الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليسار وجذُور التطرّف

عزالدّين بوغانمي

2014 / 12 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


كان يمكن لليسار في العالم بصِفة عامّة أن يكون أكثر مرونة، وأكثر قدرة على التّعامل مع عراقيل التّاريخ. وأكثر شجاعة على السّير في الطريق الأقلّ مآسي. واليسار التّونسي بصفة خاصّة الذي يحمل في بواطنه ثقافة أهل السنّة والجماعة، كان بإمكانه أن يكون أوسع وأكثر اندماجا وانفتاحا على محيطه الحداثي التّقدّمي، وأقلّ حدّة وخشونة في ايجاد مساحات مشتركة مع قوى سياسيّة نيّرة لمواجهة الفاشيّة بكلّ أنواعها الزّمنية أو الدّينية. كان يمكن لليسار في كلّ العالم أن ينْجحَ في احتلال مواقع مفصليّة سواء في المجتمع أو في الدّولة، تُمكِنُه من محاربة اغتراب الإنسان الذي هو جوهر المعركة الطّبقيّة.
كُلّ هذا كان مُمْكِنًا لولا كتابيْن في التّراث السيّاسي الماركسي. هما "نقد برنامج قوتا" لكارل ماركس، و"الثّورة البروليتاريّة والمرتد كاوتسكيً" لِلنين.
الكتاب الأوّل كُتِبَ سنة 1875، ولم يُنْشر إلّا سنة 1891، وقدْ تميّز بالصرامة القاطعة، والتصلّب الذي أورد فيه ماركس استنتاجاته حول مشروع البرنامج. حتّى أن انجلز تعمّد حذف بعض العبارات القاسية وعوّضها بنقاط !
والحقيقة أن ذلك النصّ العنيف، استمدّ عنفه -كما سيوضّح انجلس ذلك بعد مُضيّ 15 عامًا على كتابتهِ- من الظروف السّياسيّة ومن الخلافات داخل الأمميّة الأولى. بحيث كان كارل ماركس ملتحما بالحركة الاشتراكية الألمانية أكثر مما في أية لحظة أخرى، وكان لابد للتراجع البين في مشروع البرنامج، من أن يبعث فيه بالغ الاشمئزاز. ثمّ إنّه كان حينذاك، وما كادت تمضي سنتان على مؤتمر الأممية في لاهاي، في ذروة المعركة ضد باكونين وأتباعه من الفوضويين الذين كانوا يعتبرونه مسؤولًا عن كل ما يجري في صفوف الحركة العمالية في ألمانيا من تراجع. ولذا كان لابد له أن يتوقّع اتّهامه بأن يكون هو وراء ذلك البرنامج بشكل سِرّي !
يعني الرّجل كتب كتابا -في جانب من الجوانب- لدفع التّهمة عن نفسه. وبإمكانكم تخيّل تأثير الذّاتيّة على مضمون النّص.

الكتاب الثّاني الذي دفع ببعض اليساريين عندنا في تونس إلى التطرّف حدود التّشنّج واليباس الدّائم، فيما كانوا يحوزون على مؤهّلات وجدانيّة تجعلهم شعراء لولا تشبّعهم بمضامين هذا الكتاب التّصفوي.
"الثّورة البروليتاريّة والمرتد كاوتسكي". وهو كرّاس خصّصه لينين لِتخوين أبرز المنظرين الماركسيين في أوروبا و بقية العالم بعد وفاة فريدرخ انغلز. ويكفي لأيّ عاقلٍ أن يتمعّن في النعت "المرتد" ومفهومه الدّيني حتى يتوقّع ضعف مصداقيّة الكتاب.

لقد عوقب كاوتسكي في هذا الكِتاب، وخُوِّنَ، ووُصِفَ بأبشع النُعوت وأشدِّها قسوة، من أجل فكرة جوهريّة يتبنّاها يساريو تونس اليوم على بِكْرةِ أبيهم. وهي أنّه "في ظل النظام الديمقراطي البرجوازي (( لم يعد هناك مجال للنضال المسلح كوسيلة لتسوية النزاع الطبقي )) .. وقد وضّح كاوتسكي ذلك في رسالته *مرثاة لينين* حيث يقول بالحرف ما يقوله حمّة الهمّامي اليوم وبقيّة الرّفاق اللّينينيين جدًّا : "...وممّا يضحك، الدعوة الى الاطاحة بالسّلطة السياسية بالعنف" ! و وصف كاوتسكي البلاشفة في نفس الرّسالة ب"كقابلة مستعجلة تستخدم العنف لتجعل امرأة حبلى تلد جنينها في شهرها الخامس بدلا من التاسع".

المصيبة أنّ الرّفاق اليوم، في مستوى الخطاب والتّحالفات، وفي شكل تعاطيهم مع بقيّة الأحزاب التي واجهت معهم الفاشيّة الدّينية والإرهاب، لازالوا أوفياء لهذين النصّين تحديًدًا، نصّي كارل ماركس ولينين، واعتبار الاستنتاجات الواردة فيهما بمثابة قوانين الخط الثّوري المكتملة في الوقت الذي يمارسون فيه سياسات "قوتا" و"كاوتسكي"..

أعتقدُ أنّ هذا التّناقض بين رماديّة النّظريّة، واخضرار شجرة الحياة هو الذي سبّب لهم كلّ هذا التّعب وهذا التطرّف اللّغوي الذي يؤدّي إلى مراكمة الخسائر السّياسيّة الفادحة والعجز عن استثمار الأوضاع السّياسيّة لصالح الثورة والشّعب في حقل مقتضيات المرحلة وممكناتها الواقعيّة، وليس استجابة لنداءات ايديولوجيّة غامضة وخاطئة حتّى نظريًّا.

لا شكّ أنّ "الماركسيين" الذين لم يطّلعوا على الماركسيّة سيهاجمونني بشدّة لأنّهم سيظنّون أنّي بهذا الحفر في الفكر أسُبّ مجلس الأمناء. فقط أذكّر بعض الرّفاق أنّ مثل هذه المواضيع الخطيرة كنت أُناقِشُها مع ذلك الرّجل العظيم المثقّف الثّوري الاستثنائئي ،، ذلك القلب الذي غُدِرَ فتوقّف على الخفقان..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة ثقة بين دول المنطقة وإسرائيل بسبب ممارسات حكومة نتنياهو


.. -يكفي.. بدنا وقف إطلاق نار-.. فلسطينية بغزة تنهار بالبكاء وت




.. ضابط إسرائيلي سابق: الحرب في غزة أصبحت أكثر صعوبة وحان الوقت


.. مظاهرة في العاصمة الهولندية أمستردام تنديدا بحرب إسرائيل على




.. ضبط إسرائيليين حاولا تهريب 73 سبيكة ذهبية إلى إسطنبول