الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هي فوضى ...؟ تبدل الأحوال (2/2)

السيد نصر الدين السيد

2014 / 12 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


"لا يمكنك صيد سمكة القرش بصنارة البوري"
الكاتب
"دوام الحال من المحال"
مثل شعبي مصري

"التغير الدائم" هو الخاصية التي تتصف بها كافة الموجودات من كائنات وكيانات. وهو أيضا القضية التي شغلت العلماء من كافة التخصصات فاجتهدوا لبحث اسباب التغير وآلياته. ولم يكن علماء الاجتماع باستثناء فكان على رأس اهتمامهم دراسة اسباب تغير المجتمعات وآليات هذا التغير. وتعددت المقاربات التي استخدمها علماء الاجتماع للكشف عن الأوجه المختلفة للتغير الاجتماعي. فكانت المقاربة "التطورية" Evolutionary التي حاولت تطبيق أفكار نظرية التطور لداروين على المجتمعات، وكانت المقاربة "الدورية" Cyclical التي، نظرت للمجتمعات ككائن حي لها لحظة ميلاد ثم نضج واكتمال ثم شيخوخة وفناء، اما المقاربة "الوظيفية" -function-alist فنظرت الى المجتمع بوصفه منظومة في حالة توازن ديناميكي يكيف نفسه طبقا لما يتعرض له من ضغوط خارجية. وأخيرا جاءت المقاربة "الصراعية" Conflict التي فسرت التغير على انه نتيجة للصراع بين مجموعات متنافسة داخل المجتمع.

الا أن هذه المقاربات، على الرغم من اسهامها في فهم العديد من أوجه التغير الاجتماعي، عجزت عن تقديم إجابات شافية للعديد من الأسئلة المتعلقة بهذا التغير. فعلى سبيل المثال "كيف يشعل حدث صغير ثورة شاملة؟" فلقد كانت واقعة اضرام الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده 17 ديسمبر 2010هي الحدث الذي ادي الى اشعال الثورة التونسية. وبالمثل كانت وفاة الشاب المصري خالد سعيد 6 يونيو 2010 نتيجة لضرب مخبري الشرطة المصرية له بمثابة الحدث الذي أفضي الى ثورة 25 يناير. هذا بالإضافة الى قصورها في التعامل مع ما يحدث من تغيرات في المجتمعات المعاصرة التي تتصف ب "التعقد الفائق". وهو التعقد الناشئ من "التنوع المتعاظم" لمكونات المجتمع، المادية والمعنوية، و"التواقف المتزايد" (او "الاعتمادية المتبادلة" Interdependence) فيما بينها، وأخيرا "التغير المتسارع" في عدد وطبيعة هذه المكونات. وتتطلب دراسة المجتمعات المعاصرة فائقة التعقد هذه اداة ذهنية جديدة تمكنهم من فهم اسرار تبدل احوال هذه المجتمعات ف "صنارة البوري لا يمكنها اصطياد سمكة القرش". واخيرا جاءت "نظرية الكيوس" لتقدم للمهتمين بقضية "التغير الاجتماعي" الاداة الذهنية الجديدة.

ولقد عرضنا في الجزء الأول من هذا المقال (السيد 2014) لبعض من ابجدية (مفاهيم) نظرية الكيوس، "الحتمية" Determinism، "التنبؤية" Predictability، "اللاخطية" Nonlinearity و"التوقف الحساس على الشروط الابتدائية" Sensitive Dependence on Initial Conditions، وما تنطوي عليه من معاني. وبالتعرف على هذه المفاهيم سنكون مهيئين لاكتشاف عالم جديد "المفاجأة" فيه هي القاعدة و"التجدد المستدام" لمكوناته هو القانون. انه عالم المنظومات، طبيعية كانت أو حية أو اجتماعية، وهي في حالة الفوران والانتقال من حال لحال والتي يطلقون عليها حالة الكيوس (أو حالة التواجد على حافته كما يطلق عليها البعض). انه العالم تتخلق فيه التغيرات وتتأكد فيه التحولات.

ولعل تأمل أحوال الماء الثلاث، الحالة الصلبة والحالة السائلة والحالة الغازية، يساعدنا على فهم ما يحدث اثناء مرور المنظومة بهذه الحالة الفريدة. وتقوم التفرقة بين هذه الحالات على مجموعة من الخصائص التي من أهمها قوة العلاقة بين جزيئات الماء وقدر حرية حركتها. وتأمل هذه الاحوال هو امر سهل فما عليك الا تسخين مكعب ثلج ومراقبة ما يحدث له. ففي البداية يأخذ مكعب الثلج شكلا ثابتا. وهذا الثبات يعني ان قوى التجاذب (العلاقة) بين جزيئات الماء، وهو في الحالة الصلبة، قوية جدا. وتؤدي قوة هذه العلاقة الي تقييد حركة هذه الجزيئات وحصرها في اماكن محددة لتنتظم على هيئة اشكال بلورية. وهكذا تأخذ منظومة الماء شكل محدد وحجم ثابت لا يتغير. انها اذن حالة "الاستقرار" و"الثبات". ويؤدي رفع درجة هذا المكعب الى بدء ذوبانه بالتدريج الى ان يتحول الى ماء. اذ تشكل الحرارة مصدرا للطاقة يزود جزيئات الماء المقيدة بطاقة كافية للتغلب على قوى التجاذب لتبدأ في الحركة تاركة بذلك الموضع الذي كانت تشغله. وبترك الجزيئات مواضعها تبدأ البلورات في الانهيار واحدة بعد الاخرى الى ان ينهار آخرها ويصبح الماء في حالته السائلة. وهي الحالة التي يضعف فيها تأثير قوى التجاذب بين الجزيئات فتصبح قادرة على الحركة بحرية أكبر. وعلى الرغم ان حجم الماء يظل ثابتا الا أن هيئة المنظومة تصبح قابلة للتغير لتأخذ شكل الإناء الذي يحتوي على المنظومة. وباستمرار رفع درجة الحرارة يزداد تباعد جزيئات الماء عن بعضها البعض وتصبح قوى التجاذب بينها شبه معدومة. وفي غياب هذه القوي تتحرك الجزيئات بحرية في كافة الاتجاهات بطريقة عشوائية لا يحكمها اي قانون.

وإذا كانت الحالة الصلبة للماء تشبه المجتمع وهو في حالة الاستقرار فان حالته السائلة تشبه المجتمع وهو على حافة الكيوس، اما حالته الغازية فتعني فناءه. والمجتمع كالماء في حالته السائلة مهيأ للتغير وقابل لإعادة التشكل طبقا لرؤية أعضاؤه الفاعلون. وكما تتمتع جزيئات الماء في حالته السائلة بحرية حركة كبيرة نجد ان افراد المجتمع، وهو على حافة الكيوس، يتمتعون بقدر كبير من الحرية التي تتعدد اشكالها وذلك نتيجة لتضاؤل تأثير مؤسساته الرسمية، مدنية كانت او دينية. فهي قد تكون حرية "هدامة" تتمثل في تحدى افراد المجتمع للقوانين السائدة والقواعد المتعارف عليها، مثل ما حدث أثناء ثورة 25 يناير المصرية من قيام البعض بتطبيق حد الحرابة. وهي قد تكون حرية "خلاقة" كحرية "الفكر" و"الفعل" و"التواصل". فحرية الفكر تعني قبول تعدد الرؤي والآراء دون تكفير. وحرية الفعل تعني القدرة على تشكيل الفعاليات (مؤتمرات، ندوات، حركات احتجاجية، منظمات، ...). وأخيرا تعني حرية التواصل إزالة كافة المعوقات التي تحد من عمليات التبادل الثقافي والمعرفي والمعلوماتي بين افراد المجتمع الواحد وبين هذا المجتمع وبقية المجتمعات. وهي الحريات التي تشجع افراد المجتمع على التحرر من سجن العادة والخروج عن المألوف فيتمكنوا من ابداع حلول غير مسبوقة لما يواجهه المجتمع من مشكلات ويتمكنوا من تجسيدها على هيئة بني ومؤسسات. وعلى الرغم من أوجه الشبه بين حالة الماء السائلة وحالة المجتمع وهو على حافة الكيوس الا انهما يختلفان في امر واحد. فحالة الماء السائلة هي حالة لها صفة الدوام، بينما حالة المجتمع وهو على حافة الكيوس هي حالة مؤقتة يمر بها المجتمع في رحلة انتقاله من وضع قديم الى وضع جديد.

إدارة التغير على حافة الكيوس
ان اهم ما يميز المجتمع البشري عن بقية المنظومات هو ان مكونه هو الإنسان الواعي والقادر على "إدارة التغير". وطبقا لنظرية الكيوس يتطلب احداث أي تغيير في أي منظومة اجتماعية "إسالتها" برفع درجة حرارتها! ودرجة حرارة أي مجتمع هي حالة عدم الرضا الناشئة من تزايد ”الفرق المستدام والمتزايد“، بين ما ”تتطلع“ اليه أغلبية افراد المجتمع من "رفاه" وما هو ”متحقق“ فعلا. الا ان وجود هذا الفرق لا يعني بالضرورة ارتفاع درجة حرارة المجتمع، انه فقط وعي افراد المجتمع بهذا الفرق هو الذي يرفع درجة حرارة المجتمع ويعمل على إسالته ويمهد الطريق لتغييره. وهنا تبرز أهمية الدور الذي يلعبه افراد النخبة "الفاعلون" في إدارة التغير قبل انتقال المجتمع لحالة الكيوس وبعد انتقاله. فقبل الانتقال يكون دورهم زيادة وعي افراد المجتمع بالفرق بين ما هو كائن وما ينبغي ان يكون. اما دورهم اثناء الانتقال فهو تقليل الآثار السلبية لبعض النتائج غير المرغوبة التي تنشأ نتيجة لوجود المجتمع في حالة على حافة الكيوس مثل "الحرية الهدامة" التي ذكرناها سابقا. وفي كلتا الحالتين تعتبر "الفاعليات"، بكافة اشكالها، هي الأداة التي يستخدمها "الفاعلون" في أداء ادوارهم. وترشدنا نظرية الكيوس بالملامح المطلوب توفرها في الفعاليات والتي من أهمها:

1. تحديد هدف الفعالية بدقة
2. استخدام قواعد بسيطة لتنظيم عمل المشاركين في الفعالية. او، بعبارة اخري تبني مجموعة من القيم التي تدعم تنفيذ أنشطة العالية، مثل ضرورة الالتزام بالمواعيد
3. السماح بقليل من الفوضى (اتاحة الفرصة امام المشاركين للفعل المستقل في إطار الهدف المحدد)
4. حجم الفعالية ليس مهم لكي تحدث تأثير كبير فهكذا تخبرنا "اللاخطية"
5. اهمية اختيار زمن بداية الفعالية ومكانها وذلك انطلاقا من مبدأ "التوقف الحساس على الشروط الابتدائية"
6. المرونة وهي القدرة على التكيف مع الاحداث غير المتوقعة، وذلك احتراما لخاصية "اللاتنبؤية (عدم امكان التنبؤ بعيد المدى)"
7. التعددية (تعدد وتنوع الافكار وتصادمها شرط للإبداع والابتكار)
8. التشبيك (استثمار النجاحات الصغيرة وتكرارها عبر اقامة علاقات مع أطراف جديدة)

المراجع
السيد, ا. ن. ا. (2014). "هي فوضى ...؟ الابجدية (1/2)." الحوار المتمدن 4651( 3 ديسمبر): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=444306.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة : أي دور للمثقفين والنجوم؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مذيعة CNN تواجه بايدن: صور الأطفال في غزة مروعة وتكسر القلب.




.. تغيير العقيدة النووية الإيرانية.. هل تمهد إيران للإعلان الكب


.. المستشفى الإماراتي ينفذ عشرات العمليات الجراحية المعقدة رغم




.. الصين تتغلغل في أوروبا.. هل دقت ساعة استبدال أميركا؟| #التاس