الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زقنموت( رواية) 31

تحسين كرمياني

2014 / 12 / 22
الادب والفن


الشمس تختفي وراء الغيوم،مع طلعة الصباح،(ماهر)وأمّه خرجا ينشدان قرية(أم العاقول)،في كراج المركبات احتاجا إلى ساعة ونصف الساعة قبل أن تنطلق المركبة(ناقص نفر)نحو بلدة(خانقين)بعدما تقاسموا أجرة المقعد الفارغ،شاب نحيف ضامر العينين،كان به قلق،تبين أنّه مستخدم في دائرة،بسبب تأخره عن دوامه، أقترح عليهم الفكرة،وجدت أم(ماهر)العجلة في صالحها،فالغيوم المتراكمة غالباً ما تنذر بالمطر،لابد أن يعودا قبل الغداء.
***
(ماهر)عاندها كثيراً قبل أن يرضخ لمطلبها،حججه ودفاعه المستميت عن حالته فشلتا وقف نهر أحزان أمّه..قالت والدمع يغرق عينيها:
((يجب أن تفعل شيئاً ينقذنا،ماذا تقول الناس عنّا،شجرتنا ستموت أمام أعيننا،ماهر..لا تغرقني في بحر التعاسة،علاجك موجود،سمعت أنها تمتلك مواد نادرة،تلملمها من الأعشاب،لا تقتل نفسك بيديك،لا نخسر شيئاً،يكفينا نصف نهار كي نعيد الحياة لك ولتلك المصيبة ـ مها ـ إن كنت متشبثاً بعنادك وكسلك،حسناً سأذهب وحدي في الغد.))
((حالتي عارضة،هناك دليل على وجود حياة تسكنني.))
((الناس بدأت تقص عنك حكايات لا تسر.))
((نحن في الحرب،في الحرب تسقط أخلاق الكثير من الناس.))
((كلام الناس جراح عميقة ليست في أجسادنا،أنها جراح لا تبرأ في كتاب سمعتنا.))
((حسناً..سأرافقك ولكن هذا آخر ما تطرحينه علي.))
كادت أن تضحك،(ماهر)خرج من غيمته وطل عليها،غداً تمنت أن يأتي بعد لحظات.
***
في انعطافة الشارع الرئيس قرب معبر كونكريتي نزلا،منخفض ينحدر ليغدو وادياً،عليهما أن يهبطا ويصعدا قبل أن يلتمسا ممراً ترابياً متعرجاً يجانب مرتفعات جبلية مفككة.
أمسك(ماهر)يد أمّه وهبطا المنخفض،صعدا بعسر إلى الممر الترابي،سارا صامتين،كانت البيوت تبدو نقاط سود متناثرة،التفت(ماهر)بدا كمن يشعر بـ ظلال تطارده،رصدت أمّه فزعاً غريباً يستوطنه،شاركته حيرته، ظلّت كلما يلتفت تلتفت معه.
((ماهر..أهناك ما يخيفك.؟))
((لا أعرف.))
((المكان خالي من الكلاب.))
((هناك كلاب من نوع آخر تتبع الناس في أسفارهم.))
((وهل توجد كلاب أجنبية تراقب الناس.؟))
((كلاب محليّة تعيش على أرواح الناس.))
((لكن كلاب ـ جلبلاء ـ تم إبادتها في الحملة الوطنية الشاملة.))
((كانت تزعج الناس في الليل،جناب الحكومة قتلتها كي تنام الناس بأمان تحت حراسة كلاب أمناء.))
((في قريتنا كانت الكلاب كلّها أمينة.))
((هناك كلاب أكثر إخلاصاً تسهر ليل نهار تراقب العدو.))
((ماهر..هل شردت بعض الكلاب إلى الجبال.؟))
((حكومتنا لا تفلت من مخالبها نسمة هواء عابرة.))
((وهل شملت الحملة كلاب القرى.؟))
((فقط كلاب البلدات.))
توقف(ماهر)وألتفت،تابعته أمّه،كان الشارع بعيداً:
((كف عن هذا.؟))
((الكلاب..))
((لا توجد كلاب..))
((أخشى أنها تراقبنا.!))
((لم أسمع نباحاً حتى هذه اللحظة.))
((أنها لا تنبح يا أمي،أنها تعض وتميت سراً.))
((ماهر..لا تقلقني.؟))
((يجب أن نحترس منها.))
برك جالساً وراح يمسح ما حوله بنظرات قلقة:
((ماهر..أجننت.؟))
((يا أمّي..أبحث عن الكلاب.))
((أيّة كلاب.؟))
((كلاب السلطة.!))
((ولم تصرخ.؟))
((آه..أنها تطاردني.))
سحبت نفساً عميقاً:
((لكننا خارج البلدة.))
((ضابط الأمن أكد لي أنه سيراقبني ليل نهار.))
((وهل أنت معارض كي يراقبك.؟))
((هو قال لي هذا الكلام.))
أنهضته وسارا من جديد.
مدير الأمن كان جازماً في كلامه،لم يفصح أكثر مما قال،ستطارده العيون،ربما سيداهم في البيت،ستؤخذ أوراقه لتفسير أشعاره،سيقلبون الكلمات،سينبشون المعاني،سيعيدون تشكيل أحرف الكلمات في جمل أخرى تخبئ أفكار هدّامة.
الحياة تمضي كسلحفاة هرمة،حياة كل المدن تتساوى تحت سطوة الحرب.
ما الذي يفعل،ها هي الأيّام تنقرض،لم يجد دافعاً أن يلوّث نفسه بمهرجان قصيدة تحرق بقايا روحه،ظلّ يمشي،يتلفت،أمّه تسحبه تارة وتارة يسارع في خطواته،وصلا منبطحاً أرضياً،وجدا كهلاً يرتمي على ظهره،جلس يحدق فيهما:
((أأنت هو.؟))
((أنا..))
((لا..لا..لا..أنك لا تشبهه.))
((من تقصد يا عم.؟))
((هو..))
((أهو أبنك.؟))
((أهو أبني.!))
((أهو يشبهني.؟))
((أهو يشبهك.!))
((ومن هو الذي تبحث عنه.؟))
تدخلت أم(ماهر):
((هل أنت من هنا يا عم.؟))
((أنا من هنا..نعم من هنا،وهل ألقتني طائرة العدو لأكون ليس من هنا سقط سهواً هنا.))
((أأنت من ـ أم العاقول ـ ))
((أنا من قرية أم العاقول))
قال(ماهر):
((أأنت من قرية ـ ماجد شبوط ـ .؟))
((وهل تعرفه.؟))
((كان جندياً معنا رحمه الله.))
((رحمه الله،ومن قال أنه مات كي تطلب له الرحمة.))
((أنه أحترق داخل الحافلة.))
((أحترق داخل حافلة..!))
((يوم عدنا من ميدان الرمي انفجرت رمّانة يدوية وأحترق مع الحافلة،ألم تسمع بالخبر.))
((لا تهرف يا بني،ماجد شبوط لم يحترق.))
((أنه كان معي،رأيت فحمه.))
((لست على صواب في ما تقول.))
((أنا متأكد من كلامي.))
((وأنا متأكد من كلامي أيضاً.))
((لكنه أحترق.))
((ربما شبيه.))
صمت(ماهر)يحدق في عيني كهل ينطق صراحة،يحاول أن يسترجع تلك اللحظة،(ماجد شبوط)كان معهم أثناء الرمي،شاب كثير الضحك،لا يعيش لحظة من غير مقالب ومزاح،أحقاً ما جرى وما يجري جملة ملابسات خلطت أوراق ذهنه،ظلّ يبحث عن مخرج،رصد الكهل حيرته،قبل أن يسعفه:
((صحيح كان جندياً.))
((أنه أحترق كما جاء في أوامر القسم الثاني.))
((دعك من قضيّة الاحتراق،أنه ما زال حي يرزق حسب أوامر الواقع.))
((أكاد أشعر بدوار يا عم.))
قالت أمّه:
((لسنا في حساب وكتاب،دعنا نكمل مشوارنا.؟))
((ماجد..ما زال يعيش.))قال الكهل.
قالت أمّه:
((دعنا من ـ ماجد ـ إن كان هو أو هناك من كان يشبهه،كل إنسان له أربعين شبه.))
((وهل بوسعي رؤية ـ ماجد ـ ))قال(ماهر).
((موجود..))
((لن أصدق ما لم أتأكد،ولو تأكدت هل بوسعي أن أتحمل صدمة رؤيته.؟!))
((يمكنك أن تراه.))
قالت أم(ماهر):
((جئنا نطلب أم الأعشاب.))
((زوجتي..))
((زوجتك))قال(ماهر).
((زوجتي تمتلك خبرة نادرة في علاج مستعصيات العلل.))
((جئنا نطلبها))أجابت أم(ماهر).
صمت.
نهض الكهل،بدأ يخطو متعكزاً و(ماهر)يمسك يده،عند الظهيرة وقفا على مرتفع،كانت البيوت تتناثر،جملة صبيان وصبايا يلهون،أشار الكهل بأصبعه:
((ذاك بيتنا.))
((هل بوسعنا مواصلة السير.؟))
((أشكو من مفاصل ليس بوسعي السير كثيراً.))
((لا نملك الشجاعة كي نذهب.))قالت أم(ماهر).
((حسناً لنلتقط بعض الأنفاس قبل أن ننطلق.))
جلسوا صامتين،كان الرجل الكهل،يرمق أم(ماهر)لحظة تنبهت لنظراته شعرت بخوف.
بتر(ماهر)الأمور:
((يبدو أنك شخت قبل الأوان.))
((عندما نعيش زمن الحرب أعمارنا تسبق الزمن.))
((كيف تعيشون في هذا القفر.؟))
((تلك قصة طويلة،نحتاج لذاكرة طرية كي تسرد خلفياتها.))
صمت.
((أأنت من الأصليين في ـ جلبلاء ـ ))
((أنا سليل رابع أربعة بيوت سكنت البلدة.))
((كل من تلتقيه من أبناء البلدة يقول هذا الكلام.))
((أنا سليل بيت الدين يا عم.))
((وهل في البلدة دين كي يكون له بيتاً.))
((أتعرف صاحب الكرامات.؟))
((هناك جملة أنفار ينسبون أنفسهم لأصول كريمة.))
((لكن جدّي تعرفه الناس.))
((وأنا لا أعرفه.))
((ربما لم تزره.))
((زرت الكثيرين منهم،كنت من باب الخير أرافق طوابير الناس إليهم.))
((أما ألتقيته.؟)
((من.؟))
((جدّي أبو الكرامات.))
((كلهم أصحاب هذا الإدعاء.))
((لكن جدّي تشهد له الناس،وهو من أشفى أبي من وجع رأسه.))
فتح الكهل عينيه،وقرأ عيني(ماهر)،وجد جواباً لسؤال قديم،نقل نظراته إلى أم(ماهر).
((أأنت أبن الرجل الذي دهس.؟!))
((أتعرفه.؟))
((هناك الكثير من الشبه بينك وبينه.))
((أتعرفه.؟))
((قل لي هل أنت أبن عبد الكريم عبد الخالق.؟))
((أنا أبنه.))
((أحقاً أنت أبنه.؟))
((وكيف عرفت.؟))
((خطب بنتاً من ـ تل الجن ـ كان على أنفها خال.))
تدخلت أم(ماهر):
((أكنت من رافقه.؟))
صمت.
دمعت عينا الكهل،وجده(ماهر)يمسح دموعه،أراد أن يشاركه البكاء،تعذر عليه استدرار دموعه.
((كان نصفي الذي ضاع.))
((أكنت صديقه.؟))
((نعم..رأيته كيف مات.))
صمت.
قاموا وساروا نحو البيوت،دخلا غرفة طينية،بعد دقائق دخلت امرأة في الـ ستين،تحمل طاسة لبن،قال الكهل:
((هذا ـ ماهر ـ أبن صديقي عبد الكريم وهذه أمّه بنت صاحب الكرامات.))
((أيهم.؟))
((أبو ـ تل الجن ـ ))
((وهل أمه مسكت الطريقة.))
تدخلت أم(ماهر):
((كلا..البلدة أتعبتني وضعّفت ذاكرتي.))
((هذا بيتكم،لا تشعروا بالغربة.!))
خرجت المرأة.
بعد دقائق لم يجد(ماهر)نفسه إلاّ واقفاً،شخص وقور يتلفلف بعباءة دخل عليهم الغرفة:
((لا تقل أنك خرجت من الحريق.)).صرخ(ماهر)
((كيف حالك ماهر.؟))
((كما تراني بلا يد.))
((كان يجب أن تهرب.))
((قل كيف نجوت.؟))
((قصة طويلة أخشى أن تشيع.))
جلسا معاً..قال الكهل:
((أنا وأبوه كنّا زملاء عمل.))
قال(ماجد):
((ها نحن الأبناء نكمل سلسلة حقائق الحياة.))
((كيف نجوت وماذا تعمل.؟))
((في التهريب،أهرّب الفافون إلى الشمال.))
((كان يجب أن تخبرني كي أكون جنبك.))
قالت أم(ماهر):
((فقدان يدك أهون علي من الهروب.))
((وحالتي))قال(ماهر).
دمعت عينا أمه،رأى(ماجد)صبغة الذهول تغلفهما..قال:
((ماهر..هل من شيء.؟))
((تلك قصة طويلة.))
دخلت امرأة،قال(ماجد):
((خالتي..أم زوجتي))
(ماهر)عاش غيبوبة،أمّه ظلّت فاتحة فمهما،وجد الكهل منظراً حرّك لسانه:
((خبرونا عن الذي يحصل.؟))
قال(ماهر):
((هي من بلدتنا،أم ـ ماجدة ـ ))
جلست المرأة بعد جملة ترحيب،كانت تنظر بـ عين متسائلة في عيني أم(ماهر).
قال(ماجد):
((ماجدة زوجتي في المطبخ.))
بلع ريقه،قام الكهل:
((حان موعد الصلاة.))
انشغلا(ماهر)و(ماجد)بحوار الذكريات،متذكراً قول الآمر بخصوص وقف تراشق الأدبار في ساحة العرضات برحيل(ماجد)،كلام نقله(موحان)على الساتر،قبل أن يرحل منحوراً،قد يفاجئ في يوم ما بـ(موحان) عائداً من الموت،ما الذي يجري في بلاد تحارب،هل الشهداء حقاً أحياء يرزقون ويعودون متى يشاءون إلى الدنيا كما يرغبون،كلام مر بخاطره،ها هو(ماجد)بلحمه ودمّه يجلس لصقه،وإن كان غير ذلك الإنسان المرح،صاحب المقالب،كيف نجا.؟ألم يكن داخل الحافلة التي احترقت.؟
كانت أم(ماهر)مع أم(ماجدة)تتهامسان..قالت أم(ماجدة):
((مجيئكم يحيرني.))
((لم نجيء من أجل ما حصل.))
((هذا شيء لم يحصل.))
((كلا لم يحصل.))
((الماضي غبار فليذهب مع الريح.))
((يا أختي لم نتوقع هذا حين قررنا أن نجيء.))
((سأفهمها الأمور.))
((مجيئنا من أجل ماهر.))
نظرت إليه..قالت:
((فقد الكثير من حيويته.))
((ليت الأمر كان متعلقاً بحيويته.))
((ويده..))
((لم يعد يتذكر كيف بترت يده،كانت ليلة دامية عليهم.))
قامت وخرجت.
عاد الكهل.
((الغداء جاهز..))
سقطت طاسة الماء من يد(ماجدة)،ظلّت ناحتة عينيها في عيني(ماهر)،لسان حالها ينطق(هلو ماهر)، عالج(ماجد)الأمر:
((ماجدة..خجولة دائماً تسقط شيئاً في حضرة الغرباء.))
صمت.
قال الكهل:
((الماء يهون،أنه فأل خير،المهم أنها لم تحرمنا من الطعام.))
تناولوا الغداء.
عندما صبّت(ماجدة)الماء على يدي(ماهر)..همست:
((لن نعرف بعضنا،أليس كذلك.))
صمت.
((ما حصل لم يحصل.))
صمت.
((هل فقدت لسانك أيضاً.؟))
صمت.
((هل تزوجتها.؟))
تحرك لسان(ماهر):
((ليس هذا وقت كلام.))
((بل وقته..))
((ماجد..كان أخي.))
((لم يحصل شيء بيننا هذا ما أريده.))
((وأنا أيضاً أريد هذا.))
قام ودخل الغرفة.
(ماجد)حكى قصة هروبه،السيد الآمر،كان أبن شيخ عشيرتهم،ربط مسمار رمّانة يدوية مهيأة للتفجير داخل أحدى اليطقات في مؤخرة الحافلة،رتب له الأمور وأعطاه ورقة إجازة كي يتخلص من السيطرات وأفواج رجال الانضباط ببيرياتهم الحمر وهم يشغلون الأسواق ورؤوس الأزقة بحثاً عن الفارّين من الحرب.
وجوده في قرية أم(العاقول)وفر له الأمان،لعدم تواجد جواسيس من جهة،ومن جهة رجال السلطة حضروا مأتمه يوم أشيع موته محترقاً،ومن يومها قفلوا عدساتهم التلصصية عن بيوت تقطن وادي يعج بنبات (العاقول).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل