الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعذيب جريمة حرب وجريمة استبدلد

بدر الدين شنن

2014 / 12 / 14
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


كل الدلائل تشير ، إلى أن إقدام " أوباما " على كشف أشكال التعذيب ، التي مارستها المخابرات الأمريكية ( CIA ) في عهد الرئيس السابق " جورج بوش " إزاء المعتقلين ، وحصراً في مرحلة ما سماها بوش " الحرب على الإرهاب ، ليس بدافع مشاعره الإنسانية فجأة ، أو نتيجة الحس العارم بالمسؤولية القانونية والتاريخية . فهو يعلم ، منذ سنوات ، كأي مسؤول أميركي من النسق الأول على الأقل ، بما تفعله المخابرات الأمريكية أثناء التحقيقات مع المعتقلين ، وبخاصة مع من تعتبرهم على مستوى عال من الخطورة .

لكنه بعد خسارة حزبه الديمقراطي ، في انتخابات الكونغرس النصفية الأخيرة ، التي هددت نتائجها جدياً بخسارة الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية المقبلة ، لم يجد بداً من استخدام الجانب الأمني المشين ، الذي مارسه الرئيس بوش الجمهوري ، كقذيفة ناسفة ، لعلها تخفض إلى حد كبير من شعبية الجمهوريين ، كما حدث بفضيحة ووترغيت ، في عهد الرئيس الجمهوري " ريتشارد نيكسون " في القرن الماضي . ومن طرف آخر هي محاولة لاحتواء غضب الشارع الأميركي ، لقتل الشرطة شابين أسودين في غير مدينة أمريكية ، وتغطية حربه المريبة الجديدة " على الإرهاب " في الشرق الأوسط .

وفي الظاهر ، أن الرئيس أوباما ، المحاصر بأزماته الداخلية المرهقة ، وضبابية الرئاسة للديمقراطيين في دورة قادمة ، لم يكن وارداً في حساباته ارتدادات كشف فضائح المخابرات الأمريكية في العهد " البوشي " ، وأثرها السيء على الرصيد السياسي والحقوقي للولايات المتحدة ، في الأوساط الشعبية والسياسية أميركياً وعالمياً . لقد أسقط قناع الديمقراطية وحقوق الإنسان المخادع عن وجه أميركا ، دون أن أي بديل يتمتع بالمصداقية . وفتح المجال ، لنرى الجمهوريين غداً ينشرون فضائح مماثلة في آثارها للديمقراطيين ، وتغوص الولايات المتحدة كلها في وحول التعذيب والفضائح السياسية والأخلاقية وانتهاكات حقوق الإنسان .

وفتحت خطوة أوباما حول التعذيب المخابراتي للمعتقلين ، فتحت بالتالي ملفات ضحايا التعذيب الجماعي الأكثر وحشية الذي نفذته الفتن الطائفية والقبلية ، والحروب ، والانقلابات ، التي قامت بها الولايات المتحدة وحليفاتها من الدول الاستعمارية ، وذهب ضحيتها عشرات الملايين من القتلى والمهاجرين والمهجرين في بلدان مختلفة . وذلك للاستحواذ على الجغرافيا ـ السياسية المتميزة ، والثروات الطبيعية . وهذه الفتن والانقلابات والحروب لا تقل قذارة عن التعذيب " الفردي ، وانتهاك حقوق الإنسان كمنهج أمني سياسي غبي .
كما أنه ليس من ضمانات ، بأن لا تدفع هذه الارتدادات الجمهوريين ، لتسويغ أفعال ( CIA ) من أجل حماية البلاد من الإرهاب في عهدهم ، ويتهمونه .. أي أوباما .. بالضعف ، والتفريط بالمصالح الأمريكية . وقد فعلها " ديك تشيني " نائب الرئيس في عهد بوش ، وصرح مدافعاً عن المخابرات الأمريكية ، وأعلن استعداده لتكرار التعذيب عندما يداهم خطر ما أميركا . وبهذا تضاف إلى رصيد أوباما الداخلي أزمة جديدة إلى أزماته الأخرى .

ويبقى المؤلم من إثارة موضوع التعذيب ، بوجهيه الفردي والجماعي ، الحربي و السياسي ، أنه يستدعي التعامل معه ، كما هي الجرائم والوقائع والنتائج . مع الأخذ بالاعتبار ، أن التعذيب إن كان يستخدم كمنهج أمني رسمي ، أو حدث نتيجة انفلات أو عبث أمني يعبر عن حركة مراكز القوى ، من أجل النفوذ والمكاسب ، هو بالمطلق سياسي . بيد الجانب الأخطر في ذلك عندما يصبح التعذيب تحديداً درعاً للسلطة المستبدة ، لإخضاع الشعب ، ومصادرة حرياته وحقوقه الإنسانية ، ولتأمين غطاء لنهب المال العام ، والفساد ، والإفقار ، ما يؤدي إلى تحويل علاقة المجتمع بالدولة ، من علاقة عقد اجتماعي دستوري ، إلى علاقة عبودية . كما يؤدي إلى نشر مناخ الرعب ، وفقدان الرجاء ، وتغييب العقل والإبداع . ، وإلى إضعاف البلاد ، وجعلها في البلدان المفوتة ، موضوعاً للمطامع الأجنبية ، واللعب بمصيرها ، في مواسم التحولات والاضطرابات والصفقات الدولية الكبرى .

ومن استخدامات التعذيب البشعة ، هو أن السلطة المستبدة ، تتعمد استثمار التعذيب ، ونشر أخباره وأشكاله ، لتبدو قوية ، قاهرة ، لمن يتجرأ على تحديها ومعارضتها . وتعمل وفق معادلة أمنية وسخة ، تقوم على ، أنها كلما أضعفت الشعب ازدادت هي قوة . لكن سرعان ما تتكشف قوتها المزيفة ، أمام تحد خارجي يدرك ضعفها . ما يتطلب منها أن تتوقف عن إجراءات إضعاف الشعب ، بأن تتجاوز ’عقد وخطايا الماضي . وقد بينت التجربة أنه في حال عدم القيام بهذا التجاوز ، في الوقت المناسب وبسرعة ، فإن التحدي الخارجي يتقدم وقد يسيطر على البلاد .. ويصبح من تقاعس ، وتمسك بفساده وعفنه ، من الماضي السيء الذكر .
وكبرهان على ذلك ، نجد أن الخط البياني الآن ، للولايات المتحدة ، والدول الغربية الأخرى التي كانت عظمى ، هو في حال انحدار أمني وسياسي واقتصادي وعسكري . وأن المسوغ الهمجي لارتكاب فظائع التعذيب ، للقضاء على الإرهاب قد سقط ، بل إن الإرهاب قد استمر وتوسع أكثر .

وأكثر الدول التي تنطبق عليها هذه البراهين ، هي الدول الشمولية المستبدة ، وفي مقدمتها البلدان العربية ، التي تساقطت أنظمتها أمام كسر حاجز الخوف الداخلي والتحدي الخارجي . وكانت فيها الجريمة مزدوجة .. خداع الشعب وإرهابه وإضعافه بالتعذيب من جهة ، وتضييع الوطن ، بتخريب الأسس العلمية الديمقراطية والدستورية والأخلاقية في بناء الدولة من جهة ثانية .

على أن هناك في مسألة التعذيب انعكاسات وارتدادات متعلقة بالإنسان كإنسان . وهي رغم توزعها على أربعة أقسام ، تشمل كافة الذين يتنا ولهم فضاء التعذيب . فإن لها قاسم مشترك ، هو تشويه .. أو إيذاء .. أو قتل الإنسان في الإنسان . والأقسام الأربعة هي : ضحية التعذيب كفرد ، والجهة التي يكون هذا الفرد جزء منها ، والجلاد الذي يقوم بالتعذيب ، والسلطة الآمرة بالتعذيب .

لاشك ان إيذاء التعذيب المباشر يقع على الضحية موضوع التعذيب .. ولاشك أن كل أشكال التعذيب مؤذية . لا أحد مهما امتلك من قدرة التسامي على الجراح ، أو قدرة المكابرة مع الواقع المر ، أن يؤكد بصدق ، أن كل شخص تعرض للتعذيب ، إن لم يمت ، سيكون بعد التعذيب كما كان قبله جسدياً ونفسياً ، وخاصة لما يرتبط التعذيب بزمن متوسط أو مديد من السجن ، الذي يتواصل فيه التعذيب بشكل مباشر وغير مباشر . ومع ذلك إن أتيح للضحية الخروج من السجن ، سوف يبقى يكابد في واقعه اليومي ، وفي أحلامه ن ارتدادات آلام التعذيب والسجن ، وصداهما السياسي والاجتماعي والأسري . بمعنى أنه صار إنسان آخر .. شيء آخر . قد يتغنى البعض بصموده .. أو بآلامه .. نصرة لفكرة أو قضية . لكن الزمن يشغل الجميع .. ويغدو هو يعيش مع نزيفه النفسي ، وأنات جراحه . أحيناً يتمرد على واقعه غير المفهوم . ويستقوي ببقايا حلم ليتوازن ، لكن الوهن العضوي ، وأشباح الجلادين ، والعجز المتزايد ، يقعده .. تاركاً له فسحة ضيقة .. لتكرار .. ما كان ينبغي أن يكون .. أو لا يكون .

أما الجلاد ، فإنه لا ينظر بعيني ضحيته وقت التعذيب .. يخاف .. ولا يعرف لماذا إلاّ فيما بعد . إنه يستمتع في البدايات بصراخ الضحية ، الذي يعني له ، أنه يتقن عمله ، وأن الضحية اقترب من الانهيار . وبعد مضي مدة لم يفكر يوماً كم تبلغ ، وهو يمارس جرائمه ، يدرك أن السنين تأكل من عمره وتزرع فيه الضعف . وعند أول مرض مبرح يصيبه ، تبدأ أياد مضرجة بالدم تضرب على رأسه وصدره .. ويستعصي عليه النوم . ويبدأ يفكر بمصيره ومصير أسرته .. ثم يتهرب من جلسات أقرانه ، الذين يتفاخرون بكم كسروا من الرؤوس ، وكم أحدثوا من الجراح الجسدية والنفسية المدمرة في هذا أو ذاك من الضحايا . وأكثر ما يزعجه ، أن يلحق به آمره إلى غرفة نومه .. إلى أحلامه .. ويصرخ به .. اضرب .. اضرب .. دعه يشعر أنه سيموت بين يديك .. هذا الكلب يجب أن يموت . ويلحق به صراخ الضحايا ، وخاصة الذين يذهب زملاؤه بهم إلى الإسعاف ولم يعد يراهم . وكلما حدث معه أو مع أحد أفراد أسرته حادث مرعب ، يعزوه إلى ما قام به من جرائم . وتغيب من كلامه مفردات .. الخضوع .. والسلطة .. والدولة . وينشب في داخله ، صراع بين الوحش الذي ينبغي أن يرحل، وبين بقايا إنسان يحاول أن يثبت وجوده . وبعد خروجه من بؤرة الوظيفة .. من مصنع الجريمة ، يصاب على الأغلب بعزلة تفتك بنسيج بنيته الداخلية . ويشعر أنه منعدم الوزن والقيمة .. وأنه لم يعد يخيف أحداً .. بل صار هو يخاف من المجهول .. ومن النهاية الذليلة .

الضربة الكبرى التي تصيب المتعاملين مع التعذيب ، هي الضربة التي تتلقاها السلطة الآمرة بالتعذيب . فهي كلما شعرت بالضعف تمعن وتوسع بالتعذيب ، وذلك لتلافي ضعفها المتنامي . لكنها لما تدق أجراس نهايتها بمفاعيل داخلية وخارجية ، تتحول أفعال التعذيب التي أمرت بها الجلادين الذين في خدمتها ، إلى طوفان من الرهب . وتدق ساعة الحقيقة . ويتحول الجلاد الكبير إلى متهم .. أو يقع ضحية جلاد بأمرة سيد آخر . ويخسر كل المزايا والأمجاد والسطوة ، التي كان يستمتع ويتفاخر بها . وسواء صار مقيماً في السجن .. أو لفظه السجن إلى الشارع . فإن الجميع يهربون منه .. ظله يتلاشى .. إحساسه بالوزن العضوي يتلاشى .. إنه لم يعد أي شيء .

ودائماً .. وفي كل محطة من محطات نشر فضائح التعذيب .. الفردي .. والجماعي .. من أجل إضعاف نظام الجلادين ، أو بعد انهياره ، تبرز مسألة العدالة وإنصاف الضحايا وذويهم .
في الوقت الراهن تتقدم مسألة التعذيب الجماعي .. مسألة قتل الآلاف ومئات الآلاف ، بعدوان حلف الناتو ، وبمذابح فرق الإرهاب الدولي .. على ما عداها . والسؤال الحق هنا : هو كيف سيجري إنصاف ضحايا الحروب الأطلسية والإسرائيلية ، في أفريقيا ، وأفغانستان ، والعراق ، ولبنان ، وغزة . وكذلك ضحايا حروب الإرهاب الدولي ، في سوريا ن والعراق ، واليمن ، وليبيا ، ولبنان ، والصومال ، ونيجيريا ، والقوقاز ، والصين ، والهند ، وباكستان . وكيف سيحاسب الجلادون الدوليون ويعاقبون .

وعندما يتم الإقرار بمعادلة التعذيب الجماعي الاستعماري الدولي ، تحل معادلة التعذيب الفردي والجماعي الاستبدادي السياسي المحلي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ??مجلس النواب الفرنسي يعلق عضوية نائب يساري لرفعه العلم الفل


.. الشرطة الإسرائيلية تفرق المتظاهرين بالقوة في تل أبيب




.. مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في تل أبيب وسط مطالبات بإسقاط


.. نقاش | كيف تنظر الفصائل الفلسطينية للمقترح الذي عرضه بايدن؟




.. نبيل بنعبد الله: انتخابات 2026 ستكون كارثية إذا لم يتم إصلاح