الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القصيدة .. القاريء .. والناقد

فيصل قرقطي

2005 / 9 / 3
الادب والفن


تبدو القصيدة، وكأنها طالعة من كهف مظلم أو فج عميق، متلألئة بأقراطها وخلاخيلها، تجر أحمال الكلمات والمعاني والصور، شريدة تبحث عن قارئ. خارجة من مصدرها الأول. هكذا يحلو لي البدء في إلقاء بعض الضوء على القصيدة وما ترمي إليه، بل وأين ستصل عبر دور مفترض؟ وثم اين مركزها.. وقراؤها يا ترى.. وهل ما زالت القصيدة تلقى الاحتفاء الكافي من القارئ والمثقف والناقد على السواء؟!
مع احتدام المعاناة يتكثف الشعور فيتعانق مع القلق الطالع من أنين الوقت والدقائق ليلقي بظلاله السوداء في مرابع الروح، تلك التي تحاول أن تجد توازنها بين الحلم بكل نضارته وفرحه، وبين الواقع المأزوم الملغوم بألف لغز ولغز. هكذا تتسلسل القصيدة في محاولة من المبدع لإيجاد المعادل الموضوعي والنفسي والجمالي لحياته عبر الحياة ذاتها.. وتمر هذه العملية عبر دهاليز الألم والعذاب حتى لو كانت القصيدة مكمن فرح ما إلى كثير من القراء.
ومهما تشعبت القصيدة بموضوعها، وأحلامها غير الواعية والبعيدة عن حلم اليقظة لتصل إلى تخوم اللاوعي.. هذا اللاوعي الذي أطلق عليه بعض علماء النفس والاجتماع اسم "الجنون" إذ ربطوا بين العملية الإبداعية الخارقة، التي تصل إلى حدود العبقرية، وبين الجنون.. والأمر ينتهي بالمجنون في المصحة العقلية، حتى لو كان أكبر العباقرة إبداعا، بينما يمكن أن ينصب له تمثال أيضا في الساحات العامة.
ولكن ترى ما العلاقة البعيدة الرابطة بين الجنون، كفعل، وبين التمثال كجماد وحركة في آن؟! ربما ينطوي الأمر المفسر لهذه العلاقة على المفارقة أولا وعلى الظلم ثانيا لجهة المبدع العبقري.. هذا الذي تتحول حياته كلها وأعماله إلى تمثال صامت في إحدى الساحات العامة.
ما ترمي إليه القصيدة هو أن تزج بالحياة في داخلها من أوسع الأبواب.. لتصبح نصا حياتيا ينفتح على كل الاحتمالات.. والإشكالات الاجتماعية والسياسية، والنفسية والثورية منها، لتؤصل العلاقة الحميمة بين المشهد الجمالي والعين من جهة، وبين لهيب التجارب بمختلف أنواعها واستمرار الصمود والتصدي لها عبر ضخ مكامن جديدة من القوى النفسية لمواجهة العذاب الناجم عن ظلم الواقع المحمل بكل الخيبات والمرارات والألم.
إذا الشاعر من هذه الزاوية، وحسب هذا المفهوم، يتأرجح بين نقطتي الفشل والصمود، رائيا ما هو عسير على الرؤيا، مركزا احتمالات الفهم أبعد من الحدود الضيقة للكلمات بمفردها، مولداً منها مجتمعه صورا ومعاني جديدة وجديرة بالقراءة والفهم والمتابعة.
لكن السؤال الذي ينبغي طرحه هنا إلى أي حد تصل القصيدة؟
والوصول هنا يأخذ معنى تفاعليا أكثر منه كعملية ميكانيكية اطلاعية، أو قرائية للنص.. أعني كيف تصل القصيدة، بكل ما تحمل من أفكار ومعان إلى حدود الذوق الجمالي والمعرفي لتغير أو تجدد في مفاهيم وذائقة جمالية، كذلك لدى من القارئ والمثقف والناقد على السواء.
ولنعترف الآن، كقراء ومثقفين ونقاد، أن القصيدة في واد ونحن في واد كذلك. وهذا ينطبق ليس على القصيدة، فحسب وإنما على مختلف الفنون الإبداعية والعلوم التثقيفية أيضا، لأن عادة القراءة ربما لم تعد موجودة بذاك الاهتمام الكبير لدى القراء والمثقفين والنقاد على السواء.
ربما قد زهدوا منها، ومن دورها التغييري، أو ربما هذا راجع لإحساسهم بأن القراءة لا تعطيهم مفاتيح استخدامها في الحياة في ظل طفرة المادية، والسباق المحموم وراء النقد بكل أشكاله.. هذا إضافة إلى غلاء الأسعار المرعب للكتب، إذ أصبحت القراءة مكلفة على الصعيد المادي، وفقدت دورها في المثقافة، وكذلك فإن عادة القراءة أساساً تراجعت لتأخذ حيزا لا يتجاوز الدقائق في اليوم، ربما.. وحينما أسأل بعض الشباب ماذا قرأت هذا الأسبوع يحار، إذاً هذا الشهر.. هذه السنة، ربما لا يعطييني سوى اسم كتاب واحد على أبعد تقدير.. وما تعكسه وسائل الإعلام من نتائج في هذا المجال خير دليل على ما نرمي إليه.
نحن نفهم كل ذلك ولكن لا نفهم أحجام النقاد عن القراءة حتى الجادين منهم.. والذين يملأؤون صفحات المطبوعات الأدبية بدراساتهم النقدية، فإنهم قصروا قراءاتهم على التأسيس لثقافة الكتابة وكفى الله المؤمنين شرّ القتال.. إذيغيب عن اطلاعهم، سعة المشهد الإبداعي العربي وتطوره.. وتجدوه بتجارب جد مهمة استطاعت أن تتوج القرن المنصرم بأعمال مهمة تركت بصمات واضحة على الأجيال الجديدة بامتياز.
فما حال المبدع هنا، والنقاد على هذه الحال، رغم معرفتنا الأكيدة أن أهم دافع مواز للمبدع في العملية الإبداعية هو النقد المبدع أيضا، لأن النقد الجاد لا يمكن إلا أن يكون إبداعا على إبداع، وبالتالي فإذا خسر المبدع صورته في المرآة، أو حجبت عنه المرآة برمتها، ربما يتوه في خضم مفاهيم ورؤى لا تحمد عقباها.. وهنا تقع مسؤولية كبرى على النقد بكل تجلياته واختياراته، التي آن الأوان لها أن تتحرر من حدود وهج الأسماء والعلاقات الشخصية والمصالح الآنية الضيقة، لأنه في ذلك لا يخدم العملية الإبداعية وكذلك لا يخدم مشروعه النقدي الذي يسعى إلى تحقيقه.
النقد الإبداعي، فلسطينيا وعربيا بشكل أقل، شبه غائب على كافة الصعد والأنواع الأدبية: القصة والرواية والمسرح والسينما والموسيقى والفن التشكيلي والقصيدة أيضا. وهذه الأخيرة، عبر تكثف الشعرية، تنفرد عن مختلف الفنون الإبداعية والأدبية لأن شعرية النص لا تختلف إلا في الشكل عن شعرية الفيلم السينمائي أو المسرحية أو الموسيقى.. الخ.
لذلك بفقدان القصيدة للنقد تفقد مجمل الأنواع الإبداعية الأخرى حيزا مهما من تطورها وتجددها عبر الزمن.
قديما كان للقصيدة مركزا وعاصمة.. ففي الأربعينات كانت بغداد عاصمة القصيدة، وفي الخمسينات والستينات احتلت بيروت مركز عاصمة القصيدة بامتياز. أما في السبعينات وما بعدها لم تعد هناك عاصمة للقصيدة العربية بل توزعت على العواصم كلها وتعدت ذلك لتصل إلى الأطراف، ولم يعد للقصيدة عاصمة أو مركز.. إن القصيدة دخلت أبواب الاغتراب والمنافي والهوامش لتحتل جسدها لإن أمكنها ذلك، لكنها ما زالت صامدة بمعنى أنها تشكل نفسها على نحو جديد في ظل متغيرات العالم الجديدة ودخول الكومبيوتر والإنترنيت إلى كل بيت.. لكنها فقدت حرارة التواصل والمواجهة مع الجمهور، وهذا الفقد جعل منها مكمنا للاحتفاء بالاغتراب الموجع والجارح حتى في المدن الكبيرة.. هل فقدت المدن الكبيرة صبرها وبالتالي أصدرت مرسوم أبعاد الشعر والشاعر العربي إلى تخوم المنافي؟!
هذا ما تجيب عنه النصوص المكدسة في مجموعات الشعراء على رفوف المكتبات.. وفي أدراج دور النشر.. والمعارض، وكذلك أدراج الشعراء التي تغص بالنصوص الذي جعلها خواء النقد وانكفاءه وثيقة للعصر الحديث، ولكن ما زالت لم تستخدم هذه الوثيقة على نحو جلي.
وأعتقد أنها لن تستخدم لعشرات من السنين القادمة إلا إذا صحا النقد من سباته العميق.. وتخشى أن يكون الأمر به موت للنقد.. والناقد معا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي