه الخصوص، حقَّ وفد الحركة في إثارة أيِّ قضيَّة تتَّصل بصميم "المسألة السُّودانيَّة"، أو أن يعتبرها خارج أجندة التفاوض، كأوضاع الحريَّات، وحقوق الإنسان، ووقف العدائيَّات في كلِّ مناطق الحرب، تمهيداً لوقف إطلاق النار، وإنهاء الحروب المشتعلة، ليس في "المنطقتين"، فحسب، بل وفي دارفور أيضاً، وذلك في إطار عمليَّة تفاوضيَّة بمسارين، تضمن فتح ممرَّات إنسانيَّة لإغاثة من شرَّدتهم الحرب، أو تأثَّروا بها على أيِّ نحو، وإلى ذلك إلغاء الانتخابات التي يصرُّ الحزب الحاكم على إجرائها، تحت إشرافه، بعد أشهر قلائل، وإطلاق سراح المعتقلين والسُّجناء السِّياسيين كافَّة، وإلغاء كلِّ القوانين المقيِّدة للحريَّات، وعقد اجتماع تحضيري لكلِّ القوى السِّياسـيَّة والمدنيَّة بمقرِّ الاتحاد الأفـريقي في أديس، حسـب قرار الاتحاد رقم/456، لأجل تهيئة للمناخ لكفالة نجاح "الحوار الوطني" الذي اجترحته الحكومة بنفسها، منذ يناير الماضي، ثمَّ ما لبثت أن تنصَّلت عنه، عمليَّاً، برفضها سداد استحقاقاته، حين وضح أنه ينبغي أن يفضي، في أحد أهمِّ مـآلاته النهـائيَّة end game، إلى الاتفاق على جملة ترتيبات تصبُّ في عمليَّة انتقاليَّة شاملة، خلال فترة انتقاليَّة محدَّدة، بما في ذلك حكومة انتقاليَّة تشرف على إنفاذ شكل من العدالة الانتقاليَّة، وتعقد مؤتمراً قوميَّاً دستوريَّاً، وتنظم انتخابات حرَّة ونزيهة، وما إلى ذلك.
غير أنه، وفي حين كان وفد الحركة يطرح قضايا "السُّودان" في "المنطقتين"، على ذلك النَّحو، ظلَّ وفد الحكومة يصرُّ على طرح قضايا "المنطقتين"، فقط، بمعزل عن قضايا "السُّودان"! وعليه انطلقت الحكومة تضجُّ بـ "الشَّكوى" من أن الحركة "لا تتقيَّد" بأجندة "المنطقتين"، بل "تتجاوزها" إلى أجندة "السُّودان" الأخرى!
عند هذا الحد، وبإزاء ذلك التَّعنت من جانب الحكومة ووفدها المفاوض، كان لا بُدَّ لوفد الحركة من الذِّهاب، إلى أقصى حدٍّ، في فضح ذلك الفهم المختل، وتعرية المفارقة الكامنة فيه بنزع ورقة التوت التي تغطي عورة منطقه غير السَّوي، حيث تبدو قضايا "السُّودان" الأخرى وكأنَّها ليست "جزءاً" من قضايا "المنطقتين"، أو لكأنَّ "المنطقتين" نفسيهما ليستا "جزءاً" من "السُّودان"!
من هنا، وفي ما يشبه المناورة المفاجئة، جاء إقدام وفد الحركة، مع بداية الجولة التاسعة، على طرح مطلب "الحكم الذَّاتي للمنطقتين"!

(4)
ومع إمكانيَّة الاتفاق أو الاختلاف مع ذلك المطلب، وبصرف النظر عمَّا ينطوي عليه من عناصر في "الاستراتيجيَّة" أو في "التكتيك التفاوضي"، فقد انطرح، عمليَّاً، بأحد احتمالين: إما يدقُّ ناقوساً للوفد الحكومي، بأن تلك، في نهاية المطاف، هي أبسط مترتِّبات منطق التعاطي مع "المنطقتين" وكأنهما خارج "السُّودان"، أو يشكِّل، بالنِّسبة لهذا الوفد، "كميناً تفاوضيَّاً" يكبله بنفس مادَّة منطقه المعوج!
ما ترجَّح، للأسف، هو الاحتمال الثاني، حيث تعجَّل المفاوض الحكومي، كعادته، في رفض ذلك المطلب، رفضاً باتاً، دون حتَّى أن يتبصَّر حقيقة أن الوساطة ضمَّنته ورقتها الأخيرة، قبل أن تدفع بها إلى الطرفين صباح 8 ديسمبر 2014م، شاملة ما تبنَّته من أفكار لتيسير اتفاقهما حول المسائل المطروحة، ومن بينها مطلب "الحكم الذَّاتي".
لذلك، فإن جلسة المفاوضات التي كان مقرَّراً عقدها عند العاشرة صباحاً، لم تلتئم إلا بعد الثانية ظهراً، بسبب استغراق الوفد الحكومي في المزايدة الإعلاميَّة المتشنِّجة على مضمون ورقة الوساطة، بما فيها هذا المطلب، من شاكلة: "لن نناقشه، لا في مفاوضات أديس، ولا ضمن الحوار الوطني"! وذلك بدلاً من تناوله برويَّة كانت ستوفِّر لهذا الوفد، يقيناً، مداخل أفضل لمجابهته، في ما لو كان قد نفذ إليه، مثلاً، من زاوية اعتباره أدنى من مستوى اللامركزيَّة المشمول، أصلاً، بالدُّستور السَّاري.

(5)
مع ذلك كان من شأن هذا المدخل أن يخلق، حال اعتماده، مشكلة للوفد الحكومي، كونه سيستدير، يقيناً، من حيث يُراد له هزيمة مطلب الحركة، ليهزم منطق الحكومة نفسه، بأن يتركَّز، في نهاية المطاف، على تجسيم استحالة تناول قضايا "المنطقتين" بمعزل عن قضايا "السُّودان" قاطبة! وذلك، بلا شك، هو بعض ما رمي إليه وفد الحركة من طرحه المفاجئ لمطلب "الحكم الذَّاتي"، وما جعل من هذا المطلب، فضلاً عن أيِّ منطق موضوعي آخر يسنده، "كميناً تفاوضيَّاً" وقع فيه وفد الحكومة، للأسف، بلا أدنى تبصُّر!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر: وزيران جديدان للدفاع والخارجية في تغييرات الحكومة


.. والدة ضابط إسرائيلي قُتل في غزة تستلم جثمان ابنها




.. الناخبون الإيرانيون يبدأون التصويت في الجولة الثانية من الان


.. مسؤول بالجيش الإسرائيلي: قيادة الجيش مستعدة لقبول أي صفقة مع




.. ما هو فيلق أفريقيا الذى يرث مجموعة فاغنر الروسية؟