الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوضة ضلمة

فاتن واصل

2014 / 12 / 22
الادب والفن


دخلنا من باب قاعة العرض، مجموعة من الأصدقاء جاء البعض منا مضطرّاً والبعض الآخر متحمِّسا، همس أحدهم معلقا على كآبة المكان والتراب الذي يعلو كل شيّء وضعف الصيانة وسوء الاضاءة لاحتراق بعض اللمبات .. هالة هي الوحيدة التي كان يكسو وجهها مشاعر الانبهار.. تتأمل اللوحات وكأنها تغوص بداخلها. نظرت نحوهم معاتبة ومحذرة ألا يزيدون، خشية أن يسمعهم الفنان صاحب المعرض، وهو واحد من أعز أصدقائي وقد تعبت جدا في إقناعه أن يحرر لوّحاته التي كان يرسمها ويحتفظ بها، وحين أساله:
- أين هي ؟
يطلق تعبيرا كما لو كان شعارا :
- حابسها في أوضة ضلمة .
لذا لم أكن أريده أن يزداد يأسا فوق يأسهِ. وقفوا يتأملون اللوّحات بألوانها الداكنة، يغلب الغموض والحزن على الوجوه المزدحمة داخلها.. خطوطه المحددة باللوّن الأسود المستقيمة والمنحنيّة ، تختبئ تحت غلالة من الألوّان الضبابية المعتمة وجوه بائسة أو مشدوهة.. ممتعضة مفزوعة أو صارخة .. ليس لديه وجه سعيد، أيادي ممتدة في ظلام عميق وأحداث متزاحمة متراكبة ..ألوان تتفجر كينابيع النيران.. عوالم كابوسية ، فنرى سلما حلزونيا وقد نبت في رأس أحد شخوصه المخيفين، أو دلواً وقد انبثق من مركز قرص شمس.
تركت أصدقائي يعبِّرون عما لديّهم من إنطباعات ولم أتحدث، فقد كنت أقارن بين رؤيتهم ورؤيتي، إذ سبق لي أن رأيّتَ هذه اللوّحات من قبل، وربما عاصرت بعض الظروف التي دفعت عمّار - وهذا هو اسمه – لكي يرسمهم.
تلفتت حولي باحثة عنه فلمحته يقف في إحدى الزوايا يتجنب أن يسمع التعليقات الساذجة المُحبِطة أو أن يلمحْهُ أحد الضيوف فيكون ذلك مدعاة للمجاملة.
أعرفه جيّدا وعلاقتي به ممتدة منذ سنوات طويلة.. خجول إلى درجة أظن معها أنه يرغب في الاختباء، شديد الذكاء رقيق مرهف الحس يعبر عن آراءه ساخراً وهيّ طريقته في التعالى على المواقف وتعليقات الناس، فتظهر ابتسامة في زاوية فمه تتوارى سريعا لتعود عيناه المستديرتان المكحّلتان لدرجة القسوة إلى صلابتهما وتجمد النظرة فيهما من خلف نظارة ذات إطارات سوداء تزيد من التجهم اللا إرادي لملامح وجهه النحيف.
ابتسمت له من بعيد بنظرة متساءلة يفهمها هو :
- هل أقترب لتتعرف على أصدقائي ؟
أوّمأ لي بالنفي بحركة خفيفة من رأسه بالكاد لمحتها فتركت له الحرية.. زوجته تتحرك كثيرا تحاول إثبات وجودها وجذب الاهتمام طوال الوقت، وإذا لم تنجح، تدير رسائل تليفونها الصوّتيّة الناطقة بلغة غير معروفة قد تكون الروسية أو الأسبانية، لتستمع اليها بصوت مرتفع يسمعه الجميع، ألقيت عليها التحية من بعيد فقد كنت أعرف أنها لا ترتاح لوجودي.
انفصلت هالة عن باقي المجموعة وظلت تتحرك داخل القاعة وحدها وتتأمل كل لوّحة على حدى، أخرجت قلما ودفتر أوراق صغير من حقيبة يدها، وأخذت تدوِّن ملاحظات من حين لآخر، تتراجع للخلف لترى اللوّحة من بعيد ثم تقترب لتتبين التفاصيل.
مر الوقت وأنصرف معظم الحضور المحدود أصلا، فالاقبال على الفنون وخاصة الرسم والتصوير الزيتي تضاءل بشدة في الآونة الأخيرة ولا سيّما أن صديقي ليس له جوقة من الأبواق التي تقوم بعمل الدعاية له مثل فنّاني هذه الأيام.

قرر الأصدقاء الذهاب لأحد المقاهي القريبة الكائنة بوسط القاهرة وانتظارنا هناك، وفضلت هالة البقاء معي

اقترب عمّار من مكان وقوفنا، وسأل بصوته الرخيم الهادئ وبابتسامته الساخرة موّجِهاً الكلام لهالة مشيرا لدفترها الصغير:
- إسمي مكتوب ؟
لم أفهم أنا سؤاله ولكن هالة ضحكت وقالت :
- إسمك بس اللي مكتوب.
قدمت كلاهما للآخر، فانطلقا فورا في الحديث كما لو كانا صديقين قديمين.

قالت له : عوالمك مخيفة
قال لها : أنصحك ما تدخليش
قالت له : مش قادرة أقاوم
قال لها : خلاص سيبك من الخوف، وعموما هي مش بتعضْ.
قالت له : لكن حزينة أوي.
قال لها : طبيعي .. انتي شايفة حاجة تانية في واقعنا؟

استمر حوارهما بلا انقطاع لقرابة الساعة، من الجائز أنه للمرة الأولى يلتقي عمّار بمن نجحت في فهم أعماله ووضعت يدها على مكامن الجمال فيها.. وقفت معنا زوجته لدقائق مرت عليها ضجرة ثقيلة ، طلب منها بأدب أن تتصرف بحريّة وأن تعود للبيت لو أرادت، قائلا أن لديه " شوية مشاوير " بعد وقت العرض سيقوم بها، فوافقت على الفور وحيّتنا موّدِعَة ببرود ثم ذهبت.
سألني : مروّحة ؟
رددت: لا رايحة القهوة أصحابي هناك.
فقال: طب أمشي معاكم لحد القهوة وبعدين أروّح.
سألته مندهشة : مش قلت لناتاشا ( زوجته) عندك مشاوير؟
فغمز بعينه وارتسمت ابتسامة خفيفة في زاوية فمه، وللمرة الأولى أرى وجهَه يضجُ بالسعادة ويظهر عليه تعبيراً طفولياً مشاغباً . فضحكت.
مشينا ثلاثتنا أنا وهالة وعمّار طوال الطريق للقهوة إندمج الاثنان في حديث طويل للدرجة التي نسيا معها أني أرافقهما.
تركتهما يسبقاني بعدة خطوات فلم يشعرا، مرّا أمام القهوة ولم يدخلا، فوقفت بمكاني أنتظر أن تنتبه هالة أنها قد عبرت المكان الذي نقصده بعد لحظات التفتت وأومأت لي برأسها إيماءة فهمتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحياتي للكاتبة فاتن واصل المحترمة
ليندا كبرييل ( 2014 / 12 / 23 - 04:29 )
عزيزتي الكاتبة فاتن واصل

الفنان له عالم خاص يحتاج إلى منْ يفهمه، وهو لا يستطيع أن يكذب، فمهما حاول الالتفاف فإن أعماقه تبوح بما يعتريه بين مشهد وآخر

الفنان يريد أن يُبلِغ رسالة للمتلقي، والمشكلة أن المستوى الذهني عند القارئ أو المشاهد للعمل الفني لا يساعد على استيعاب الخطوط الهامة

في الجزئيات الصغيرة يكمن الإبداع، ولا تكتشفها إلا العين الخبيرة المثقفة
وقد جاءت الفرصة لعمّار ففتح قلبه ونسي نفسه وهو يحدث هالة عن رؤاه، ونسيت هي نفسها وهي تفتح عقلها لتتلقى زخم إبداعٍ جديد

حتماً وجود إنسان مثقف مدرك ومقدّر للعملية الفنية تساعد الفنان على الإبداع وتكون إلهاماً ودافعاً لأعمال رائعة
المحرك.. نحتاج إلى المحرك والدافع

الفضل لبطلة القصة التي اصطحبت أصدقاءها فجاءت الفرصة لهالة وعمار لتنتج في المستقبل عملاً ممتازاً دون شك

مع تمنياتي بالصحة والسعادة مع اقتراب العام الجديد
تفضلي تقديري


2 - واقع
طلال سعيد دنو ( 2014 / 12 / 23 - 05:32 )
سيدتي الرائعة
احس انك نقلت واقعا مريضا واعطيته احساسك فاصبح جميلا
تحية لقلمك


3 - الأساتذة المعلقين الكرام
فاتن واصل ( 2014 / 12 / 24 - 05:35 )
الاستاذة ليندا كبرييل الكاتبة الرائعة
شرفت بمرورك وتعليقك الجميل ، كانت لك قراءة متعمقة في أقصوصتي أضافت لها أبعاداً أخرى جديدة، شكرا على مرورك والتعليق وكل عام جديد وأنتِ وأسرتك بألف خير .

الأستاذ الفنان طلال سعيد دنو
مرورك أسعدني وتعليقك المختصر ( جدا ) أثرى الأقصوصة فلك ألف شكر وعام سعيد.


4 - شمس الحرية التي لا تشرق في الشرق
الحكيم البابلي ( 2014 / 12 / 24 - 07:07 )
أنيقة الفكر السيدة فاتن واصل
أحداث قصتك القصيرة نقلتني بصورة لا أرادية إلى أجواء حياتنا الإجتماعية في الستينات والسبعينات والتي كانت أجواءً رقيقة شاعرية ذهبت مع زمنها ولن تعود لإن زمن الصبى نفسه لن يعود
الروح الكئيبة والصفات التي رسمتيها بقلمك المُبصِر للفنان بطل القصة كانت قريبة جداً جداً من ملامح وشخصيات أغلبنا أيام مراهقتنا وشبابنا، يوم كان الواحد مِنا محروماً تقريباً من الحب والجنس والعلاقات اللذيذة الحُرة بين الجنسين والتي كان قد حَجَر عليها مُجتمع يومذاك وتقنينه لكل شيء يتعلق بالعلاقات بين المرأة والرجل

شخصيات كئيبة كهذه نادراً ما نُصادفها في المجتمع الغربي الحر الذي لا يرى في العلاقة بين الشاب والشابة أموراً تدخل في باب (الحرام والعيب والخطيئة والبطيخ) ، ولهذا تنشأ وتنمو المجتمعات الغربية في أجواء مُشمسة معافاة وبدون عقد نفسية مُدمرة تُلاحق شخصية الإنسان طوال حياته وتقف حجر عثرة في أغلب الأحيان أمام وصوله لعوالم السعادة والبساطة بتجرد وبدون تعقيدات
كم أود لو عاد بيَ الزمن إلى أيام الستينات والسبعينات ولكن ... في مجتمع دولة غربية لا تغيب عنها شمس الحرية
عيد سعيد وسنة مباركة


5 - الأستاذ الحكيم البابلي المحترم
فاتن واصل ( 2014 / 12 / 24 - 15:45 )
سعدت بصدفة أن بطل أقصوصتي يتشابه مع شخصيتك ، الفارق فقط أن بطلي متزوج من إمرأة روسية وحضرتك تتحدث عن مرحلة المراهقة والشباب .. اما بالنسبة لأمنيتك فأرى أنه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ، لذلك فستظل مجرد أمنية أو حلم لم يتحقق.
سعدت بمرورك والتعليق.


6 - رمية في خيال متمرس
حامد حمودي عباس ( 2014 / 12 / 24 - 19:39 )
نتاشا الروسية.. لابد وانها تيقنت من اصابة علاقتها بزوجها عمار بالعقم ، فهي غير مهتمة بما فيه من سقم جعله معزولا وبهذا الشكل المفضوح لمن حوله ، مسرورة بموقفها هذا بعيداً عن الشعور بالحرج .. ( هالة هي الوحيدة التي كان يكسو وجهها مشاعر الانبهار.. تتأمل اللوحات وكأنها تغوص بداخلها ).. ذلك لكونها هي الوحيدة التي قرأت اعماق عمار ، واستطاعت وبعقل متحفز ركوب متن ما في شخصيته من يأس وما يلف روحه من انطواء ، استطاعت ان تقتحم عوالم الرجل وحيدة ، حيث لا يوجد متسع للاخرين من الدخول في متاهات نفوس الغير ، وهذا هو طابع عالم اليوم .. اروع ما شدني في القصة ، هي تلك اللمحات التي تصف عمار وهو يقف بعيداً عن الجمع ، وكانه يمخر عباب افكاره دون رقيب .. فالوحدة ، وفي كثير من سماتها ، تجلب السعادة لصاحبها حين تأتي باختياره من حيث الزمان والمكان ..
بكلمة واحده .. القصة هي من نسج خيال يحمل في ثناياه امتلاك فني متمرس في وخز الكثير من زوايا الحس الانساني الواسع .. تحياتي للسيده فاتن ، وكل عام والجميع بخير .





7 - الأستاذ الكاتب والفنان حامد حمودي عباس
فاتن واصل ( 2014 / 12 / 25 - 10:04 )
كلماتك داخل التعليق كالمياه الصافية حين تترقرق بدلال بين ضفتي نهر عذب صغير، وليس لأنها تحمل من الثناء ما أخجلني وإنما بسبب أن من خطّها هو بالأساس فنان، يتسرب الجمال مع مداد قلمه بتلقائية دون عوائق... كل الشكر لتثمينك لأقصوصتي وتحياتي مع التمنيات بعام سعيد لك ولأسرتك الكريمة.


8 - الأستاذ الكاتب والفنان حامد حمودي عباس
فاتن واصل ( 2014 / 12 / 25 - 10:04 )
كلماتك داخل التعليق كالمياه الصافية حين تترقرق بدلال بين ضفتي نهر عذب صغير، وليس لأنها تحمل من الثناء ما أخجلني وإنما بسبب أن من خطّها هو بالأساس فنان، يتسرب الجمال مع مداد قلمه بتلقائية دون عوائق... كل الشكر لتثمينك لأقصوصتي وتحياتي مع التمنيات بعام سعيد لك ولأسرتك الكريمة.


9 - الأستاذ الكاتب والفنان حامد حمودي عباس
فاتن واصل ( 2014 / 12 / 25 - 10:04 )
كلماتك داخل التعليق كالمياه الصافية حين تترقرق بدلال بين ضفتي نهر عذب صغير، وليس لأنها تحمل من الثناء ما أخجلني وإنما بسبب أن من خطّها هو بالأساس فنان، يتسرب الجمال مع مداد قلمه بتلقائية دون عوائق... كل الشكر لتثمينك لأقصوصتي وتحياتي مع التمنيات بعام سعيد لك ولأسرتك الكريمة.

اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر