الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطاب الرئاسة السورية، حيث المفاضلة رَجْعٌ بعيد متماثل

صبحي حديدي

2005 / 9 / 3
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


هل من الممكن افتراض حكمة ما، حتى إذا كانت من النوع التفاضلي المحض، في المقارنة بين ما يقوله الرئيس السوري بشار الأسد لصحيفة غربية اليوم، وما قاله للصحيفة ذاتها قبل أربع سنوات؟ المنطق البسيط، الغائي المحض هنا أيضاً، يفيد الإيجاب: من غير المعقول أن لا تسفر المفاضلة عن فوارق وتبدّلات وتطوّرات، في مستوى الخطاب واللغة والمفردات أوّلاً، ثمّ في مستويات مختلف الملفّات التي شملها الحوار السابق والحوار اللاحق. ومع ذلك فإنّ النتيجة الملموسة لا تنتفي هذا المنطق البسيط فحسب، بل تنتهي إلى ما يشبه تسفيهه قلباً وقالباً! لنأخذ، إذاً، بعض القضايا المتماثلة التي أثارها الأسد في حوارين مع صحيفة "دير شبيغل" الألمانية، جرى الأوّل في مطلع تموز (يوليو) 2001، وجرى الثاني أواخر آب (أغسطس) 2005.
ولسوف نقتصر على الملفّ السوري الداخلي، أي قضايا "الإصلاح"، السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي أو الإداري. في حوار 2001 يسأل الصحافي الألماني، بكثير من التهذيب واللباقة، عن "مصطلح مايسمى النقاط الإيجابية"، متسائلاً عن طبيعة العوائق التي تمنع الأسد من "القيام بخطوات أسرع فى مضمار الإصلاح الإقتصادى أو الإصلاح الإجتماعى". ويجيب الأسد (وننقل هنا عن وكالة الأنباء السورية، سانا): "هذا طبيعى ليس فقط لرئيس الجمهورية، بل لأيّ مواطن يريد التطوير وفى أيّ مجال. هناك عوائق خاصة فى المناطق التى تعيش على مفاهيم متجذرة فى المجتمع مما يجعل عملية التطوير أصعب، ليس لأن المفاهيم نفسها تعيق، وإنما أحياناً الفهم أو التفسير الخاطىء لبعض نقاط هذه المفاهيم هو الذى يعيق. لكن بالنتيجة المنطقة تتطور والمهم أن تعرف الأسباب التى أدت إلى هذه النقاط السلبية، عندها تستطيع أن تطورها بكل سهولة، فالقضية قضية إقناع عبر الحوار وليست قضية فرض".
ما الذي سيقوله الأسد في حوار 2005، في إجابة عن سؤال مماثل تقريباً، يحدث هذه المرّة أنه أوّل أسئلة الصحيفة الأالمانية (التي كانت في سنة 2001 قد بدأت بسؤال عن احتمالات الحرب والسلام في المنطقة)، ويسير هكذا: "هنالك محاولات تحرّك نحو الديمقراطية هنا وهناك في العالم العربي. ولكن ثمة القليل فقط من الدليل على هذا في سورية. لِماذا؟". ويجيب الأسد (ونحن هنا نترجم أقواله عن النصّ الإنكليزي كما نشرته "دير شبيغل" على موقعها الإلكتروني، لا لشيء إلا لأنّ معظم الترجمات العربية كانت غير أمينة ومشوّهة)، على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى هي الفارق بين سورية وسواها: "حسناً، الحال تقول إنّ الدول العربية تتطوّر بمعدّلات مختلفة وضمن شروط تاريخية مختلفة. مصر، مثلاً، لم تشهد انقلابات كثيرة كما جرى في سورية. يضاف إلى هذا أنّ القاهرة وقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل، في حين أننا لسنا في حالة حرب ولا حالة سلام مع إسرائيل. وبالمناسبة، لم يبدأ تطوّرنا إلا قبل سنوات قليلة مضت، ولهذا فإنّ التوقعات تتباين كثيراً. ولكن القضية الأساسية هي أننا في سورية قد فتحنا حواراً حول الامر على الأقلّ". وثمة التالي الذي يلفت الإنتباه في هذه الفقرة: التذرّع بالإنقلابات (التي كان آخرها سنة 1970، وجاء بحافظ الأسد وبيت الأسد إلى السلطة)، وكأنّ الدول العربية الأخرى أنجزت هذا أو ذاك من الإصلاحات الديمقراطية لأنها لم تشهد انقلابات؛ والإحالة إلى موقف اللاسلم واللاحرب مع الدولة العبرية، وكأنّ الأسد يوحي بأنّ الديمقراطية السورية لا تأتي قبل السلام مع إسرائيل؛ والإعتراف، أخيراً، بأنّ التطوّر في سورية عمره "سنوات قليلة"، الأمر الذي يعني أنّ الحركة التصحيحية (1970 ـ 2000، حتى سنة وفاة حافظ الأسد) كانت زمناً ضائعاً في ما يخصّ التطوّر! وبالطبع، الزعم بأنّ النظام فتح حواراً حول التحرّك الديمقراطي، وأنّ هذه هي "القضية الأساسية، تفصيل غنيّ عن أيّ تعليق!
في المرحلة الثانية، وبعد أن يقاطعه الصحافي الألماني سائلاً: لقد استغرق الحوار أكثر ممّا ينبغي، يذهب الأسد إلى سويّة أخرى في التذرّع، فتسير إجابته هكذا: "إنّ سرعة تطوّرنا تعتمد على ما يتوجّب أن نواجه من تحديات، لا نستطيع دائماً التأثير فيها.على سبيل المثال، يتوجّب أن نتعامل مع قوى أجنبية تتدخّل في شؤوننا الداخلية [وهنا يقاطعه الصحافي سائلاً: هل تقصد الدعوات الأمريكية إلى المزيد من الديمقراطية وإنهاء دعم الإرهابيين، فيتابع الأسد] كلما تزايد التدخل، تباطأت سرعة التطوّر في سورية. ففي نهاية المطاف، ينبغي للعملية الديمقراطية أن تسود البلد بأسره. وطبيعي أنّ عدم حلّ نزاع الشرق الأوسط يبطيء التطوّر أيضاً. هنالك، كذلك، مسألة أيهما ينبغي أن تكون له أولوية أكبر عندنا: التطوّر السياسي أم النموّ الإقتصادي؟". ويضيف، عن العلاقة بين هاتين الأولويتين: "هنالك بون شاسع بين الهدفين. فلكي نطوّر النموّ نحتاج إلى المساعدة من الإتحاد الاوروبي. وعند الكثير من السوريين الذين التقيت بهم، يحظى الفقر باهتمام أكبر من التطلّع إلى دستور ديمقراطي. إلى جانب هذا، هنالك الإرهاب أيضاً، والذي يقف في طريق التقدّم الديمقراطي".
ثمة هنا مزج محسوب بين الإبتزاز (حكاية الإرهاب، والتدخل الخارجي)، والإستفزاز (ما معنى أنّ العملية الديمقراطية ينبغي أن تسود في البلد كلّه؟ هل من المحتمل أن تسود في جزء من سورية، فقط؟)، والإستجداء (دعم الإتحاد الأوروبي)، والديماغوجية (السوريّ الذي يهتمّ بالمعدة أكثر من الحرّية!)... ولكن من الجلي أنّ الأسد يركن في هذه الفقرة إلى نغمة جديدة لم يسبق لها أن كانت في ترسانة الذرائع التي اعتاد أن يسوقها على سبيل تأويل تعثّر الإصلاحات أو بطئها أو انعدامها. لقد كان، حتى وقت قريب، يتحدّث عن مشكلات الإدارة، وعجز المؤسسات القديمة، و"الحرس القديم" لا كما يتمثل في "اثنين أو ثلاثة أشخاص يحتلون مناصب رفيعة في أعلى النظام"، بل كما يراه الأسد في "آلاف البيروقراطيين العاديين والمتحجرين على امتداد النظام، والذين تخندقوا في مواقعهم على مرّ السنين والعقود وليست لديهم أية مصلحة في أن يسير أيّ شيء على نحو مختلف". إنها أيضاً، ودائماً حسب الأسد في حوار خاص أجراه معه الباحث والمسؤول السابق في الخارجية الأمريكية فلنت ليفريت، مشكلة الحرس القديم في "هذا القطاع الخاص الذي لا يحمل من صفة القطاع الخاص إلا الاسم، والذي يواصل الوجود في علاقة جنينية مع هذه البيروقراطية المتخندقة. أنظر إلى كلّ هذا، وعندها سترى الحرس القديم، وهذه هي العقبة الحقيقية أمام التغيير في سورية".
أيها، إذاً، العقبة الحقيقية أمام التغيير في سورية؟ البيروقراطية المتخندقة التي لا تتقدّم ولا تتطوّر؟ أم القطاع الخاصّ، المستقيل من وظيفته كقطاع خاصّ؟ أم العامل الديمغرافي، كما قال الأسد ذات يوم غير بعيد، في حوار شهير بدوره مع صحيفة "إلباييس" الإسبانية: «في سورية زهاء 300 ألف مولود سنوياً، وبعد عشرين عاماً قد يكون لدينا 300 ألف طالب لفرصة عمل»؟ أم عدم «تطبيق منهج التفكير» الذي اقترحته الرئاسة على الشعب والدولة، كما اعتبر الأسد في الحوار ذاته، وعدم «تضافر جهود كلّ المؤسسات والشرائح الموجودة في المجتمع»؟ أم "مفاهيم متجذرة فى المجتمع مما يجعل عملية التطوير أصعب"، كما قال في حوار 2001 مع "دير شبيغل"؟ أم التدخّل الخارجي، نغمة هذه الأيام، حيث من السهل اجترار الخطاب العتيق البالي حول استهداف القوى الإمبريالية لهذه "الأنظمة التقدمية" العربية، وحيث يُراد لنا أن نفهم أنّ نظام بشار الأسد هو آخر ممثّلي تلك الانظمة، بل آخر قلاع مناهضة الإمبريالية؟
أم لعلّ السبب، ببساطة يصعب على الأسد الإقرار بها لأنه شخصياً جزء منها كمأزق شامل مستديم وليس كحلّ وشيك أو منظور، هو أنّ نظام البعث القائم منذ 1963 عموماً، ثمّ خصوصاً بعد سقوط النظام ذاته إلى درك الإستبداد العاري والنهب المافيوزي طيلة عقود الحركة التصحيحية، ليس مسؤولاً عن انعدام أيّ وكلّ إصلاح ديمقراطيّ فحسب، بل هو أيضاً وأساساً المسؤول/الصانع الذي يعيد إنتاج المزيد من أنماط الإستبداد والقمع والفساد.
وفي ما مضى، كما في حوار "إلباييس" مثلاً، اعتاد الأسد أن يقول التالي في حكاية معدة المواطن أو حرّيته: «الإهتمام المباشر الآن للمواطن وللشريحة الأوسع في سورية هو الموضوع المعاشي والإقتصادي»، أو: «هذا ما لمسته قبل أن أصبح رئيساً ومازلت، فإذاً هذا هو أهمّ شيء يجب أن نركّز عليه الآن في سورية». والحقّ أننا لا نحتاج إلى كبير عناء لكي نتفق على اقتران الخبز بالحرية، وعلى استحالة إنجاز خطوات ملموسة على طريق تحسين الوضع المعاشي للمواطنين، دون أو قبل إنجاز خطوات ملموسة أكثر على طريق الإصلاح السياسي والقانوني والإداري. معاش المواطن ليس جزيرة منعزلة مستقلة بذاتها عن سواها، وكان حرياً بالأسد (وهو «الرئيس الشاب» دائماً) أن يتذكّر هذه الحقيقة الرياضية البسيطة كلما تحدّث إلى صحيفة غربية، وتوجّه إلى مواطن غربي، وإلى العالم بأسره في نهاية المطاف.
المرحلة الثالثة في إجابة الأسد تدهشنا (قليلاً فقط، في الواقع) لأنها إنما تستأنف أقوال وفلسفة رجل طبّل أزلام النظام وزمّروا بالقول إنه اليوم باد تماماً بعد أن ساد طويلاً، ونقصد نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام ونظريته حول حماية سورية من "الجزأرة"، والشروع في وأد ما سُمّي "ربيع دمشق على خلفية تجنيب سورية مآل الجزائر، ثمّ تبرير حملات القهر ضدّ المعارضة والمنتديات في صيف وخريف 2001. بشار الأسد يقول اليوم لـ "دير شبيغل" ما تحاشى قوله هو شخصياً في حوار العام 2001 مع الصحيفة ذاتها، وما ترك مهمة النطق به ـ على النحو الدراماتيكي الصاخب الفاقع ـ لنائبه خدّام. يسأله الصحافي الألماني: ما الذي تخشونه بصفة محدّدة، فيجيب الأسد: "تطوّرات مثل تلك التي جرت في الجزائر منذ 1991. في ذلك الوقت أساءت الحكومة تقدير الشعب، وهدّد الإسلاميون باستلام السلطة. والجزائريون يدفعون بدمائهم، وحتى يومنا هذا، ثمن إساءة التقدير تلك"!
كيف ينبغي للمواطن السوري أن يقرأ هذا الكلام؟ هل يخشى النظام الإصلاحات الديمقراطية لكي لا تتكرّر تجربة الجزائر (تماماً كما يقصد الأسد، وقصد خدّام قبله)؟ وهل الإصلاحات الديمقراطية التي شهدتها بلدان عربية مثل الأردن والمغرب والبحرين، بصرف النظر عن تقييمها في العمق والمحتوى الفعلي، انتهت إلى "جزأرة" من أيّ نوع؟ وكيف يمكن للنظام الراهن أن يسيء تقدير الشعب السوري، وعلى ايّ صعيد؟ ومَن سيلعب، هنا في سورية، الدور الذي لعبته "جبهة الإنقاذ" في الجزائر؟ وهل يخشى الأسد أن يمنح صندوق الإقتراع السوري، في أية انتخابات حرّة تجري تحت إشراف دولي، أغلبية صريحة للإسلاميين السوريين؟ ومَن هم هؤلاء، بالتحديد؟ أم أنّ الأسد يخشى، بل لعلّه على يقين تامّ، أنّ مافيات الأجهزة الأمنية السورية سوف تعيد إنتاج المأساة الجزائرية على نحو أكثر بطشاً وضراوة ودموية؟
ليس من المأمول أن نعثر على إجابة طيّ حديث الأسد، وليست الإجابات هي ما ينتظره المجتمع السوري في كلّ حال. المأزق شامل عميق، والقادم ـ كما نقول ونعيد القول، للأسف ـ أعظم واشدّ هولاً من المفاضلة بين رجع بعيد وآخر، وبين الفلسفة الرئاسية 2001، أو 2002، أو 2003، أو 2004، أو 2005!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جهود إيجاد -بديل- لحماس في غزة.. إلى أين وصلت؟| المسائية


.. السباق الرئاسي الأميركي.. تاريخ المناظرات منذ عام 1960




.. مع اشتعال جبهة الشمال.. إلى أين سيصل التصعيد بين حزب الله وإ


.. سرايا القدس: استهداف التمركزات الإسرائيلية في محيط معبر رفح




.. اندلاع حريق قرب قاعدة عوفريت الإسرائيلية في القدس