الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأستاذ

بدر الدين شنن

2014 / 12 / 21
الادب والفن


كان أسعد عاملاً " معلماً ، في معمل يعود لمكتبة عريقة " ، لتجليد الكتب النادرة والثمينة ، أو الجديدة ، بالطريقة " الإفرنجية " ، التي تستخدم الجلود ، وتطبع على ظهر الكتاب ، اسم الكتاب ، واسم المؤلف ، وزخرفات ، بحبر ذهبي اللون .. وألوان أخرى . وكنت أن مبتدئاً مساعداً له مع عدد من العمال .
كان يوم عملنا يبتدئ صباحاً مع صحن من الفول من عند " أبو عمر " في منتصف سوق السويقة المجاور للمعمل . وبعد كأس من الشاي المحلى بسكر زيادة ، وبعد أن يقوم المعلم أسعد ، بتوزيع الكتب علينا نبدأ العمل . فكان يعطي الكتب القديمة التي تحتاج لترميم قبل التجليد للعمال المخضرمين بالمهنة ، والكتب العادية والجديدة لأمثالي المبتدئين . وقد كان من الطبيعي أن نتداول الكتب أثناء العمل ، باستثنائه هو ، كأشياء جامدة . أما هو فكان يتعامل معها باحترام ، ويدعونا دائماً لاحترامها مثله .
لكن له نظرة خاصة لأصحاب الكتب أو المؤلفين ، الذين يأتون أحياناً إلى المعمل للسؤال عن كتبهم . فإن كان صاحب الكتاب أو المؤلف متواضعاً ويحترم محدثه ، وخاصة في حديثه معنا ، كان يناديه " أستاذ " باحترام . وإن كان مغروراً متعجرفاً ، كان يناديه " أستاذ " بنبرة جافة . وكان يعلل لنا هذه النظرة للأساتذة ، بأن هناك " أستاذ " متعلم فقط ، وهو يتعالى على الآخرين ، لاسيما البسطاء ، بشهاداته ، ويسخرها لاستغلال الناس . وهناك " أستاذ " .. معلم .. والأستاذ المعلم .. يكون متواضعاً ، ويسخر علمه وشهاداته لمساعدة الناس . ومثل هذا الأستاذ يستحق الاحترام .

وكان يقول :
= من حظنا .. أننا نتعرف في عملنا على عظماء .. ونتعامل مع عظماء ، من خلال كتبهم ، التي بين أيدينا . إن الكتاب ليس مجموعة أوراق مخطوطة أو مطبوعة ، محفوظة بين دفتين .. إنه خزانة تحوي إبداعات إنسان ، فكر وكتب من أجلنا .
ومرة قال :
= إن الكاتب " الصادق مع ضميره .. ومع العدالة الإنسانية .. هو نبي عصره .
وقال مرات عدة :
= نحن بأمس الحاجة للأساتذة " الصادقين .. المعلمين " .

وحين كان يتكلم عن الكتب ، كان ينظر إلينا خلسة ، ليرى انعكاسات كلماته علينا . ثم يتابع الكلام عن الكتاب . فيتناول كتاباً .. ثم آخر .. ويقول :
= انظروا .. هذا أبو العلاء المعري .. وهذا طه حسين .. وهذا أبو الطيب المتنبي .. وهذا ابن سينا .. وهذا ابن رشد .
ويحرجه أحدنا ، لما يسأله عن مضمون الكتاب ، فيجيب بإيجاز شديد :
= هذا فيلسوف .. وهذا أديب .. وهذا شاعر .. وهذا طبيب .. وهذا عالم اجتماع .
ويثير اختزال الجواب سؤالاً مضمراً في نفوسنا .. هل لا وقت عنده ليشرح المزيد .. أم أنه لا يعرف ؟ . وذهبت أنا بالسؤال أبعد من ذلك . فكرت .. هل أنه لم يقرأ من هذه الكتب شيئاً .. أو لا يعرف أن يشرح ما قرأ ؟ .. وصرفت النظر عن الفكرة . وشعرت نحوه بعطف بالغ ، واحترام شديد . وبدأت ألفت نظره إلى أنني أتفهمه . وألبي كل طلباته أثناء العمل بشكل متقن .

في آخر يوم عمل في نهاية الأسبوع ، اقترب مني بود ظاهر ، وقال بصوت خافت ، لا تذهب اليوم بسرعة .. أريد أن أتحدث معك لوحدنا .
ذهب بقية العمال .. وبقينا أنا وهو في المعمل . وبعد أن شربنا كأساً من الشاي . قال لي :
= أنا أعرف أنك لم تكمل دراستك ، لأنك يتيم مثلي .. لكنك تعلمت أكثر مني . أنا أقرأ في هذه الكتب وغيرها .. لكنني أفهمها . صحيح أنها مكتوبة باللغة العربية .. لكن الأساتذة وكأنهم يكتبون لبعضهم البعض ، وطريقتهم في التعبير صعبة علي .
قلت له
= لماذا لا تذهب إلى مدرسة ليلية ؟ ..
قال :
= أولاً أنها مكلفة .. وعلي أن أمضي سنوات فيها ، حتى أصل بدايات مشواري الطويل .
صمت قليلاً ، ثم تكلم كمن حزم أمره على شيء :
= أنا عندي مشروع أسرع .. وأرخص ..
= وما هو ؟ ..
= أن نكون أنا وأنت شركاء في القراءة .. أنت تقرأ .. وأنا أسمع .. ونتعاون على شرح وفهم ما قرأنا .
قلت له :
= هذا يحتاج إلى وقت طويل أيضاً .. ويحتاج إلى ..
قاطعني وقال :
= فلنجرب .. أنا واثق أننا سننجح . سنقرأ مساء بعد العمل .. يومان أو ثلاثة في الأسبوع فقط ..
= وصاحب المعمل ؟ ..
= لا يهم .. إنني أنام في المعمل بموافقته ورغبته .. ويعرف أنني أتصرف بالمكان بعد العمل كبيتي .

وبدأنا بالكتاب الأول . استغرقت قراءته أسابيع عدة . وحين بدأنا بقراءة الكتاب الثاني ، انضم إلينا أحد الزملاء في العمل ، ثم انضم ثان وثالث .
أصبحت الجلسة ممتعة . لم يعد للوقت عندنا حساب . أحياناً نستمر في القراءة ، والحديث حول ما نقرأ ، إلى منتصف الليل ، دون أن نشعر بجريان الوقت والتعب .
لم تعد الكتب التي بين أيدينا تلبي تطلعاتنا . إذ أن بعضها .. أو كلها .. تحتوي موضوعات لأزمنة ولت ، وانطوت قضاياها وخصوصياتها ، أو تهتم برموز ليس لرؤاها مستقبل . ورحنا نشتري كتباً جديدة ، كان أسعد المساهم الأكبر بثمنها .

وتابعنا قراءتنا ، واضعين الزمن خلفنا . قرأنا كتباً ، للشيخ خالد محمد خالد ، وجورج حنا ، وتوفيق الحكيم ، وعمر فاخوري ، ومكسيم غوركي ، وتشيخوف ، وعبد الرحمن الكواكبي ، وجمال الدين الأفغاني ، وابن طفيل . وقرأنا كتباً تحكي عن كومونة باريس ، وثورة أوكتوبر ، وثورة سبارتاكوس ، وعن المعتزلة والقرامطة .
بعد سنوات من القراءة ، والنقاش ، حول المطابقات ، والتوقعات ، والاحتمالات ، شعرت أنني صرت إنساناً آخر ، وأعتقد أن الزملاء المشاركين قد شعروا بذلك أيضاً ، وصار أسعد في مكانة هامة بيننا . كان يلتقط الفكرة ، التي نتعثر في التعامل معها ، ويسترسل في الحديث عنها بأسلوب شيق ممتع .. كمعلم متمكن ..

ذات مساء حضر موعد قراءتنا فجأة أحد أصدقاء الحارس . وقد عبر عن سعادته بلقائنا وبما نقرأ . لكن الحارس لم يعجبه حضوره ، وطلب منه أن يغادر المكان فوراً ، وألاّ يعود إلى هنا مرة أخرى . وصرخ به متوعداً :
= والله إذا تضرر أحد من هؤلاء .. وأشار إلينا .. ستكون نهايتك على يدي .
وبعد أن ذهب ذاك الشخص ، سأل أسعد الحارس .. ما الخبر .. قال :
= الحقير بعد التحاقه بالجيش انضم إلى المكتب الثاني . أتعرفون من هو المكتب الثاني ؟ .. إنه سلك ظالم ، لا يخرج سجين من عنده دون أذى بجسده أو عقله .
وعدنا لمتابعة القراءة . لكن أسعد قال :
= يكفنا قراءة هذه الليلة .
واستمعنا لفيروز تغني .. سنرجع يوماً إلى حينا ..

وكانت تلك الليلة هي آخر ليلة قراءة لنا .
في اليوم التالي ، أعطاني أسع عدداً من الكتب وقال :
= كل الكتب التي اشتريناها هي ملكنا كلنا . وأي كتاب يحتاجه أحدكم ، هو تحت تصرفه .

ذات يوم ، بينما كنت مندمجاً مع حركة الآلة في معمل آخر ، فوجئت بعدة رجال مسلحين يهبطون درج المعمل . ثم انتشروا في المعمل ، وأخذوا يسألون العمال ، واحداً .. واحداً . وجاء أحدهم إلي وسألني عن اسمي بالكامل . ولما سمع اسم العائلة ، قال تعال .. قلت إلى أين .. قال لا تكثر حكي .. هيا .
وخرجت مع رجال الأمن من المعمل مقيد اليدين ، ورجال الأمن يسيرون حولي . نظرت حولي .. فوجدت في الشارع .. هنا .. وهناك .. تجمعات صغيرة من المارة وسكان الحر يرقبون ما يجري .
حين وصلنا مقر الأمن ، كان عدد من الأشخاص بعضهم من عمال يعملون في ورشات في المنطقة ، واقفين تلفهم حالة من الرعب والهلع .
أخذوني إلى مكان آخر في المقر ، فوجدت أسعد يتلقى الصفعات على وجهه وهو يرد على أسئلتهم . ولما استدار صدفة على اليمين رآني ، فابتسم .
وأخذونا مساء كلنا إلى السجن . ووضعونا في زنزانة جماعية ، هي أسوأ مكان في قسم الزنازين .
جلسنا أنا وأسعد إلى جوار بعض . وبادر بالقول متعاطفاً ومندهشاً :
= حتى أنت اعتقلوك ..؟ ..
ثم سألني :
= لماذا جاؤوا بك ؟
قلت :
= لا أعرف .
قال :
= عن ماذا سألوك ؟ .
= عن أحد أبناء عمي اسمه محمود .
= وماهي قصة محمود .
= ما أعرفه عنه أنه لما كان يافعاً ، تطوع بالجيش الإنكليزي . لكنه ما لبث أن هرب بسلاحه والتحق بسلطان باشا الأطرش . وهو الآن يعمل رغم كبره حمالاً .
وعقب أسعد على قصة محمود بوقار واضح :
= يبدو أنه الآن يحمل هم البلد .

سويعات قليلة ، واستوعب الشباب آلام الضرب والتعذيب ، وغطوا وسط صمت الزنازين ، في سبات عميق . لكن صوتاً مرتفعاً قليلاً ، جاء من زنزانة قريبة ، مخترقاً رهبة القضبان الحديدية ، والظلام الذي خلف ظلاله تحت مصابيح خافتة ، يقول بنبرة رجولية :
= أحييكم شباب .. أنا أخوكم أبو عيسى .. السجن للرجال .. ولا يهمكم .. كام يوم وتذهبون إلى بيتكم وأهلكم ورأسكم مرفوع .
وكرر أبو عيسى رسالته ، ليتأكد أن الشباب قد سمعوها .
وساد الصمت مرة ثانية . لم أستطع النوم .. وكذلك أسعد . كانت الأماكن التي انهالت عليها العصي في جسمي تؤلمني .. وتورم في رأسي يصدعني . وكان أسعد يكابد آلامه بصمت مثلي . وفكرت أن أمازحه ، لعلنا نتجاوز الألم .. قلت له :
= ما رأيك بكتاب جديد نمضي معه هذه الليلة الزفت ؟ ..
ابتسم وقال :
= الكتاب الذي يملأ رأسي بعد الآن ، ليس أي كتاب ، وإنما هو الكتاب الذي يحكي .. عن آلامنا نحن .. والظلم الذي يسلبنا حريتنا ولقمتنا .. ويعبر عن خصوصيتنا وأحلامنا .. ومستقبلنا نحن .. ويكون باللغة التي نفهمها نحن .
وقلت له بصوت يغلب عليه الرجاء :
= اكتب أنت .. لماذا لا تكتب . إن لك تجربة غنية . أنا لم أتأخر كثيراً .. حتى عرفت ماذا تكنز .. في أعماق تواضعك وبساطتك ..
نظر إلى نظرة الواعد ورد علي :
= سأكتب .. وأنت يجب أن تكتب .. لمن ليس للتحليق في عالم الشهرة ، أو حباً في تزيين رفوف المكتبات . بل للتوصل إلى الخيار الصح ,, والطريق الصح ..
وسألته لأطمئن وأتأكد :
= ستكتب يا أستاذ .. ؟ .. قال :
= نعم سأكتب .. وتذكر هذا الوعد . لكن إياك أن تكرر مناداتي " أستاذ " مرة أخرى .. وضحكنا .

وكبر أسعد العامل .. المعلم .. في عيني أكثر . وازداد تعاطفي معه .. واحترامي له .. وعدت لأقول في نفسي .. سأذكر ذلك .. يا أستاذ .. يا معلم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات


.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة




.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها


.. الممثلة ستورمي دانييلز تدعو إلى تحويل ترمب لـ-كيس ملاكمة-




.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق