الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتحذلقون

سيدة عشتار بن علي

2014 / 12 / 22
الادب والفن



كثيرا ما تعترضني بعض النصوص الأدبية سواء كانت شعرية أو نثرية تجبرني على التوقف وقراءتها بتمعن مرة او مرتين واحيانا أكثر وانا في حيرة من أمري ولا أعرف ان كان علي أن انبهر أو استغرب أو أستنكر... اسهال كلامي أو لنقل دفق لغوي ينخرط فيه الكاتب بما يشبه حالات الهذيان الّتي يصاب بها عادة اولئك الذين يصابون بنوبات صرع ويقولون ان هناك مخلوقا من الجن كان يتحدث على لسانهم دون وعي منهم ....هذا النوع من النّصوص وكما سبق ان قلت اجد نفسي مضطرة الى متابعته ومحاولة القبض على تفاصيله وتبين ملامحه ,فصاحبه يصول ويجول مستعرضا كل ما حفلت به اللغة من غريب الالفاظ الطنّانة والرنّانة مستعرضا حذلقاته اللفظية دون الالتفات الى معنى الكلمات الّتي يستعملها وما يمكن ان ترمز له أمام... هذا النّوع من النّصوص أجدني أجاهد واغالب في محاولة للفهم الى ان اصاب بالصداع واحس بدوخة ,لكن اخرج خالية الوفاض من أي معنى رغم انبهاري بالكرنفال اللفظي لصاحبه فأتساءل بيني وبين نفسي :ماذا تريد?! الى اين ?!توقف ارجوك اريد ان افهم ?!قطعت نفسي الله يقطع نفسك... ولا أخفيكم أحيانا ينتابني شك بأني أعاني من قصور في الفهم وان ليس لدي ما يكفي من الذكاء الفلسفي والبلاغي لاستيعاب معاني مثل هذه النصوص الباذخة فالحوارالذي دار بين ابي سعيد الضرير و ابي تمام والذي كثيرا ما ردده أساتذننا أمامنا شكل في نفوسنا عقدة أصيلة هي عقدة الخوف من انكشاف جهلنا واكتشاف الاخرين بأننا قاصرون عن الفهم فقد ورد في شرح الصولي لديوان أبي تمّام أن أبا سعيد الضرير سأل أبا تمّام قائلا
يا ابا تمام لم لا تقول ما يفهم? فما كان منه الا ان أجابه و انت يا ابا سعيد لم لا تفهم من الشعر ما يقال ?لكن أليس معنى الفصاحة هو خلوص الكلام من كل تلك العيوب التي قد تجعله ثقيلا متنافرا أو مبهما غير مستبين المعنى ?
أليس معنى البلاغة أن يكون للفظ يكون في جملة تبلغ المعنى المنشود فيصبح بليغا ?....نصوص مبهرة شكلا لكنها أشبه ما تكون بطلاسم السحرة والمشعوذين والقصد طبعا من ذلك هو ابهار القارئ واستعراض العضلات اللغوية في حين انه في الحقيقة كاتبها يرهق نفسه بذلك ويرهق القارئ معتقدا بذلك انه بليغ والحال ان البلاغة الحقيقية كما فسرها بعض الادباء هي التي اذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها :اي انها بسيطة وغير متكلفة


يعبّر أحد الكتّاب في هذا الاطار باسلوب خفيف الظل واعترافات أشبه ما تكون باعترافات روسو متحدثا عن بداياته مع عالم الصحافة والكتابة فقد اعترف هذا الكاتب أنه كان يراهن على الابهار لأنه فهم اللعبة وعرف ان نفش الريش اللفظي وعدم فهم الاخرين لما يتشدق به بعض الكتاب والشعراء من الفاظ طنّانة ورنانة الغرض منها ليس تبليغ رسالة بل جعل القارئ يحس بدونيته وجهله امام هذا العبقري البليغ ....يقول الكاتب صاحب الاعتراف الجريء :
كنت استفيد من هذا الابهار لتغطية قصوري أمام مخضرمين ولدوا وترعرعوا في مستنقع المناورات السياسية وحيلها التي لا تنتهي. أقابل مثلا قائدا نقابيا سابقا. أتصيد حديثه بدقة لأضع في أعقابه بمهارة مثل هذه المقولة لكولون ولسن "لقد تحول كل من فان جوخ ونيتشة إلي شعلة متوهجة من اللا انتمائية، ولكن أكثر اللا منتمين لا يتحولون إلي أكثر من جمرة خابية، فلا ينتجون إلا بعض الدخان الأسود يلطخهم ويلطخ كل من حولهم". كنت أشعر بعدها وفي كل مرة كما لو أنني أكبر في المقام صاعدا علي أنقاض حسرات جهلهم الكظيم.
ولو أن أحدهم تجاوز معي وقتها حدود تلك العبارات، لتهدم معبد المعرفة الزائف علي رأسي بلا شفقة، لكنه ذلك الخوف الكامن في دواخلنا من السؤال عما لا نعرفه خشية أن يكتشف ذلك الخواء ويفضح وجودهم عن جهل بذلوا ما في وسعهم لإخفائه عبر مدارات الصمت البائسة
يقول رولان بارتأن ثمة مستويات ثلاثة من النصوص الأول تمكن قراءته واعادة كتابته انطلاقا من كون القارئ منتجا وليس مجرد مستهلك له, والثاني نص تمكن قراءته فقط , والثالث نص لا تمكن قراءته أو إعادة كتابته
حال هؤلاء المتحذلقين هو اشبه ما يكون بحال بطلتي مسرحية المتحذلقات للمبدع الفرنسي موليير والمتحذلقات هي ملهاة ساخرة تعرض فيها موليير لعيوب مجتمعه الغارق آنذاك في التخلف والاسراف والرياء وتدور أحداث المسرحية حول عائلة متكونة من اب وابنتيه نزحوا من الرّيف الفرنسي الى المدينة اين راحت البنتان تحاولان تقليد صاحبات الصّالونات اللاتي كن يفتحن بيوتهن كمنتديات لاستقبال أهل الشعر والموسيقى والأدب ويحدث ان يتقدم للبنتين خاطبين راغبين في الزواج منهما فيقع رفضهما من قبل الاختين بتعلّة انهما لا يتقنان فنون الغزل وليس بارعين في الألفاظ الرنانة والطّنّانة فما كان من الخاطبين الا ان قاما بتدبير مكيدة للانتقام لكرامتهما من الأختين المتحذلقتين فقاما بارسال خادميهما بعد ان جعلاهما يتنكران في ثياب أنيقة ليوهما الفتاتين انهما من النّبلاء والعظماء فراحا الخادمين يتشدقان بغريب الألفظ ورنّانها ويغدقان على الأختين ما وقع تلقينهما من عبارات الغزل المثقل بالزخرف اللفظي مما جعل البنتين تنبهران بالخاطبين ا الجديدين وتقبلهما كعريسن ثم تتوالى أحداث المسرحية حتى تقوم الفتاتين باحياء حفلة موسيقية راقصة رقصتا فيها بشغف وانبهار مع الخادمين المتنكرين المتحذلقين فاذا بالصدمة والمفاجأة تقطع كل ذلك واذا بالخادمين المتنكرين يتلقيان الضرب بالعصي من طرف سيّديهما أمام الجميع لتنكشف الحقيقة والفضيحة التي جعلت البنتين تصدمان وتدركان مدى سطحيتهما وتفاهتهما ويكون ما حدث لهما عبرة ودرسا بان المظاهر والتّشّدق بالألفاظ الرنانة ليس دليلا على نبل صاحبها ونبل فكره والحذلقة اللفظية كثيرا ما تخفي بين طيّاتها سخفا وسطحية في التّفكير وحاله كحال البط الذي يواصل ركضه وهو مقطوع الرّأ س
هذا بالنسبة للمتحذلق الذي فقط يرنو الى ابهار الآخرين واثارة دهشتهم دون ان تكون لدية نيّة الاساءة أو الحاق المضرة أمّا اذا وقعت ثروة الالفاظ بين يدي شخص سافل فحدث ولا حرج
ولم يبالغ تشيخوف عندما قال إن الحضارة إذا اقتربت من سافلٍ صغيرٍ فسرعان ما يصبح سافلاً كبيراً، فالكتابة كمرتبة من مراتب التحضر الإنساني التي تعقب مرحلتي الكلام واللغة يمكن استخدامها كأبشع ما يمكن ان يكون اذا وقعت بين يدي سافل من ذوي الأصوات العالية والضمائر الخرساء وما اكثرهم...! وللاسف الكثير منهم يتصدّرون المشهد الثقافي في مجتمعاتنا حيث تنهار القيمة الابداعية امام سطوة الظاهرة الاعلامية فاذا بالكتابة تتحول من وسيلة للتنوير والتوعية وتحفيز الضمائر بين ايادي بعض السفلة تتحول الى وسيلة للامتهان وتزوير الحقائق والاجرام في حق مجتمع بأسره وما أكثرهم أولئك الذين يضطهدون اقلامهم ويجرمون في حقها بعدم استغلالها فيما يمكن ان يفيدهم ويفيد الاخرين


عالم المفردات بحر لا نهاية ولا قرارله وفيه ما يكفي لاقامة مهرجانات وحدائق وناطحات سحاب من الكلمات ,لكن مهما بلغت درجة الترف والبذخ اللغوي فهي لا تعني شيئا اذا غاب المعنى أو تصدّع والكتابة ليست مجرد فراسة وشطارة في رصف الحروف بل يلزمها كمّ لا بأس به من الشقاء والمعاناة والأخلاق ويلزمها أيضا وعي وايمان بأنها فعل مقدّس لكن هيهات هيهات








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا